كتَّاب إيلاف

ثقافة الرموز

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عند الحديث عن الأزمة العراقية الراهنة، ما يزال البعضُ يعتقد أن سببَ استمرار الأزمة هو عدم وجود (رمز سياسي) وإننا بحاجة لرمز أو شخصية محورية توحد صفوف العراقيين وتقودُهم إلى شاطئ الأمان. يكرر هذا البعض مقولتَهُ بنوايا حسنة، لكن النوايا الحسنة لا تكفي هنا، فنحن بحاجةٍ إلى إعمال العقل والاعتماد على المبادئ المعروفة في علم السياسة، والتي تؤكدُها التجاربُ السياسية عندنا وعند سوانا. يمكنُ تلخيصُ الاعتراض على هذه المقولة بنقطتين:أولاً: إن البحث عن (القائد الرمز) هو إعلان فشل سياسي واعتراف بعجز العقل الجمعي عن مواجهة الأزمة، وهو بحث ضمني عن ديكتاتورٍ جديد بنوايا حَسِنة !! لأن البحثَ عن القائد الرمز ينفي ثقافة التعددية أساس النظام الديمقراطي الذي تم الإجماع عليه ! أما إذا أردنا أن نكونَ حسني النوايا في قراءة هذه المقول والهدف الذي يقف وراءَها، فسيكونُ بوسعنا أن نحورَ المقولة قليلاً، لتُصبح حول التأكيد على ضرورة دور الرموز والشخصيات المحورية في التخفيف من وطأة الأزمة الراهنة على طريق التخفيف من التأثيرات السلبية لحالة الفوضى والتشتت. وعند ذلك يكونُ علينا من باب الإنصاف والموضوعية، أن نعترفَ بوجود هذه الشخصيات ونؤكدَ دورَها الوطني والاجتماعي في العديد من المواقف التي أصبحت معروفةً جداً، ومنها مثلاً لا حصراً، جملة مواقف مراجع المسلمين الأجلاء، التي أخمدت أيةَ بوادرٍ للفتنة الطائفية وعززت المبادىء الوطنية في قضايا الدستور واحترام وتأكيد مبدأ المقاومة السلمية للاحتلال، تقديراً منهم لجملة الظروف الصعبة التي يعيشُها العراقيون الآن، وقطع الطريق أمام المتصيدين فعلاً في الماء العكر والذين يريدون استغلال مآسي العراقيين لمصلحة مشاريعِهم السياسية المشبوهة. وأيضاً مواقف القيادة الكردية في التأكيد على وحدة العراق الوطنية أرضاً وشعباً، وتحريم عمليات الانتقام الجماعي التي كان من الممكن أن تقع بين الأكراد وبين بعض المناطق العربية المحاذية لهم خصوصاً في الفترة الأولى لسقوط النظام السابق، فلولا الدور النبيل والحاسم الذي قام به بعضُ القادة الأكراد النافذين في هذه القضية وباعتراف بعض شيوخ القبائل العربية هناك، الذين أعربوا عن امتنانـهم لتلك المواقف عبر وسائل الإعلام. إن كلَّ هذا وغيرَهُ يدلُُ على أن المجتمع العراقي ما يزال بخير، فالشخصيات المحورية حاضرة ومؤثرة، وهذا ما يفسر التماسك الملحوظ الذي أبداه العراقيون رغم ما أحدثته الحربُ وما جره انهيارُ مؤسسات الدولة عليهم! ولذلك فإن تصريحات البعض حول غياب الرموز أو الشخصيات المحورية، يبدو مجحفاً بحق هذه الشخصيات، وأيضاً بحق المجتمع العراقي الذي أنجب هذه الشخصيات وكرسَ أدوارَها ومكانتَها بحكم الحاجة والضرورة. ثانياً: أن مركزية الدولة في العراق المعاصر، وتكريس وجودِها عبر شخص ما كان يسمى ب(السيد الرئيس القائد) خلقَ خلالَ العقود الماضية، ثقافة هيمنة فردية استبدادية، أدمنا عليها نحن العراقيين بحكم التعوّد المفروض علينا، مما أنسانا مبدأ المشاركة وثقافة المؤسسة ومفهوم المواطنة، التي تكرسُها النظمُ الديمقراطية، ونسينا معها المنهج العلمي في التفكير وفي تفسير ظواهر الواقع، حيث من المعروف أن المرجعية في الدولة الديمقراطية تكون للدستور والقوانين وليس للأفراد أو موظفي الدولة مهما كانت المرتبة السيادية لوظيفتهم، وهنا يكمن الفرق بين النظام الديمقراطي والنظام الديكتاتوري . وكذلك ففي السياسة تكون المرجعية عادة للمبادئ وليس لآراء القائد، وهنا يَكمنُ الفرقُ بين الحزب المدني الديمقراطي وبين الحزب الأيديولوجي الثوري الذي يؤسس عادة للحكم الديكتاتوري الفردي عبر الشعارات الثورية الخادعة. إن كلَّ هذا يعني أن علينا أن نتخلصَ من العادات الثقافية السيئة التي توارثناها من تراكم ثقافة الاستبداد وظاهرة ما يسمى ب(الأبطال القوميين) الذين لا يملكون من البطولةِ سوى أسمِها، ناهيك عن كونِنا نعيشُ في عصر دولة المؤسسات والمشاركة الجماعية، مما يوجب علينا أن نودع ثقافةَ الماضي وعصرَ الأبطالِ المزيفين وسيوفِهم الصدئة التي طالما حزتْ رقابَنا وتسربت إلى خلايا أدمغةِ بعضِنا وأقامت فيها مع الآسف.
واستطراداً فإن التخفف من ثقافة الماضي الديكتاتوري لن يكون سهلاً، ما لم نقطع شوطاً واضحاً في المسيرة الديمقراطية التي بدورها ستخلق رموزها، ولكنها ستكون رموزاً مختلفة، بعيداً عن قعقعة الكلام والوجوه المتجهمة التي تريد أن تصنع لها تاريخاً على جثث المعارضين. بل ما سيأتي سيكون مختلفاً تماماً، لأن صناديق الأقتراع ستكون في الهواء الطلق وليس في الأوكار الحزبية حيث (الموز) ترتب المؤامرات وعمليات الغدر بالآخرين وبكل ما يعنيه ذلك من صغائر ودنائات.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف