كتَّاب إيلاف

البنية الاسطورة للقرآن الكريم(2)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"إن التوتر ما بين اساليب التصور وطرق تشكل المعارف والتعبير عنها ينبغي أن يُدرس دائما من خلال الأطر الاجتماعية التي تُنتج هذه المعارف والتصورات ومن خلال الضغوط السياسية التي تقود مختلف الفئات إلى إيجاد أجوبة تناسبها" (محمد اركون)

-1-
الظواهر ومن ضمنها الديانات لا يمكن أن تنشأ من فراغ وتؤسس الجديد بصورة تامة حتى لو أعلنت ذلك ، وهذا ما يمكن أن نجده في التراث اليهودي الذي أقتبس الكثير من موروثات سابقة عليه ومثله المسيحية والإسلام . فاسطورة الطوفان - مثلا - التي ورد ذكرها في تراث بلاد الرافدين يرجع تأريخها إلى عام 1600 قبل ميلاد المسيح وتكرر ذكرها في ألواح ملحمة كلكامش لتحكي لنا غضب الآلهة على البشر وقرارها بعقوبتهم أو اسطورة يوسف وإخوته وكيدهم له المنحدرة من تراث العراق القديم أيضا - أنظر العرب واليهود في التأريخ للدكتور أحمد سوسة - والتي أستعادتها الكتب المقدسة فالبطل يوسف رمز لصلابة المؤمن الذي أجتاز الاختبارات بنجاح ليؤكد هويته الخاصة مقابل الآخر . وعموما فإن أساطير منطقتنا القديمة لم تمت وعادت لتظهر بصياغات آخرى داخل النصوص المقدسة ومنها القرآن الكريم والفهم الحرفي لتلك النصوص يسئ إلى تلك النصوص ويغيب المراد منها ويشوه فهمنا وإيماننا. ومثل موروث الرافدين القديم معظم موروثات المنطقة التي عرفت ظاهرة الوحي وتابع الكثير من الباحثين تلك الأمور وغطت دراساتهم مجمل الأساطير النابعة من موروثات الشرق القديم وبصماتها على الطوائف الدينية الإبراهيمية - أنظر جهود الباحث فراس السواح عربيا - فالذاكرة الدينية تدمج في داخلها الموروثات السابقة عليها وتعيد أنتاجها بشكل معدل يساهم في صياغة وعي المؤمنين .
وإضافة إلى نفس الاساطير فهناك نزعة الأسطرة التي يقوم بها البشر ويضفيها على الشخصيات والأحداث لُيكتب لها الخلود شعبيا إلى الدرجة التي ينبغي التمييز عند الدراسة بين الشخصية الاسطورية والشخصية التأريخية لنفس الشخص أو الحدث ، فالشخصية التأريخية ليسوع هي غير الشخصية الاسطورية له وكذا الشخصية التأريخية لموسى- هناك جدل غير محسوم حول وجود شخصية تأريخية لموسى - والشخصية التأريخية لمحمد هي غير الشخصيات الأسطورية التي رُسمت عنهم ونُسجت حولها الحكايات الخيالية وقل مثل ذلك عن الأحداث التأريخية كواقعة الطف - مقتل الحسين بن علي وأهل بيته في كربلاء - فالواقعة التأريخية هي غير الواقعة الاسطورية التي غذاها ولا زال يغذيها الذهن الشعبي الشيعي ويؤسطرها باستمرار . والقرآن الكريم تنطبق عليه هذه القاعدة من جانبين :
الأول : توظيفه للأساطير والموروثات القديمة ودمجها في صياغته ليحقق الأهداف التي ابتغاها النبي الكريم محمد في مشروعه لهداية الناس فالاساطير القرآنية المستعادة من الموروثات الآخرى متعالية ومنلفتة من قيود الزمان والمكان وعابرة للتأريخ ويكون ابطالها مؤيدين بتدخلات فوق طبيعية خارقة.
ثانيا :اسطرة نفس القرآن ومدونته من قبل المؤمنين إلى درجة تصل أحيانا بزعم قدمه مع جلده وأوراقه -أنظر شرح تجريد الأعتقاد - للفاضل القوشجي ويتم تغييب تأريخيته ومشكلة لغته وجمع نصوصه الأولى من بين نصوص آخرى وأعتماد مدونة رسمية واحدة وعلى سبيل المثال إلغاء قراءة - إن الدين عند الله الحنيفية - وإثبات - إن الدين عند الله الإسلام - .

-2-
لغة الاسطورة مبنية على المجازات والاستعارات ولا يمكن أن تُفهم حرفيا ، وهذه المسألة محسومة في الدراسات الميثلوجية ، ولكن الذهن الأرثوذكسي المنغلق داخل دين ما لا يقر بذلك ويحاول دائما أن يفهم اساطيره الدينية بلسان الحقيقة الحرفية خصوصا عند تناول النصوص المقدسة فهالتها القدسية ومصدرها الإلهي في ذهن المؤمنين يحجب القدرة على رؤية لغتها الفوارة بالمجازات الهائلة والأستعارات البلاغية العميقة التي ينبغي أن تؤخذ بنظر الأعتبار وفي تراثنا نص يُنسب للنبي محمد يقول: ( ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن ) وكلما نضج الإنسان حضاريا كلما فهم النصوص المقدسة بشكل مجازي وابتعد عن الفهم الحرفي فالنص موجه لناس يختلفون في مستوياتهم الفكرية والثقافية والحضارية وبالتالي لا بد من استعمال لغة مجازية مفتوحة - أنظر مس داخل الإنسان وفضاءه الخارج : الاستعارة كاسطورة وكدين لجوزيف كامبل أو النص والسلطة والحقيقة لنصر حامد أبو زيد فصل إشكالية المجاز ص 173 وما بعدها ، وكذا الفصل المعقود للظاهر والباطن في كتاب القرآن في الإسلام لمحمد حسين الطباطبائي - ومشكلة الأخذ الحرفي للأساطير الدينية في النصوص المقدسة يشكل مشكلة كبيرة لوعي الإنسان المؤمن خصوصا عندما يصطدم فهمه الحرفي مع حقائق التأريخ والعلم وتبدأ مسلسلات التسويغ والتبرير دون ملامسة قاع المشكلة الحقيقية ولنا بأسطورة مملكة سليمان الهائلة والعفاريت والجن والطيور التي تخدمها مثلا جيدا فابحاث علماء الآثار لا تؤيد وجود مملكة بهذا الأتساع وإنما مجرد إمارة قبلية بسيطة وقل مثل ذلك عندما نتناول أسطورة البراق الخرافي الذي سافر فيه أو عليه النبي محمد في رحلة للإله مع ضرورة التنبيه أن هناك الكثير من علماء الدين يفهمون الحكاية بشكل رمزي وأن الرحلة والمعراج كان روحيا ولذا يُعلي من شأن تلك الحكاية المتصوفة في تراثهم .

-3-
في التراث الإسلامي أعتاد علماء تفسير القرآن على ذكر جملة من المبادئ والقواعد التي تشكل الرؤية التي ينطلق منها المفسر المسلم لقراءة وتحليل نصوص القرآن الكريم وخصوصا رؤيته للغة ومشكلاتها مثل قضية المجاز في القرآن والفهم الحرفي للنصوص التي أدت إلى مشكلات عقائدية كثيرة كتناول مشكلة ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية)او غيرها من نصوص توحي بإن للإله جسد ووصل الأمر- في بعض مقولات التراث السني السلفي - إلى القول أن النبي الكريم رأى الإله في منامه بأحسن صورة، شاباً، موفراً، رجلاه في خضرة، عليه نعلان من ذهب، على وجهه فراش من ذهب في حديث أم الطفيل المختلف حوله والذي صححه الشيخ السلفي ناصر الدين الألباني !! وأن العرش تحمله حيوانات( ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهن العرش بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم الله فوق ذلك تبارك وتعالى)!!
وعموما فهناك رأي طُرح من قبل الكثير من علماء المسلمين في التراث الفلسفي والصوفي واللغوي يُنكر وجود المجاز في اللغة ويطرح فهما جميلا للاستعارة والمجاز ومفاده أن الألفاظ وضعت لأرواح المعاني وغاياتها وليست للمصاديق الخارجية ويضربون مثلا بمفردة سراج ومصباح فالسراج والمصباح وما يشاكلها هي مفردات لم توضع لطرق الإنارة القديمة وإنما لنفس الإنارة فأينما توجد إنارة يُطلق وعلى نحو الحقيقة كلمة مصباح وسراج سواء كان شمعة أم فانوسا أم كهرباء ومن ذلك يكون فهم النص القرآني ( وزينا السماء الدنيا بمصابيح )إنه اطلاق حقيقي فالنجوم المنيرة هي مصابيح على نحو الحقيقية ومثل ذلك ( أنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور )فالعمى القلبي والبصر القلبي ليست مجازات وإنما إطلاقات حقيقية .فتتجلى لغة الله في الوجود كله فهي ( ليست محصورة باطار الخطاب القرآني إنها تتجلى في الوجود كله لأن الوجود كلمات الله المسطورة في الآفاق والقرآن كلمات الله المسطورة في المصحف وكما أن كلمات الله الوجودية لا يمكن حصرها ولا تنفد فكلمات القرآن المعدودة المحصاة في ذاتها تشير إلى معان ودلالات وجودية لا تنفد ( هكذا تكلم ابن عربي ص 140 لنصر حامد أبو زيد ومثله تفسير النص ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ) في تفسير صدر المتألهين أو تفسير الميزان .

-4-
لأحد علماء الدين تعبيرا جميلا وواضحا حول النقطة السابقة سأنقله على طوله لأهميته يقول :(وتحقيق القول في المتشابه وتأويله يقتضي الإتيان بكلام مبسوط من جنس اللباب وفتح باب من العلم ينفتح منه لأهله الف باب . فنقول وبالله التوفيق : إن لكل معنى من المعاني حقيقة وروحا وله صورة وقالب وقد يتعدد الصور والقوالب لحقيقة واحدة وإنما وضعت الألفاظ للحقائق والأرواح ولوجودهما في القوالب تستعمل الألفاظ فيهما على الحقيقة لاتحاد ما بينهما ، مثلا لفظ القلم إنما وضع لآلة نقش الصور في الألواح من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب أو حديد أو غير ذلك بل ولا أن يكون جسما ولا كون النقش محسوسا أو معقولا ولا كون اللوح من قرطاس أو خشب بل مجرد كونه منقوشا فيه وهذا حقيقة اللوح وحده وروحه فإن كان في الوجود شيء يستطر بواسطتة نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم فان الله تعالى قال ( علم بالقلم علم الا نسان ما لم يعلم ) بل هو القلم الحقيقي حيث وجد فيه روح القلم وحقيقته وحده من دون أن يكون معه ما هو خارج عنه وكذلك الميزان مثلا فإنه موضوع لمعيار يعرف به المقادير وهذا معنى واحد هو حقيقته وروحه وله قوالب مختلفة وصور شتى بعضها جسماني وبعضها روحاني كما يوزن به الأجرام والأثقال مثل ذي الكفتين والقبان وما يجري مجراهما وما يوزن به المواقيت والارتفاعات كالأسطرلاب وما يوزن به الدواير والقسي كالفرجار وما يوزن به الأعمدة كالشاقول وما يوزن به الخطوط كالمسطر وما يوزن به الشعر كالعروض وما يوزن به الفلسفة كالمنطق وما يوزن به بعض المدركات كالحس والخيال وما يوزن به العلوم والأعمال كما يوضع ليوم القيامة وما يوزن به الكل كالعقل الكامل إلى غير ذلك من الموازين .
وبالجملة : ميزان كل شيء يكون من جنسه ولفظة الميزان حقيقة في كل منها باعتبار حده وحقيقته الموجودة فيه وعلى هذا القياس كل لفظ ومعنى ) تفسير الصافي ج1 المقدمة الرابعة في نبذ مما جاء في معاني وجوه الآيات وتحقيق
القول في المتشابه وتأويله للنفسر الملا محسن الشهير بالفيض الكاشاني .

-5-
انطلاقا من ذلك كيف نفهم أساطيرنا التي وظفتها الكتب المقدسة ومنها القرآن الكريم ؟؟ كيف نفهم أسطورة إبراهيم الخليل ورميه بالنار أو أساطير موسى واليهود أو يسوع والموائد النازلة من السماء وأحياء الموتى ؟؟ أو مكوث يونس في بطن الحوت أو موسى ورميه بالنهر -مستعادة من أسطورة تتعلق بسرجون الآكادي-أو غيرها مما هو معروف في القرآن الكريم ؟ ما هو الصحيح ، أن نفهمها كحقائق حرفية أم مجازات واستعارات تؤدي وظائف خاصة لتعميق الإيمان في وعي ولا وعي المؤمنين ؟
سأذكر مثالا عن أسطورة الجنة والنار ، فهل الجنة منتجعا سياحيا سحريا ؟ وهل النار محرقة للشواء ؟
الفكرة الدينية المطلوبة أن الإنسان ينبغي أن يكون صالحا وإذا اساء فإنه سينال جزاء عمله السئ وإذا أحسن فأنه سيستحق جزاء مناسبا لعمله الحسن . هذه الفكرة هي منشأ اسطورة الجنة والنار بالمعنى الحرفي السائد في الاذهان وعمقها أن الإنسان لا بد أن يصاب بجزاء أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر لذا فعليه أن يكون طيبا وصالحا وما حكايات الجنة والنار بالشكل الحرفي إلا وسائل لتحقيق ذلك .وهذا الأمر ليس غريبا على التراث الإسلامي فهناك تفسيرات للجنة والنار في تراث الفلاسفة والمتصوفة والعرفاء تعتبر الجنة هي النعيم النفسي والنار هي العذاب النفسي فالإله كمعشوق وحبيب ، القرب منه راحة نفسية ومعنوية- جنة - والبعد عنه نار تحرق فؤاد العاشق الذي لا يلقى الوصال-جحيم- ولا زلنا نستعمل صيغة أحترق فؤادي أو هذا الأمر حرق قلبي أو اشعر بنار في صدري في لغتنا .

-6-
إن غياب الفهم السليم للبنية الاسطورية للقرآن الكريم ملأ الفكر الإسلامي ووعي المؤمنين بأن الموروث الذي قدم وأنجز في مدونات الفقه والقوانين وعلم الكلام وغيرها من معارف دينية يرتدي غطاء مقدسا لأنه يرتبط بنفسير المراد من النص القرآني بشكل دقيق وإن المؤمن إنما هو يلتزم بالتعاليم التي تمثل رغبات الله وليست عمليات وجهود بشرية لصناعة وتسيير الواقع هذا في الجانب المؤمن وفي الجانب الآخر نجد أن الفكر الوضعي الذي لا يهتم بدور الاساطير واشتغالها على وعي المؤمنين فشل في زرع النزعة العلمية والعقلية في مجتمعاتنا لتجاهله وظائف الموروثات الاسطورية والجوانب المخيالية للشعوب وهكذا فإن ( التطابق الذي اقامه الفكر الإسلامي بين المعاني أو الصيغ القرآنية وبين نظام الاشياء في المجتمع والتأريخ والعالم كان مفهوما على أنه شئ طبيعي أراده الله . وعندما جاء الفكر النقدي لكي يبين أن الأمر هنا يتعلق بظاهرة اجتماعية -ثقافية للتقديس ولتحوير الواقع كان دائما ضعيفا في الإسلام ومؤقتا لدرجة أنه لم يستطع تحرير العقول حتى اليوم ) تأريخية الفكر العربي الإسلامي ص 214 محمد اركون

-7-
ختاما أعتذر من القارئ الكريم عن الأختصار والإيجاز المخل في تناول مثل هذه القضية المهمة فصيغة المقال لا تسمح بأكثر من الإشارات العابرة دون التفصيلات الطويلات والمملة لقارئ الصحف عادة وهذا ما يضطر الكاتب إلى الطرح المختصر والإشارات العامة التي تمثل مفاتيح ثقافية للقراء ليتابعوا بأنفسهم الدراسات الواسعة أو تكوين وجهات نظرهم الخاصة عن الأمور المطروحة ويكفي لاي كاتب أن يفتح بابا لحركة العقل ونمو التفكير والتأمل لدى القراء وإعانة المؤمنين لمراجعة معتقداتهم الخاصة بالفحص النقدي المنفتح على طروحات الآخرين ، فليس من المهم قبول ما يكتبه أو رفضه بقدر مساهمته في تشجيع عملية التفكيروإعادة النظر في فهم الإيمان وأخيرا فإن "إن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لاتفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلاّ به" كمايقول المؤمن الصالح علي بن ابي طالب .

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف