كتَّاب إيلاف

عار المثقفين العرب في العراق

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

-1-

كنتُ أنوي أن يكون عنوان هذا المقال "عارنا في العراق" أشرح فيه كيف ارتكب كثير من العرب العار بحق العراق نتيجة لهذه المواقف السلبية الرسمية والشعبية من محنة العراق الكبرى التي ابتلي بها، والمتمثلة في افساد ونسف العرس الديمقراطي العراقي، واستبداله بعرس الدم اليومي الذي يقام في العراق، ويُزفُّ فيه كل يوم عشرات الشهداء من الأبرياء، ومن رجال الشرطة والجيش العراقي الباسل.
حين كتب سارتر كتابه (عارنا في الجزائر، 1961) لم يتملكه الحياء، ولم تمنعه النعرة القومية الفرنسية - وهو المثقف الليبرالي النبيل- من أن ينتقد أمته فرنسا والجيش الفرنسي، ويرميهما بالعار والشنار عما كانا يفعلانه بالشعب الجزائري. وندد بشدة بالحكومة الفرنسية وبالمثقفين اليمنيين الفرنسيين، ووقف مواقف ايجابية تجاه المعذبين الجزائريين.
فماذا كان موقف المثقفين العرب – ومن ضمنهم أنا شخصياً – قبل التاسع من نيسان/ابريل 2003 من جرائم صدام حسين في العراق؟
لم ينبس أحد ببنت شفة ممن ينددون الآن بفظائع صدام حسين، ومن ضمنهم أنا شخصياً. بل لقد قام كثير من المثقفين العرب بتمجيد هذا الحكم وتأليهه، وكأنهم كانوا يقولون لنظام صدام حسين: هل من مزيد لهذا التعذيب والاستبداد. وقام مثقفون وباحثون عرب بتأليف الكتب المُمَجِدَة للطاغية. ورصد أحمد أبو مطر أكثر من 15 كتاباً أُلفت في صدام حسين منها كتاب الباحث المصري أمير اسكندر ( صدام حسين: مناضلاً ومفكراً وإنساناً)، وكتاب هاني وهيب ( صدام حسين القائد المفكر)، وكتاب الصحافي اللبناني فؤاد مطر (صدام حسين: الرجل والقضية والمستقبل)، وكتاب أنمار جاسم (صدام حسين وعبد الناصر) وغيرها من الكتب التمجيدية والتبجيلية ذات الإنشاء الرخيص المرتزق، التي رفعت بعضها الطاغية إلى مصاف الأنبياء أو الآلهة . كما كنا نشهد كل عام الملتقى الشعري العراقي الشهير (المربد) الذي كانت تتقاطر عليه مواكب من الشعراء العرب الكلاسيكيين والحداثيين. وكنا نقرأ ونسمع شعراء السلطان المرتزقة من نزار قباني إلى عبد الرزاق عبد الواحد، وهم يُبجلون ويُمجدون الطاغية، دون أن يجرؤ أحد منهم على نقده ونقد حكمه، إلى الحد الذي ارتبط مهرجان "المربد" بالمقابر الجماعية، مما دفع ببعض المثقفين العراقين إلى المطالبة بالغاء هذا المهرجان في العهد العراقي الجديد. فهذا المهرجان كان واقعاً تحت أسر فكر السلطة السياسي تماماً. ورأى النظام الفاشي السابق، أن عليه إرشاد الشعراء كيف يكتبون قصائدهم. والمذهل أن أحداً لم يمانع أو يقول ليست هكذا تكون القصيدة، بل على العكس من ذلك سارعوا كبيراً وصغيراً بالموافقة، وتدوين ما تقوله السلطة لكن بالوزن والقافية والبحور. لقد تحول الشعراء في مهرجان شعري لمجرد ببغاوات يحركهم الساسة الفاشيون (ياسر عبد الحافظ، ابتسامة السلطان وأحزان الناس).

-2-
كان هادي العلوي (1932-1998) المفكر العراقي الراحل، يسعى إلى تعريف للمثقف الكوني أو ما يُسميه بالمثقف القُطباني. وهو المثقف الذي يملك لساناً وقلباً، وعقلاً وحكمة. فاللسان بلا قلب، هو بمثابة العين في الظلام، فلا تقشع. والعقل بلا حكمة هو بمثابة الضوء للأعمى، فلا يقشع على حد تعبير الإمام أبي حامد الغزالي. وفي انتفاضة مايو 1968 الفرنسية ، وضع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984) تعريفاً للمثقف الكوني، وهو المثقف الذي يملك الحقيقة والعدالة، ويكون ضمير الجميع وممثل الكل. ونتيجة للأحداث التي شهدتها فرنسا في الستينات مات المثقف التقليدي الذي كان خادماً للدولة والدين والمال . وتلاشت عتبة الكتابة التي كانت "عتبة مقدسة" لا يخطو عليها إلا القديسيون أو "قساوسة الكتابة" الذين قال عنهم جوليان بيندا في كتابه (خيانة القساوسة، 1972) انهم أولئك الذي يرون سعادتهم في ممارسة الفن أو العلم أو التأمل الميتافيزيقي. وقال ريمون آرون في كتابه (أفيون المثقفين، 1968) الشيء ذاته. وكان ادوارد بيرث قد كرر ذلك في كتابه (مساويء المثقفين، 1914). وهذا ما فعله سارتر أيضاً بعد انتفاضة مايو 1968 الفرنسية، حيث قام بمراجعة أفكاره، بعد أن شعر بالشكوك التي تمس وجوده كمثقف. وخلال العامين 1968-1970 وضع سارتر تصوراً جديداً لدور المثقف لا يختلف عن تصور فوكو وملخصه "أن المثقف محكوم عليه بالانسحاب من الأفق كانسان يفكر بدل الآخرين" (محمد الشيخ، المثقف والسلطة، 1991).

-3-
ما دفعنا إلى هذا الاستعراض هو تبيان أهمية دور المثقف في تشكيل الخطاب السياسي والاجتماعي، وخاصة في أزمنة المخاضات كالزمن الذي نشهده الآن. فالمثقف الحقيقي الحر، ليس رجل سياسة بالمعنى الدقيق للكلمة، بل رجل الروح الصارم، وهذه الروح هي مقياس كينونة المثقف فيه، وصيرورتها الدائمة ، كما يقول المفكر العراقي الراحل هادي العلوي.وموقف المثقف العربي تجاه الحالة العراقية القائمة الآن، كان موقفاً فيه كثير من الكذب على النفس وعلى الحقيقة وعلى التاريخ كذلك. وهو العار . حيث تخلّى هذا المثقف عن دوره في دعم حرية الشعب العراقي، بينما هو ينافح عن حريات شعوب أخرى في أمريكا اللاتنيية وأفريقيا ونواحٍ أخرى من العالم. وكأن العراق أصبح معزولاً في كوكب آخر، لا يمسّه إلا الإرهابيون. واتخذ المثقف العربي القومجي المتعصب والديني الأصولي (وهما يمثلان أكثر من 95 بالمائة من المثقفين العرب. ومنتشرون في وسائل الإعلام المؤثرة المختلفة) من الوجود العسكري الأمريكي في العراق حجة سياسية لكي يقف حيناً موقف المتفرج من هدر دماء العراقيين كل يوم، أو يقف حيناً آخر موقف المادح والمشيد بمثل هذه الأعمال. وهذه المواقف ليست حباً في الارهاب والارهابيين في معظم الأحيان، ولكنها كيداً لأمريكا وللسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
ولكن، رغم هذا الظلام الفكري والثقافي، ورغم هذه التعمية الإعلامية التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، ورغم هذا الفزع والخوف الذي اجتاح ويجتاح العالم العربي أنظمة ومثقفين من الزلزال العراقي المفاجيء والقوي، فلا زلنا نرى في ليل العرب الكالح بصيص أمل ونور، وأصوات عقلانية تعيد الوعي أو جزءاً من الوعي للعقل العربي. فعلى سبيل المثال لا الحصر يشير المفكر التونسي هشام جعيط في حوار مع آمال موسى، إلى أن دخول الأمريكان إلي العراق أمر ايجابي. واستدرك بأنه ليس ايجابياً في المطلق، طبعاً . وأضاف جعيط بقوله "كنت أتفهم أن الوطن العربي لن يتطور نحو الديمقراطية إلا بالقوة، لذلك لا بد من قوى خارجية". ويقول جعيط "إن كثيراً من الناس كانوا يعتبرون أن الاحتلال الأمريكي للعراق غير شرعي، ولكن هذا من الناحية القانونية. فصدام ليس كغيره من الديكتاتوريين لأنه شنَّ حروباً ضارية غير شرعية على إيران وغزا الكويت. فهو ديكتاتور غزو واحتلال. ومن هذه الوجهة تصبح تنحيته شرعية . (منجي الخضراوي ، "القدس العربي" 13/7/2005).
ورغم هذا الظلام العربي الكالح، يبدو لنا من بعيد أن هناك بصيص نور وقافلة تنوير، عندما نقرأ مقالات المفكر القطري المستنير عبد الحميد الأنصاري والمفكر الكويتي الليبرالي أحمد البغدادي وغيرها من المقالات العقلانية الليبرالية النادرة التي كانت كعين الماء في الصحراء العربية المقفرة من الفكر والواقعية السياسية، والرؤية التاريخية الصادقة. ومن يطّلع على تساؤلات الناقد والكاتب الفلسطيني مفيد مسوح التي يطلقها، يجد بصيص أمل باقٍ في العقل العربي، ومنها:
ألم تمسخ طروحاتُ الأحزاب الدينية النضالَ الوطني ومقاومةَ الاحتلال ِ واستغلال ِ احتكارات العالم الرأسمالي لطاقات الشعوب الفقيرة المتواضعة، عندما حولتها إلى مقاومة دينية وجهاد ديني في سبيل الله حارمةً إياه الصفة الوطنية النبيلة ؟
ألم تتقاطع برامج الأحزاب الدينية، التي تدَّعي الوسطية والابتعاد عن الأصولية، مع حركات أصولية رجعية ذات أهداف سياسية تتنافى مع العصر ومفاهيمه وتروِّج للعنف ولاستخدام الوسائل اللاإنسانية في التعبير عن برامجها؟
ألم يعلن أصحاب مراكز إفتائية في هذه الأحزاب تأييدهم المطلق للعمليات الإنتقامية، مهما كان شكلها ووسائلها وضحاياها، لأنها تأتي بإرادة عُلـْوية؟
ثمَّ كيف لنا أن نصف هذا الجهاد بالديني في ساحة تتنوع انتماءات أفرادها؟

وهل الطفل الفلسطيني الذي يفجـِّر نفسه في حافلة يقوم بهذا العمل انتقاماً لله؟ (افتى الشيخ القرضاوي بأن اشتراك الأطفال في الانتفاضة الفلسطينية جهاد‏,‏ موضحاً أن هناك نوعين من الجهاد‏: أحدهما جهاد الطلب وهو فرض كفاية‏ لايخرج إليه كل الناس‏.‏ والآخر فرض عين اذا اغتصب أرض المسلمين وجب على المسلمين جميعاً أن ينفروا‏ فيخرج الولد دون إذن والديه‏.‏ وأن هؤلاء الأطفال الأشبال أسود تتباهي بهم الأمة ("الأهرام" 26/4/2001).

فهل يحتاج الله إلى الأطفال ينتقمون لعقيدته بهذه الطريقة؟

وكم من الأطفال سيتطلب الأمر إلى أن يشاء الله؟
وهل قدَّم المحرضون أطفالهم ضحايا لهذه الأعمال الشريفة؟
هل قطعُ أعناق الرهائن المختطفين مبرَّرٌ أيضاً إرضاءً لله؟
وهل يرضي الله وأحزابه أن يجنَّدَ متخلـِّفون وأفرادُ عصابات لمحاربة الشعب العراقي وعرقلة خطة تحرر وطنه وعمليات إعادة بنائه بعد أن حطَّمه الفكر الصدامي والطائفية البغيضة؟

-5-
ما يجري الآن من تزوير للتاريخ في الثقافة العربية المعاصرة حيال ما هو قائم في العراق، هو أشبه بهذيان جماعي كما وصفه العفيف الأخضر (المثقفون والعمليات الانتحارية: هذيان جماعي، "الحياة"، 19/8/2002). ويرد العفيف الأخضر سبب هذا الهذيان الجماعي المرفوض أخلاقياً ودينياً وسياسياً الى "الثقافة المنغلقة والانتحارية، السائدة في مجتمعاتنا، والغياب الفاجع للفكر النقدي عن فكرنا السائد. وأن حماس النخبة المثقفة لهذه العمليات الانتحارية يُلقي أضواءً كاشفة على تجذّر هذه الثقافة في سلوكياتنا وتخيلاتنا".
من جهة أخرى، بلغ تزوير الحقيقة حداً كبيراً من قبل كثير من المثقفين سواء في الشرق أو في الغرب، عندما قالوا أن لا حل لمشكلة الارهاب إلا بالتحاور مع الارهابيين. ويضرب لنا بعضهم (هيلينا كوبان، كريستيان ساينس مونيتور، 30/6/2005) مثلاً بما حصل في جنوب إفريقيا. فالنظام العنصري في جنوب إفريقيا كان يرفض لعقود التحدث مع المؤتمر الوطني الإفريقي الذي يتزعمه نيلسون مانديلا تحت الذريعة الواهية أن أعضاء المؤتمر الوطني كلهم "إرهابيون". لكن عندما شرعت حكومة البيض سُنَّة 1990 في إجراء المحادثات مع نيلسون مانديلا ، وجدوا حزب المؤتمر الوطني مستعداً لدخول العملية السياسية على أساس عادل، يعتمد مبدأ شخص واحد، صوت واحد. وقد استطاعت جنوب إفريقيا بفضل النهج الذي اتبعه حزب المؤتمر الوطني بجماهيره المنضبطة والمنظمة أن تؤمن انتقالاً سلساً نحو الديمقراطية.
ولكن هل اسامة بن لادن بمثل قامة ومن قماشة مانديلا، لكي يتم التحاور معه؟
وهل جماعة الزرقاوي يرقون إلى فكر وحداثة حزب المؤتمر الوطني، لكي يتم التحاور معهم؟
وهل يوجد بين العرب كلهم الزعيم المتسامح والمتصالح مع نفسه وشعبه وأعدائه، كما فعل مانديلا بالبيض في جنوب إفريقيا؟
وأين هي الجماعات الإرهابية الأصولية العربية التي لديها الاستعداد للالتزام بالديمقراطية والمشاركة السياسية لكي يتم التحاور معها، وهي التي تعرض عن كل هذا، بل وتكفِّر كل من يمارسه من الأحزاب الأخرى؟

-6-
وبعد، فهل موقف كثير من المثقفين العرب مما يجرى الآن في العراق والذي وصفناه بالعار، مرده كراهية المثقفين للشعب العراقي، أم مرده خوف العرب من أن يتكرر الفيلم العراقي في بلادهم (وهو ما حرص جيران العراق على قوله، لذلك قاموا بتشويه وتزوير الفيلم العراقي، وإشراك الارهابيين في تمثيل أدواره الرئيسة، واخراجه بهذا الإخراج الدموي الفظيع)، أم مرده تعلق النخب العربية بحكم الطاغية وعطاياه ومطاياه وكوبونات النفط التي فضحتها جريدة "المدى" العراقية في 2004 ، أم كراهية بقوى المعارضة العراقية التي استقوت بالتدخل الأجنبي وخاصة بأمريكا؟
أظن أن السبب الأخير هو السبب الرئيس لعار المثقفين العرب في العراق.
ولكن، ما بال الذاكرة العربية المثقوبة تنسى أو تتناسى، بأن العرب على مدى تاريخهم الطويل قاموا بالاستقواء بالخارج لغلبة بعضهم على بعض؟
فقد استقوى الرسول عليه السلام بالأنصار من أهل المدينة المنورة على أبناء جلدته وعشيرته من قريش. واستقوى الشريف حسين قائد "الثورة العربية الكبرى" بالإنكليز وحلفائهم، للتخلص من الحكم العثماني خلال الحرب العالمية الأولى. واستقوى السلطان المغربي حفيظ بن الحسن الأول بفرنسا (معاهدة الحماية الفرنسية، 1912) لحماية عرشه. واستقوت مصر بأمريكا والاتحاد السوفيتي لرد العدوان الثلاثي عنها عام 1956. واستقوى الأفغان بأمريكا وأوروبا لمقاومة الحكم الشيوعي في أفغانستان. واستقوت الكويت بأمريكا ودول العالم لتحريرها من قبضـة صدام حسين عام 1991. والأمثلة على الاستقواء
بالخارج، لا حصر لها في التاريخ العربي القديم والحديث.
فلماذا ينكر كثير من المثقفين العرب على العراقيين الاستقواء بقوات التحالف، لإسقاط طاغية كان لا يمكن اسقاطه إلا بالاستقواء بالخارج؟
يا لعار هؤلاء المثقفين، وضيق بصرهم، وفقدان بصيرتهم.

Shakerf@Comcast.net

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف