كتَّاب إيلاف

القرآن الكريم وتعقيبات القراء

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"من السهل على المرء أن يكون عبدا من أن يكون سيدا" (هيغل)

-1-
يُحكى أن الحكيم سقراط كان يُجري حوارات مليئة بالاسئلة مع المجموعة التي حوله من أجل أن يبين لهم أن المعارف التي يتبنونها لا تمثل الحقائق النهائية ولا تمتلك درجة الحسم القطعي واليقين الجازم كما يظنون فلا يصح الأنطلاق من مسلمة (امتلاك الحقيقة) الإقصائية المدمرة، وكانت فكرته الأساسية تقوم على بيان أن المعتقدات الخاصة هي وجهة نظر وتصور من ضمن تصورات آخرى ممكنة وبذا يتحرر الإنسان ويصبح قادرا على التفكير المستقل والترجيح والعمل بدون ضغوطات موروثة تشكل وعيه بإتجاه ما لذا كان يردد " أنا لا أعرف شيئا، وحتى معرفتي بعدم معرفتي ليست أكيدة ".
وقضية أستقلال الإنسان الفكري وتحرير روحه من أي اغلال دوغمائية مغلقة عمل يحتاج إلى الكثير في مجتمعاتنا فإنساننا يخشى أن يتأمل ويفكر ويطرح الاسئلة وإذا راودته في خياله بعض التساؤلات يُسارع إلى اعلان التبري منها وترديد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.ونفس هذه المشكلة مرت بها شعوب آخرى عندما تجرأت على خوض مغامرة التفكير المستقل.

-2-
مشكلة الرعب من التفكير لمستها شخصيا من خلال ردود وتعليقات بعض القراء الكرام على المقالات السابقة التي طرحتها عن القرآن الكريم، ومن المؤسف أن بعض التعقيبات لم تفهم جيدا مقال سابق عن السيستاني والعراق والذي نبهت فيه بوضوح إلى أني لا أتبنى الطرح والمعتقدات الشيعية التي اصفها لإيماني بإن الدين ينبغي أن يُدرس كظاهرة أنثربولوجية إنسانية للتقديس وتجلياته المختلفة وغاية ما أقوم به وصف أحد المذاهب كما هو عليه وليس كما يحلو لنا وهذا ما ذكرته قبل ذلك في مقالات سابقة عند التعرض للظاهرة الدينية، وغياب ثقافة علم الاجتماع الديني هي التي تؤدي بالقارئ إلى عدم التمييز بين عملية الوصف للمذاهب الدينية وبين تبنيها داخل نظام إيماني ما وقد نبهني الدكتور محمد سعيد الشكرجي حينها إلى ضرورة بيان معنى علم الاجتماع الديني غير المفهوم جيدا عادة والذي يؤدي إلى عدم التمييز بين عملية وصف وتحليل الأنظمة الإيمانية من خارجها وبين أنظمة الإيمان التبجيلي وخطابها الداخلي فالخلط بينهما منتشر في مجتمعاتنا وكان محقا وكنت متهاونا عندما لم أصغ لنصحه!

-3-
القرآن الكريم لا يمكن أن أن يُساء إليه لأنه نص خالد اشتغل ولا زال يشتغل على وعينا ولا وعينا وأنى لاي نص أن يقوم بذلك إذا لم يكن عظيما؟! وأكبر إساءة للقرآن الكريم هي تحويله إلى نص للطقوس والترتيل على الجنائز وحفظه للبركة ومنع أي عمليات بحثية تخصه وتدرسه وأولى تلك المشاكل التي ينبغي إعادة فتح إضبارتها مشكلة جمع القرآن الكريم فهناك اتفاق على عدم ترتيبه بالنسق الذي طرحه النبي محمد من حيث زمن النزول وهناك إشكالات وابحاث عن دقة ترتيب الآيات ضمن السور علاوة على مشكلة أختلاف القراءات وإعتماد نموذج واحد في النسخة العثمانية التي نتعبد بتلاوتها وهذه الابحاث لم تنجز لحد ألان لضراوة وتشدد الأوساط المؤمنة التبجيلية المغلقة مع أن بعض الباحثين اشار إلى إمكانية إعادة بناء النص القرآني كما طرحه النبي محمد ليكون للدراسة والتحليل والبحث والتفسير وتبقى النسخة العثمانية للتلاوة والتعبد ومن الغريب جدا أن يتم تقديس نسخة عثمان على حساب ترتيب النبي الكريم للقرآن!

-4-
إن بعض القراء الكرام يتركون لب الموضوع ووجهات النظر المطروحة ليقدموا انطباعات شخصية لا تمس جوهر الموضوع والقرآن الكريم يدعوهم إلى التدبر (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ولعلماء المسلمين مباحث لشرح الأحاديث الناهية عن هجر القرآن والتي أهمها ترك بحثه وتدارسه ومناقشته، يقول ابن القيم الجوزية (الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه) وكيف نفهمه إذا لم نناقشه ونستثمر العلوم والمنهجيات اللغوية والإنسانية التي تمثل آدوات تحليل القرآن؟ إن هناك منجزات كبيرة لعلماء الدين المسلمين لتحليل نصوص القرآن طبقا للنسخة العثمانية ولدى مختلف المدارس الدينية والمذاهب الإسلامية بيد أن تلك المنجزات كانت تعتمد على معارف عصرها ومستواها آنذاك وأهم تلك المعارف علوم اللغة فالقرآن الكريم نص ديني لغته العربية وبالتالي ينبغي مراعاة فهمنا للظاهرة اللغوية كمقدمة لفهم النص والمنجزات اللغوية التي بلغت أوجها في طروحات أبي علي الفارسي وابن جني وعبدالقاهر الجرجاني تمثل نموذجا رائعا ولكنها ابنة زمنها والوقوف عندها وتناسي التطورات الكبيرة التي حدثت في النظريات اللغوية ومباحث الألسنية يمثل عقبة في تطور فهمنا للقرآن الكريم وهذا ما حاول أن يسد ثغرته بعض الباحثين العرب كالدكتور نصر حامد ابو زيد في بعص التطبيقات التي طرحها ووعد بأن يتفرغ لكتابة تفسير وتحليل كامل للقرآن الكريم ضمن مستوى المعارف اللسانية والسيميائية المعاصرة ونتمنى أن يوفقه الله لإتمام مشروعه المنتظر.

-5-
من المشكلات التي ينبغي الرضوخ لها عند دراسة نصوص القرآن الكريم ما ذكرته الابحاث اللغوية من تمييزات بين سمات الخطاب الشفوي وسمات الخطاب المكتوب فنصوص القرآن الكريم عندما كان النبي يطرحها شفويا لم يكن المؤمنين الذين يسمعونها يعانون من أي مشكلة في فهمها فهي تعالج أوضاعهم ومشكلاتهم وتبين ما ينبغي لهم أن يقوموا به، كانت النصوص الشفوية في صلب العملية الاجتماعية والمشكلات وردود الأفعال التي ولدها مشروع النبي الكريم في حين أن النص المكتوب يكون منفتحا على عشرات الأحتمالات وهذا ما يمكن رصده بسهولة في الآراء المختلفة التي تذكر كتفسيرات ممكنة للنص القرآني في مدونات علماء التفسير. فعندما أخاطب شخصا يجلس بجانبي فهو يراني ويرى ملامح وجهي وحركات يدي ويفهمني بشكل ممتاز وإن لم يفهم أنبهه مباشرة ولكن عندما اقوم بفعل الكتابة وأطرح نصا مكتوبا فالقارئ سيفهمه بمعزل عني وسيسقط ثقافته على فهم مرادي وبأختلاف القراء تختلف الآراء ووجهات النظر في فهم كلامي وهذا الأمر ينطبق على القرآن الكريم عندما أنتقل من مرحلة الشفوية إلى مرحلة التدوين والكتابة.

-6-
القرآن الكريم يختلف صداه وتأثيره في نفس القارئ أو السامع فالعلامات اللغوية (لا تحيل إلى الواقع الخارجي الموضوعي إحالة مباشرة ولكنها تحيل إلى "التصورات" و"المفاهيم" القارة في وعي الجماعة -وفي لا وعيها كذلك -) حيث تكون اللغة في (سيرورة مستمرة وحيوية ودافقة نابعة من قوانينها الخاصة بدءا من المستوى الصوتي وصولا إلى المستوى الدلالي. إن اللغة نظام من العلامات، لا تشير العلامة كما سبقت الإشارة إلى الخارج بشكل مباشر بل تشير إلى الصورة السمعية التي هي الدال وهذا الدال يحيل بدوره إلى الصورة الذهنية أو المفهوم الذي هو المدلول) النص والسلطة والحقيقة ص 80-83.وبذلك فصدى القرآن وفهمه يختلف من جماعة إلى آخرى، فهل فهم المؤمن القروي للقرآن الكريم يساوي فهم المؤمن المديني؟ وهل فهم المؤمن التركي للقرآن يساوي فهم المؤمن العربي؟ فالإنسان يفهم النص القرآني وهو محمل بعبق تراثه ومجتمعه وأفقه الفلكوري وعاداته وموروثاته فيكون وقع القرآن الكريم وتأثيره وفهمه ليس بنفس الدرجة وإنما القارئ المؤمن يكون شريكا في إنتاج المعاني والتصورات ضمن أفقه الاجتماعي والثقافي بل ولنفس القارئ المؤمن ضمن أحوال مختلفة فتلاوة القرآن في الزنزانة ليس كتلاوته على الفراش الوثير وبالتالي فعمليات تفسير النصوص القرآنية تكشف عن ثقافة المفسر وعصره وبيئته ونشأته ومزاجه وما إلى ذلك فيكون من الضروري التمييز بين القرآن والمعارف الثانوية المقدمة من قبل المفسرين فجهودهم ومنجزاتهم بشرية مرهونة بلحظتها وزمنها ولا تمتلك اي قداسة وقل نفس ذلك عن ضرورة التمييز بين الدين والتراث الديني والإيمان والتراث الإيماني ومن ذلك وغيره يلح محمد اركون كثيرا على ضرورة التمييز بين القرآن والظاهرة القرآنية والإسلام والظاهرة الإسلامية فالحدث الإسلامي - مثلا- أنتج إسلاما مدينيا - البصرة، الكوفة، بغداد، دمشق، حلب، اصفهان،القاهرة...الخ -وهذا الإسلام المركزي المديني هو ما أهتم به الكتاب والمؤرخين في حين تم أهمال الإسلام القروي والريفي فكيف كانت الظاهرة القرآنية والإسلامية في القرى والأرياف بل وحتى لدى البدو الرحل ؟كيف كان صداه في نفوسهم وفهمهم له ؟ وهذا يرتبط بسلطة الكتابة واهمال التراثات الشفوية كما يشير عدة باحثين.
-7-
ختاما ساشير إلى مقطع ذكره أحد الإخوة في تعقيب على الحلقة الثانية من مقال البنية الاسطورية للقرآن الكريم وأنا أشكره على اسلوبه الجميل ودماثة خلقه، يقول الدكتور عمر طرابلس (ملاحظة: انا احمل دكتوراة فى الكيمياء النووية , توقفت عند اشارة القرآن الى مثقال الذرة، نحن نعرف ان الذرة هى الجسيم الوحيد الصغير الذى نستطيع قياس ثقله لأن الجسيمات الاصغر الاخرى كالنيوترون والالكترون والنواة والبوزيتروم والميزون والبوسون والكواركات والجسيمات اللحظية لاثقل فيزيائى لها!! السؤال هل كان النبي العظيم محمد صلى الله عليه وعلى جميع الانبياء وسلم استاذ فيزياء نووية؟ لابد ان ندرك ان القرآن كتاب الله، هذا من زاويتى واختصاصى).
هذا الكلام يتعلق بجانب في الثقافة الإسلامية الشعبية المعروف بجانب الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وعلماء الدين أختلفوا حوله وهو نابع من إسقاط حمولات ومفاهيم عصرنا على عصر آخر وسأفصل الحديث عن ذلك في مقال سيصدر قريبا بعنوان "القرآن الكريم بين التزامنية والمغالطات". فالقراءة التزامنية - مصطلح من المباحث اللغوية اللسانية - يعني ضرورة أن نفهم الالفاظ والدلالات ضمن زمنها وإلا وقعنا بالمغالطات التأريخية وهي حمل مفاهيم عصر لإسقاطها على عصر آخر، كما في حمل مفهوم الذرة الكيميائي على مفهوم الذرة في لغة العرب آنذاك والتي تعني ما يُرى في شعاع الشمس من هباء ويطلق على صغار النمل ويضرب المثل به للشئ الصغير ولا علاقة له بالذرة بالمعنى العلمي المعاصر.وأخيرا أنبه الدكتور عمر إلى أني لم أطرح مسألة إلهية القرآن الكريم بل كيف نفهم الاساطير فلغة القرآن الكريم لغة مليئة بالمجازات والاستعارات ولا يمكن أخذها بلسان الحقائق الحرفية ولا أنكر وجود نصوص التشريع المأخوذة بلسان الحقائق والمقلة من المجازات وهذه لها ابحاث آخرى.ولكني أتبنى قاعدة لاهوتية ذكرها بعض علماء المسلمين القدماء وتبناها بعض الباحثين المعاصرين وأعني الدكتور عبدالمجيد الشرفي والدكتور نصر حامد ابو زيد، والقاعدة تقول أن المعاني الإلهية صاغها النبي وذكرت ذلك في مقال "القرآن الكريم المعاني إلهية واللغة بشرية" وقد فصل البحث الدكتور الشرفي في كتابه القيم "الإسلام بين الرسالة والتأريخ". فلم يكن النبي الكريم متلقيا سلبيا للوحي الذي هو عملية تواصل غيبيبة غير لغوية بل كان متلقيا إيجابيا وأستثمر ثقافته الخاصة ولغة عصره وأخيلتها وبلاغتها في بيان المعاني الإلهية وهذه القاعدة مهمة جدا لفهم القرآن الكريم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف