كتَّاب إيلاف

حقائق العراق الكبرى: الادراك غير المتبادل!!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"لا اريد تقسيم هذه البلاد الى مقاطعات تخضع لنفوذ عدة دول.. قلوبنا دامية.. نريد ايها السادة ان نكون بعد اليوم احرارا، وان نعيش في بلادنا آمنين مطمئنين من كيد كل مستبد غاشم، فنحن بذلك لا نرضى بتقسيم البلاد وتجزئتها بل نريدها موحدة، حرة، مستقلة.." من خطاب الحكمة لأحد ملوك العراق

مقدمة
دعوني اتكلم عن حقائق العراق الكبرى التي اتمنى على العراقيين بشكل خاص والعرب بشكل عام ان يفكروا مليا بها قبل ترتيب الاحكام واطلاق النتائج. انني اذ اكتب هذا "المقال" الذي يأتي حصيلة لما أجده في الحقيقة من فوضى فكرية عارمة تزدحم بها افكار العراقيين خصوصا وكل العالم من حولنا عموما ازاء مجريات ما يحصل في العراق.. واذا كانت ردود الفعل غير العراقية ليس من الاهمية بمكان، فان الرأي العام العراقي يكاد يكون يحمل تناقضاته مع نفسه، وانه في خضم المتغيرات التي عصفت به لا يدرك الى ايت يتجه به المصير.. ناهيكم عما اسمعه وأقرأه من تعليقات وملاحظات متصادمة من قبل العراقيين تحكي قصة لا بداية ولا نهاية ولا حتى عقدة لها.. وانك لا تعرف ما الذي يريدونه اصلا اذ ربما كانت اهدافا موحدة تجمعهم، واليوم تقطعت بهم خيوطهم وهم لا يعلمون ما المصير..
هذا اذا عرفنا حقا بأن ما ينشر عنهم في العالم اكبر بكثير جدا من استيعابهم له وخصوصا في اللغة الانكليزية، اذ ذهلت مؤخرا بحجم ما يصدر من كتابات متنوعة عن العراق والعراقيين وخصوصا في الولايات المتحدة الامريكية. فهل يمكننا ان نقّدم بعضا من حقائق العراق الكبرى التي تشغل التفكير من اجل تفريب وجهات النظر ليس الا، خصوصا وان موضوع الاحتلال والدور الامريكي كان سببا في تفجير كل التناقضات العراقية وجعلنا نعيش متشظيات هذا الوضع الصعب في العراق الذي غدا بؤرة لتجمع الارهاب من كل محيطنا العربي والاسلامي.. ومن حق الاخرين في كل هذا العالم ان يفكّروا معنا بما ستنتهي اليه الاحداث الصعبة، ولكن من حق العراقيين اجمعين ان يشاركوا معا في خلق بدائل تاريخية لهم وان يناشدوا الضمير العالمي بالحياة المتوحشة التي تعصف بهم وبمستقبلهم.

متغيرات العراق الحالية
لقد تغّيرت الاوضاع في العراق تغييرات جذرية في العام 2003 اثر سقوط العراق في القبضة الامريكية كما كانت قد تغيرّت جذريا في العام 1917 عندما سقطت بغداد بيد البريطانيين ودخلها الجنرال مود " محررا لا فاتحا " – على حد تعبيره -! وثمة دلالات على ان تشكيلات المنطقة اتت اثر انتهاء الحرب العالمية الاولى كانت اهون بكثير من الاوضاع التي عليها العراق اليوم.. وفي خضم هذا الاتون المحتدم، تنطلق الحاجة لطروحات فكرية ونقدية واضحة ن من دون الاهتمام لما يريده المتخلفون ولما يطمح اليه المتبلدون.. فالمشكلة في الحقيقة هي التي يمكن فحصها واخضاعها للتجارب والتحليلات والخروج بمعالجات فعالة.
في ظل الحالات المأساوية التي يمر بها العراق اليوم، لابد من خطاب نقدي سياسي جديد يوجّه الى العراقيين كلهم من دون استثناء سواء كانوا في الداخل ام في الخارج.. ثمة ضرورات تفرضها علينا اوضاع العراق السيئة التي كلنا يعرف مدى ما وصلت اليه اليوم، خصوصا عندما نعلم بأن العراقيين يضمخون بالدماء وهم يتطلعون للانقاذ بعد ان تفجّرت تناقضاتهم بشكل لا يمكن تخيله ابدا.. ان العراق تلزمه وقفة كل ابنائه لاخراجه من المأزق الذي هو عليه اليوم.. بالرغم من ان الحناجر قد بحّت منذ سقوط النظام السابق، واصحابها يدعون الى العلاج والى اتباع اقصى درجات الحيطة والحذر فضلا عن تشكيل حكومة انقاذ وطني بعد تردّي حالة كل الاجهزة والمؤسسات التي تعمل من دون اي تركّز ولا اي نزاهة ولا اي وطنية ولا اي مراجعة ولا اي محاسبة ولا اي تفكير ولا اي ضرورات ولا اي مستلزمات ولا اي معالجات او اصلاحات.. فكيف يمكن اعادة بناء العراق كما تأمل العراقيون قبل سنتين ونصف السنة..؟؟
ان حالة العراق السيئة من كل النواحي لا يمكن ان يحلها اناس عاجزون مرتشون ولا يمكن السيطرة عليها بواسطة طاقم من القياديين الضعفاء الذين لا يدركون فن القيادة ولا الاستراتيجية ولا المناورة.. لا نريد رموزا وابطالا وهميين ورجال دين، نريد قادة سياسيين متمكنين متضلعين بالعراق! وهل عقم العراق منذ اربعين سنة عن ولادة قادة اصلاء متمكنين لهم جدارتهم ولهم حكمتهم ولهم حجتهم ولهم شجاعتهم.. كما لا يمكن حل المشكلات والقضاء على التهور والفوضى والفساد الا باستخدام القانون والقوة والضبط والقضاء.. ولا يمكن اشاعة الامن والنظام الا من خلال ضبط الادارات والحدود واعلان الاحكام الاستثنائية.. ولا يمكن استئصال الارهاب والقضاء على العنف الا بحل كل ما له علاقة اساسية بالماضي.. فالماضي لا يمكن ان يكون مرتهنا لصدام حسين وحكومته ومؤسساته السلطوية، بل ينسحب ايضا على كل القوى السياسية والتشكيلات العسكرية التي كانت تقف ازاء الجلاد وحكومته..

من يسكت صوت الماضي؟
لابد من المناداة بان ثمة حاجة اساسية وضرورة ملحة من اجل اسكات صوت الماضي والبدء بتشكيلات جديدة بدل كل التشكيلات السياسية والحزبية والميليشيات سواء تلك التي تعمل بشكل علني اليوم، ام تلك التي تختفي تحت الارض.. ومن اجل كبح جماح المغالاة لكل من انصار النظام القديم الذين يطمحون لارجاع القديم الى قدمه بحجة الاوضاع السيئة.. وكذلك من المتعصّبين الذين اساءوا كثيرا للنظام الجديد.. لابد من معرفة حجم التهديدات بحق السكان وابناء العراق، فالتمردات ومشروعات القتل وزراعة الرعب وآليات الكراهية بحق هذا او ذاك لا يمكنها ان تستمر ابدا، والا نكون قد سجلنا نوعا فريدا من الهراء. ان العراق – كما يبدو – قد بلغ من الضعف والهزال لدرجة لا يمكن تخيلها.. وهنا لا ينفع النفخ في قربة مقطوعة كما ولا ينفع وضع القادة في منطقة خضراء او ساحة حمراء.. فضلا عن تبريرات المهرجين وشعارات المرتزقة والعراق يزحف نحو الفناء. ان ما يجري اليوم في العراق لا يمكن تسويغه بخطاب مزيّف او بمعلومات ملفقة او بالاعلان زورا وبهتانا عن تطوره.. ان حجم ما وصل اليه الفساد في العراق لا يمكن قياسه حتى باوضاع دولة فاسدة مثل كولومبيا السيئة وعلى الطرف الاخر هناك من تجده يتغّنى بالاكاذيب والتلفيقات والتهويلات وهو لا يدرك المصير الذي ينتظرنا جميعا.
ان جميع الشروط التي كان لابد لها ان تسهم في احراز العراق الجديد مكانته بين الامم لا يمكن ان يكون البديل هو جعل العراق مقبرة للارهاب العالمي وان يدفع بدماء ابنائه كل يوم ثمنا سخيا لذلك . ولقد اعطيت الفرصة تلو الاخرى كي يحرز المتمردون للنصر سبيلهم وخصوصا في عملياتهم الغادرة والسريعة والخاطفة.. وليكن معلوما ان الارهاب يستبيح اليوم كل ارض العراق، ولا يمكن لجيران العراق الا ان تكون لهم ادوارهم وتدخلاتهم في غياب قوة العراق ليس كدولة قوية، بل كمجتمع متماسك افتقد بصره في حمأة الوغى وبات لا يدرك كيف يحافظ على وجوده، والمصيبة ان البعض من ابنائه واحزابه لم يعد تهمه مصالح العراق الحيوية والعليا موثقا علاقاته وروابطه وعواطفه من هذا الجار او تلك او ذاك. فهل يمكننا ان ندرك قليلا حجم المأساة؟ ان الاحتلال سيرحل عاجلا ام آجلا وسيبقى العراق بعيدا عن الاعمار وبعيدا عن الطمأنينة والامن وبعيدا عن التطور وبعيدا عن خلق المنظومات الحضارية.. اذا ما بقيت حقائقه الكبرى تعمل بالضد من سيرورته نحو المستقبل.

الانقسامات السياسية
كان الفراغ السياسي الذي خلفه سقوط النظام السابق مهولا، بحيث بات العراقيون يبحثون لهم بسرعة عن اي انتماء ديني او طائفي او عرقي او اقلياتي.. الخ، اذ لم يبق من العراق الا اسمه ورسمه!! يبدو ان الانقسامات السياسية في العراق اليوم وليدة الاختلافات الدينية لا الايديولوجية كما كانت في الماضي، وتشظّي تلك " الاختلافات " بين طرفي نقيض عندما تقف المرجعية الشيعية مع كلمة (نعم) للدستور المقترح، بينما تقف الهيئة السنّية مع كلمة (لا) له! هذا انقسام أساسي خطير وحقيقة عراقية كبرى ولا أظن ذلك يمثّل وضعا من السياسة في اي شيئ كما يدعّي البعض، ولا اظن ذلك يمثّل وضعا من الديمقراطية في شيئ آخر كما يدعي طرف غبي آخر، بل ينطلق من اختلافات حول المواقف والمعاني للاستحواذ على الواقع بأي ثمن.. وسيؤثر على سيرورة الواقع السياسي في العراق ليس نحو الاحسن، بل اعتقد انه سيمضي نحو الاسوأ!
لو كانت الخلافات سياسية حقيقية لاقررنا بمشيئة كل عراقي في اختيار الصيغة الدستورية في التطبيق، ولكن الانقسام العراقي اليوم يتخذ له طابع ديني وطائفي حول " المبادئ " وليس حول " التطبيق " وهذا من اخطر ما يمكن وصفه في تاريخ العراق. ولما كان العراقيون عموما بحاجة الى نضج سياسي من نوع خاص، فان كّلا من الموقفين الدينيين / الطائفيين لا يعبران اساسا عن ارادة حقيقية في الممارسة الديمقراطية. واريد القول هنا كيلا نتهم تهما طائفية من قبل بعض المزايدين بأن انتقادنا لبعض مبادئ مسودة الدستور العراقي قد انطلقت من خلال مبررات مدنية معلمنة مستنيرة لا ترى في دستور العراق الجديد مزيجا مضحكا من بقايا الماضي السياسي العقيم مع منطلقات الحضارة الغربية المعاصرة.
وهنا نستطيع القول بأن العملية السياسية في العراق قد خرجت عن مسارها الطبيعي، ولم تعد تتطور نحو الافضل بسبب تدخّل رجال الدين، بل انها تتراخى بتعقيداتها التي ستفجّر الموقف في داخل المجتمع العراقي الذي لم يمر بهكذا تجربة صعبة في الماضي ابدا! خصوصا عندما تصبح الارادة الشعبية رهينة بأيدي اي مرجعية دينية كانت! وهنا يمكنني القول - أيضا - بأننا كم نبهنا منذ اكثر من سنتين بأن يبعد العراقيون الدين عن السياسة اذ سنرى من نتائج ما سيحصل – لا سمح الله – ما لا تحمد عقباه فكل التناقضات الاجتماعية ستتبلور عنها احتقانات وستتفجر عن هيجانات لا يمكن ايجاد اي حلول سياسية لها لأن اسبابها دينية اصلا. والكل يعرف بأن العاطفة الدينية والطائفية في العراق أقوى كثيرا من النزوعات السياسية والوطنية بحكم الفراغات التي تحدثنا عنها. انني أرى بأن العديد من رجال الدين العراقيين الكبار قد ازالوا بايديهم تلك " الهالة " من القداسة الروحية التي كانوا يتمتعون بها في العراق واصبحوا يتقبلون الشتائم في الشارع السياسي كما لو كانوا سياسيين.. وهذا ما كان قد حدث في ايران ايضا منذ العام 1979!

مشروع قتل العراق
ثمة تناقض آخر واضح المعالم ويشكّل حقيقة كبرى لا يدركها بشكل متبادل لا العراق ولا كل هذا العالم، عندما يتم النفخ – على عهد الاحتلال او السيطرة او النفوذ.. سمّه ما شئت - بشكل مفجع في حجم مشروع القتل والذبح والتفخيخ والتفجير، ولا يعرف من يقوم بهذا القتل على وجه التحديد، اذ ضاعت الخيوط بين من يطلق عليهم بالمقاومين للاحتلال وبين من يطلق عليهم بالارهابيين القاتلين!؟ ان كلا من الطرفين يؤجج من حجم مخاطر هذه " الحقيقة " على حساب ما يراه.. وكلا من الطرفين أجدهما يدمّران العراق ولم يحرزا أي تقدم للنصر، بل غدا العراق ساحة هائلة مغرقة بالدم.. فلا هو جزائر الخمسينيات ولا هو فيتنام الستينيات، ولا هو جنوب افريقيا السبعينيات، ولا هو افغانستان الثمانينيات.. انه صورة هلامية وسوريالية بشعة الالوان والتكوينات لا يعرف احد كيف يقرأها! وانني اتحدى من يأتيني بشواهد تتجلى من خلالها شروط النصر لاصحاب هكذا مشروع واحد له وجهين دمويين مختلفين.. ولا نعثر له حتى اليوم على اي حركة سياسية يعترف بها العالم من خلال عنوان ثابت، ولا على اي جبهة نضالية يمكن لها ان تكون قابلة للعمل على مستوى الصراع ام مستوى التعامل السياسي.. ولا يمكن ابدا ان يعد واحدا مثل الزرقاوي شبيها بالمهاتما غاندي او بهوشي منه او فيدل كاسترو او جيفارا او ماوتسي تونغ او نيلسون مانديلا.. ولا يمكن حتى للمعجبين به ان يقولوا للملأ : هذا هو الذي سيحرر العراق؟
ان خطابه يعد مشروعا لقتل العراق والعراقيين وباسلوب طائفي بشع! ان مشروعا لقتل العراق تحت مسميات متناقضة بين مقاومة وارهاب، او بين جهاد وتوحّش، او بين نضال وحبال، او بين قداسة وتضليل.. فهل يعي كل العراقيين هذه الحقيقة الكبرى التي ستفني وجودهم؟؟ فضلا عن ان مراقبة بسيطة وتتابعية للاحداث الدموية في العراق ستنبؤنا عن مدى شراسة الارهاب ضد كل ابناء الشعب العراقي وليس له اي هوية محددة، بمعنى ان الذي يمارسه يعنيه قتل العراق باجمعه.. ولم يبق في اطار محدد او مندفع من جهة واحدة.. لقد دخلت في معادلته دول اقليمية، بل وتتنافس دول كبرى على الساحة العراقية من اجل ضرب مصالح دول كبرى اخرى فيه!

فوضى المعلومات وتضليل المواقف
الحقيقة الاخرى التي لا يريد ان يجمع عليها كل الفرقاء في العراق، بما فيهم قوى متعددة الجنسيات وخصوصا الامريكان والبريطانيين.. ناهيكم عن جحافل الساسة والمثقفين والكتّاب العراقيين الجدد ومن كل القوى والاطراف والاحزاب والفئات والجماعات التي برزت اثر السقوط .. انها تعيش فوضى فكرية في المعلومات عن العراق بانعدامها اصلا ولا تعرف الارقام الدقيقة والنتائج الحقيقية. انني اتساءل كأي مواطن عراقي لا يريد ان يتدخّل ويفتي او يحكم على الامور والاشياء من دون اي معلومات مؤكدة وموثقة : هل ثمة ارقام ثابتة او احصاءات موثوقة عن حجم الموارد النفطية او مبيعات العراق منها؟ هل ثمة معلومات دقيقة عن حجم السكان والثقل السكاني في كل المحافظات؟ هل ثمة ارقام تفصيلية مؤكدة تمنحني الحق في ان اقدم تحليلا صائبا من كل الشوائب؟ كنت اتابع في العام 2004 جهود الصديق الدكتور مهدي الحافظ وزير التخطيط السابق عندما وعدنا بأن مشروعا لتعداد السكان كان يجري على قدم وساق.. اذ لا يمكن المضي بأي عملية سياسية من دون تخطيط مسبق – مثلا – عن السكان العراقيين في عاصمتهم او مدنهم او في اريافهم وبواديهم.. فأين وصل ذلك " المشروع "؟ وهل ثمة تقارير مركزية عراقية عن الميزانية وعن حركة الصرف والانفاقات وعن الايرادات وخصوصا موارد النفط وماذا عن بقية الوزارات التي لا نعرف عن ادائها شيئا ابدا!
لقد عاش العراقيون ردحا طويلا من الزمن على ايام العهد السابق وهم محرومون من كل المعلومات والاحصاءات والارقام والتقارير الكمية والنتائج البحثية.. وما زالوا لا يعرفون شيئا ابدا لا عن انفسهم ولا عن جغرافياتهم ولا عن مؤسساتهم ولا عن مجتمعهم ولا عن مدنهم ولا عن خدماتهم ولا عن مواردهم ولا عن تجارتهم ولا عن شركاتهم ولا عن طلبتهم وجامعاتهم.. ان جملة من المحللين الغربيين والكتّاب العراقيين يضللون العالم كله قبل ان يضللوا العراقيين انفسهم باطلاق احكام لا تستند الى أي حقائق ولا الى اي معلومات ثابتة؟ ان فوضى المعلومات عن العراق تقف جنبا الى جنب فوضى القيم فيه مع بقائه في مستنقعه الآسن وسوف يزيده ذلك من المخاطر التي يتعّرض لها لأن صانع القرار في العراق سواء كان عراقيا ام امريكيا ان لم تكن له قاعدة معلومات حقيقية.. فستكون قراراته حتما مضللة او مفبركة وشعاراتية غير صائبة ابدا مقارنة بالمعلومات الامريكية والاوروبية الدقيقة جدا التي نطّلع عليها كل ستة اشهر والتي تنبؤنا عن اوضاع جيوش التحالف على ارض العراق! لقد وقفت على بعض المعلومات التي صنعتها " دوائر " امريكية او " مستودعات " بريطانية، او حتى تلك التي برمجتها ونشرتها هيئة الامم المتحدة.. فوجدت بذهول كم ان تضاربا واسعا وكبيرا لا يمكن تخيله ابدا كذاك الذي تضمنته تلك القاعدة المعلوماتية البائسة عن العراق نفسه لا عن انفسهم هم بالذات!

من يحكم العراق؟
حقيقة اخرى لابد ان يدركها كل العراقيين والعالم.. وهي مسألة لا تدرك الا اذا عرف الجواب على التساؤل في اعلاه : نعم، من يحكم العراق اليوم؟ هل تحكمه حكومة مؤقتة برئاسة الاخ الجعفري؟ ام يحكمه رئيس دولة اسمه السيد الطالباني؟ ام يحكمه السفير الامريكي خليل زلماي زاده الذي ربما يشارك - لا ندري - في صنع ام طبخ القرارات؟ ام لم يزل يحكمه حزب البعث العربي الاشتراكي ومخابرات صدام السابقة ولكن من تحت الارض؟ ام هل اصبح العراق متشرذما الى اقاليم كل اقليم يحكم نفسه بنفسه؟ ام يحكمه المرجع الديني الاعلى السيد علي السيستاني من داخل بيته المتواضع في قلب النجف الاشرف؟ ام تحكمه مراكز القوى الممثلة بالاحزاب القوية والميليشيات شبه الرسمية التي لها نفوذ ومصالح في هذا المكان او ذاك؟ ام يحكمه ارهابي اسمه الزرقاوي ومجاميعه المتوحشة وهو ينتقل من هنا وهناك ويصدر البيانات ويثير الرعب والشقاء؟ بالله عليكم اليس من حق اي عراقي ان يتساءل : من يحكم العراق اليوم؟
كنا نتأمل ان تكون وزارة الاخ الجعفري قوية ونافذة كما طلبنا منها ذلك عندما كتبنا مقالتنا قبل اشهر بعنوان (الوزارة الجعفرية..) والتي هاجمنا البعض بسببها بشراسة من دون مبرر واوضحنا كم حاجتها الى عدة اساليب كي تغدو مؤهلة لحكم العراق في اصعب مرحلة يمر بها وان لا يصيبها الفشل كما اصاب كل من مجلس الحكم ووزارة اياد علاوي الانتقالية في العام 2004، ولكن يبدو ان المشكلة ليست في نوعية القيادات العراقية، بقدر ما تكمن في الوضعية المتردية التي وصل اليها العراق بحيث لن تنفع معه قيادات كالتي وجدناها ام كالتي تقف اليوم على رأس السلطة. لقد استشرى الفساد في كل مرافق الحياة العراقية، وهذه حقيقة أكيدة يقّرها الجميع. ولقد تّردى الامن والنظام كثيرا بحيث لم يعد من هاجس لدى العراقيين الا امنهم وحياتهم ووجودهم.. وبرغم الجهود التي بذلها القياديون الجدد، الا انهم لم يستخدموا العلاجات الحقيقية للقضاء على الفساد اولا وفرض الامن والنظام ثانيا. ان اي سلطة عراقية حقيقية تريد ان تحقق للعراق شروطه وللعراقيين ضروراتهم عليها ان تفرض هيبتها على الجميع وان لا تكون ضعيفة وهزيلة، وان لا تتسلّم الاوامر من اي سلطة او قوة اجتماعية او دينية او سياسية في البلاد.. وان تكون صلبة في التعامل مع اي قوى محتلة.. وان تفرض سيطرتها على كل مناطق البلاد، والا ستكون اضحوكة للعالم. ان حكم العراق – كما اعدنا وكررنا – من اصعب انواع الحكم في هذا الوجود.. انه يحتاج الى سلطة يحترمها الشعب لا يؤلهها مرة ولا يستهزئ بها مرات.

الاسلام والديمقراطية
انني حتى اليوم لا ادرك ابدا كيف تتبنى الاحزاب الاسلامية منطق الديمقراطية وتزايد عليه؟ انني لا اعتقد بأن ثمة ادراك متبادل لكل من النقيضين الاثنين حتى يتم الفصل تماما بين الاثنين.. فالاسلام دين له عقيدته ومنهجه واسلوبه في السياسة الشرعية والديمقراطية فلسفة سياسية ولدت منذ عصر الفلاسفة الاغريق ووصلت متطورة عبر وسائل وآليات في التطبيق مارسها الغربيون عبر اكثر من مائتي سنة.. ان الاحزاب الاسلامية العراقية ان استطاعت اليوم ان تخدع الملايين باسم الاسلام والديمقراطية معا.. هكذا معا فانها متوهمة على اشد انواع الوهم، وانها تتبع خطوات ايران الاسلامية في استعارة الديمقراطية غطاء لكل ما تمارسه من نقائض لا تستقيم والحياة المعاصرة اليوم. انني دوما ما اشبه الحالة المخادعة هذه بثنائية التفكير وعادة ما يضيع مثل هؤلاء مصالح شعوبهم، فهم من مزدوجي التفكير والتصرف معا.. ولا يمكن ان يقبض العراق منهم الا وجع الرأس! ان من اصعب ممارسات العراقيين السياسية انهم يستعيرون كل افكارهم من طرفين اثنين اولاهما من الماضي تاريخيا باسم الدين باعتبار ان الاسلام صالح لكل زمان ومكان.. وثانيهما من الغرب جغرافيا باسم الديمقراطية باعتبارها سمة العصر. وهنا نتساءل : اذا كان الاسلام كذلك، فما معنى التشّدق بالديمقراطية الغربية واستعارة بنود من دساتيرها؟ انها حالة لا تستقيم والمنطق، فاما هذه واما تلك. وببساطة، ومن اجل تخليص العراق من كوارث قادمة علينا ان نحترم ديننا الحنيف ولا نزج به في مستنقع السياسة.. وان تجارب العراق السياسية سوف لن تنجح الا بعلمنة الحياة والمؤسسات في الدولة، وليبق الدين باساليبه وتجلياته ونقائه مستودعا في ضمائر الناس.

وأخيرا : ماذا اقول؟
لا يمكنني ان اختتم حقائق العراق الكبرى بهذه التي تحدثت بها في هذا المقال، فثمة حقائق اخرى ستتبعها وساعالجها في مقال آخر. ان العراقيين مدعوون اليوم اكثر من اي وقت مضى الى الوعي بهذه الحقائق من اجل بناء طريقهم نحو المستقبل وعلى اسس ربما تكون صعبة عليهم ولا يستسيغونها، ولكن للضرورة احكام، فالعراق لن يتخّلص من مشكلاته ومعضلاته الا بمعرفة حقائقه الكبرى من قبل اهله الذين يؤلفون بنية المجتمع العراقي.. وليسمح لي قرائي الاعزاء ان اتبع هذا " المقال " بالمحاضرة التي القيتها عن بنية المجتمع العراقي : محاولة في تفكيك التناقضات في غاليري الكوفة بالعاصمة البريطانية لندن الاسبوع القادم.. وساحاول نشرها عليكم قريبا من خلال ايلاف الزاهرة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف