كتَّاب إيلاف

أمريكا وديمقراطية العراق: قصور في الرمال

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بات واضحا أن انجاز مسوّدة الدستور في موعدها المحدّد في (قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية)، ومن دون الافادة من مدة الأشهر الستة التي يسمح بها هذا القانون، هو مطلب أمريكي بالدرجة الأولى. بات واضحا مدى الضغوط التي مارسها السفير الأمريكي في بغداد على لجنة كتابة الدستور في الجمعية الوطنية وعلى الأطراف العراقية المعنية لكي تلتزم بالموعد المحدّد. هذا الأمر لا نتكهن به، ولا يستنتجه ذكاؤنا، بل باح به أعضاء في لجنة كتابة الدستور، على الملأ وأمام وسائل الاعلام.
دعوني أُضف لكم شيئا جديدا : لقد كشف لي أحد أعضاء لجنة كتابة الدستور عن كتلة (الائتلاف العراقي الموحّد) أن (الائتلاف) (وهو أكبر كتلة في البرلمان العراقي) عقد اجتماعا قُبيل 1 / 8 (الموعد الذي ينبغي فيه للجمعية الوطنية ـ بحسب " قانون ادارة الدولة " ـ أن تبلغ مجلس الرئاسة بأنها ستنجز مسوّدة الدستور في 15 / 8 أو أنها تحتاج الى ستة أشهر أخرى)، قرّر فيه أن يمدِّد كتابةَ الدستور الى ستة أشهر. ولكن (الائتلاف) فوجئ، في اليوم التالي، بـ (قرار) بأن مسوّدة الدستور يجب أن تُنجَز في 15 / 8. هكذا، بكل هذا الغموض الصريح: قرار... يجب... ولكن، قرار مَن هذا؟ ولِمَ يجب كل ذلك؟
لا أريد أن أزايد على وطنية أحد من لجنة كتابة الدستور أوالجمعية الوطنية ولا على وطنية مصادر القرار في عراق ما بعد الدكتاتورية، وأنا لا أنتمي الى الثقافة السياسية التي تفترض أن الخضوع الى ارادة أجنبية ما هو شكل من أشكال العمالة وثلم في الوطنية، فقيمة الوطنية السياسية أعقد من هذا التبسيط الأخلاقي، انها ترتبط ببراغماتية سياسية وبرؤية عملية لآليات مصلحة الوطن وبحساب توازنات القوى المؤثرة في كيان الوطن.
المسألة ليست في أن نقرر (أو نرفض) أن ثمة قرارا أمريكيا على الأطراف العراقية المعنيّة بأن تُنجِز مسوّدةَ الدستور في الموعد المحدّد. وأمريكا هي اللاعب السياسي الأول في العراق، لا لأنها قوة عظمى حسب، بل لأنها وضعت العراقيين أمام مديونية أخلاقية عميقة : أنها خلّصتهم من الدكتاتورية، وأنها تسهم في الحفاظ على أمنهم، وأنها أعطت أكثر من ألفي جندي في سبيل ذلك، وأنها تنفق مليارات الدولارات لكي تحمي حلمها في العراق.
ولكن السؤال هو: لماذا تصرّ أمريكا على المواعيد الزمنية التي رُسمت سلفا، في (قانون ادارة الدولة) أو سواه؟ أمريكا التي أصرّت على أن تُقدَّم مسوّدةُ الدستور في موعدها المحدّد هي نفسها التي أصرّت سابقا على أن تجري الانتخابات النيابية في الموعد المحدّد في 30 / 1 / 2005، وهي نفسها التي ستصرّ على أن يجري الاستفتاء على الدستور في موعده المحدّد في 15 / 10، وأن تجري الانتخابات النيابية القادمة في موعدها المحدّد في كانون الأول القادم، وأن تتشكل حكومة جديدة في موعدها المحدّد في كانون الثاني القادم، كل ذلك بغض النظر عن أية عواقب سياسية محتملة.
هل تعدّ أمريكا هذه المواعيد مواعيدَ مقدّسة؟ الأمر ليس بهذه البساطة، ولكن يبدو أنها تعدها (أوتعدّ الالتزام بها) شكلا من أشكال حل الأزمة في العراق.
ثمة فصل داخل بناء الديمقراطية في العراق بين (الشكل) و(المحتوى)،.. بين (الشكل الديمقراطي) و(المحتوى الديمقراطي)، فأمريكا تريد للشكل الديمقراطي ـ من مؤسسات سياسية وبرلمان ودستور وحياة حزبية وانتخابات ـ أن يتم حتى وان كان المحتوى الديمقراطي متعثرا وبطيئا. لقد أصبح التصوّر الاستراتيجي الأمريكي الراهن ينطلق من فرضية أن اكتمال الأجندة السياسية (أو المواعيد على نحو ما رُسمت في " قانون ادارة الدولة ") يعني تقدّما في عموم العملية الديمقراطية في العراق، حتى وان تعلّق الأمر بالشكل لا بالمحتوى. فالمحتوى الديمقراطي معقّد، والتقدم فيه عسير جدا، لأن الديمقراطية ممارسة ولا تُنقَل من حيث هي نموذج جاهز، في حين يمكن بناء أشكال ديمقراطية.
هذا يفسِّر لمَ تغضّ الولايات المتحدة النظرَ عن مسودة الدستور العراقي ومحتواه، بما تتضمنه من نَفَس ديني بيِّن، في مقابل الاصرار على أن تُنجَز مسوّدةُ الدستور في الموعد المحدّد، ذلك أنها تعتقد أن اكتمال المؤسسات الديمقراطية هو المهم الآن، وأن الموقف من الدين والقيم المدنية سيتطور ببطء مع تطور الممارسة الديمقراطية.
ربما تكون الولايات المتحدة قد فوجئت، وقد وضعت كل بيضاتها في السلّة العراقية، بأنها أمام بلد لم تفهمه جيدا، أو أنها لم تفهمه الا فهما مخطوءا وناقصا ومضلِّلا الى حد كبير : لم تكن تتصوّر أيَّ حضور للمؤسسة الدينية عند الشيعة، ولم تفهم أي نمط من العلاقة بات يحكم الفرد بالدولة في العراق، ولا سيما بعد حادثين كبيرين أثّرا في بنية المجتمع العراقي : الحرب والحصار، لم تدرك أمريكا أيةَ سلبية خلّفتها الدكتاتورية في الروح العراقية، ولم تفهم ولم تتوقع أشياء كثيرة، فهذا البلد ـ المعقّد في تأريخه وتكوينه الاجتماعي وارثه السياسي ـ لا يبدو أن أمريكا امتلكت عنه معطيات أوفرضيات معقولة تؤهلها لأن تسير فيه على أرض صلبة. ولعلي واثق من أنها لم تكن تتصوّر أبدا ـ لحظةَ اتخذت قرارَ شن الحرب واسقاط نظام صدام ـ أن يكون دستور (العراق الديمقراطي) بهذه الدرجة العالية من النَفَس الديني، مثلما لم تكن تتصوّر أن يكون زعيم العراق السياسي، في الوقت الذي يُكتَب فيه الدستور الدائم للبلاد، قياديا من حزب ثيوقراطي كان معارضا للحرب.
ثمة خطأ أمريكي مركَّب ومتداخل في العراق :
1 ـ فهي قد أخطأت في فهم العراق.
2 ـ وهي قد أخطأت في استجابتها له، أي في الاستراتيجيات التي اعتمدتها لحل الأزمة فيه.
3 ـ وأخطأت في كيفية التعامل معه، فجعلت منه (مختبرا) تجرِّبُ فيه آليات اعادة بناء دولة بعد أن تُهدّ بالكامل.
هل يكون التركيز على الشكل الديمقراطي ـ لا على المحتوى ـ خطأ أمريكيا جديدا؟
ثمة مَن يتصوّر أن اصرار الولايات المتحدة على موعد تقديم مسوّدة الدستور، وقبل ذلك على موعد الانتخابات، لا يدخل في باب الخطأ، بل هو جزء من محاولة خلق بروباغاندا يمكن لها أن تستعملها استعمالا سياسيا، ولا سيما في جدلها المستمر منذ ثلاث سنوات مع أوربا والعالم حول قيمة وشرعية الحرب على العراق : ها هي قيمة هذه الحرب اذن، مؤسسات دستورية وبلد وُضع على طريق الممارسة الديمقراطية.
هذا التصوّر يعزّزه أن الولايات المتحدة ـ على الرغم من ممارستها ضغوطا شديدة على لجنة كتابة الدستور وسائر أطراف اللعبة السياسية العراقية ـ تغض النظر عن (الخروقات الطفيفة) لـ (قانون ادارة الدولة) فيما يخص موعد انجاز مسوّدة الدستور. لقد قامت الجمعية الوطنية في يوم 15 / 8 (وهو اليوم الذي كان عليها أن تُنجِز فيه المسوّدة) باجراء تعديل على (قانون ادارة الدولة) يجيز لها أن تعمل اسبوعا آخر ويجعل الموعد النهائي لانجاز المسوّدة هو22 / 8 بدلا من 15 / 8. وعلى الرغم من الشكوك في شرعية هذا التعديل، أعلن حاجم الحسني رئيس الجمعية الوطنية، في يوم 22 / 8، أن مسوّدة الدستور قد أُنجِزت. ولكنه أقر ـ مع ذلك ـ بأن هناك ثلاث مسائل لا تزال عالقة ولم تُحسَم. وفي يوم 28 / 8، تلت لجنة كتابة الدستور على أعضاء الجمعية نصَّ المسودة التي اعتُمِدت. وقد أشار رئيس اللجنة الشيخ همام حمودي الى أن هناك مسائل ستُرفَع الى الجمعية الوطنية لتبتّ فيها. وبالمنطق البسيط : اذا كانت هناك مسائل (ثلاث أو أكثر) لا تزال عالقة، وأنها جزء من الدستور، وأنها جزء من الكل، وأنها لم تُنجَز بعد، فهذا يعني أن الدستور كله لم يُنجَز، في حين تنص الفقرة (أ) من المادة (61) من (قانون ادارة الدولة) ـ بعد تعديلها ـ على أنه " على الجمعية الوطنية كتابة المسودة للدستور الدائم في موعد أقصاه 22 آب 2005 ".
تغض الولايات المتحدة النظر عن هذا الخرق، فهي تريد أن ترى دستورا دائما للعراق، بأي حال من الأحوال وبأي ثمن، تريد للعراق أن ينجز هذه العتبة الضرورية لأي بناء ديمقراطي، حتى وان كانت على مستوى الشكل فقط. ولكنها لم تفكر بسؤال يشغلني أنا : اذا كان (الخرق الدستوري) لا يُعَدّ (خرقا دستوريا) لأن أطراف اللعبة السياسية راضية به، فمَن يضمن أن الدستور سيكون فاعلا اذا كانت الأطراف السياسية راضية بقوانين اللعبة السياسية؟ أية ضمانة لأن يشهد العراق حياة دستورية، ولعبة التوازنات السياسية يمكن لها أن تجعل من الدستور ورقة بلهاء في جيوب الساسة؟
لقد أُنجِزت مفردات البناء السياسي في العراق بحسب المواعيد التي أصرّت عليها الولايات المتحدة. ولكننا نكتشف، الآن، عنصرا جديدا في الاستراتيجية الأمريكية في العراق، هو أنها تجعل (الشكلَ الديمقراطي) أولويتَها الأولى، بغض النظر عن أية عواقب سياسية.
أما الديمقراطية فعملية معقدة. تدرك الولايات المتحدة ذلك جيدا.
ولعل من الأولى أن ندع الشكل ينمومع نموالمحتوى،.. أن يكون ثمة تطابق تأريخي بين (الشكل الديمقراطي) و(المحتوى الديمقراطي)، لا أن نجعل الشكلَ وهما لديمقراطية مفترضة. وسواء كان اصرار الولايات المتحدة على الأجندة السياسية المرسومة شكلا من أشكال البروباغاندا أو محاولة لاكمال المؤسسات الديمقراطية من حيث هي شكل فقط، أخشى أن نجد أنفسَنا ـ نحن العراقيين ـ لا نملك من الديمقراطية سوى قصور في الرمال.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف