تعددية المقدس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
".. لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" (حديث شريف)
المقدسات قديمة قدم البشرية (من ينسى تفاحة آدم المقدسة؟) وتختلف الأمم، قبائل وشعوبا، من حيث مقدساتها التي تؤمن بها وتدافع عنها حتى بالسلاح، إن اقتضى الأمر، بدل أن تتعارف هذه االشعوب والقبائل لا أن تتحارب!
المقدس قد يكون رمزا معنويا وقد يكون حقيقة مادية. يتفاوت شكل المقدس وطبيعته من جماعة إلى أخرى، وقد يأخذ المقدس اشكال متعددة حتى داخل الجماعة الواحدة.
علينا الإقرار، بدءا، بقدسية المقدس واعتباره حقا لا نزاع فيه لكل أمة ودين وطائفة وجماعة وشخص، كجزء من حرية الإيمان الديني قدر ما يتعلق الأمر بالخيار الشخصي، أو الجماعي، المسالم، وطالما لا يتعارض هذا الحق مع حقوق الآخرين، كالحرية نفسها.
تتعدد مقدسات الفرد أو تتجاور أو يأخذ أحدها الأولوية على غيره من المقدسات، فثمة من يقدس المال فتهون لديه مقدسات أخرى وتصبح ثانوية إذا مس ماله، من هنا نشأت عبارة "عبيد المال" ويمكن القياس على هذا لنجد" عبيدا" آخرين يعبدون آلهة أخرى.
يشكل الصدام المباشر بين مقدسين، أوأكثر، لحظة عنف لا يمكن حساب نتائجها ولا ضحاياها، وقد اندلعت صدامات عنف عديدة عبر التاريخ، أكثر من أن تحصى، وإن أخذت أشكال صراع سياسي أو حروب أهلية، أو إقليمية أو عالمية (النازية مبدأ مقدس يستحق الحرب على العالم الأدنى وقادسية صدام مقدسة لأن تحرير فلسطين يمر عبر عبادان، ويجيبه الخميني بأن تحرير فلسطين يمر عبر كربلاء)!
خرج محمد، نبي الإسلام(ص) مسلحا بمقدسه الجديد(كتابه المنزل ودينه الإسلامي) على المجتمع الجاهلي، بمقدساته القديمة( اللات وعزى وهبل) فقوبل بالعصيان والمقاومة بل تعرض النبي الجديد لشتى أنواع الرفض التي بلغت حد الإغتيال ومن ثم الحروب والحروب المضادة، مع قريش وغيرها.
لكل مقدس دعاته: داعية مقدس وداعية غير مقدس (سائر دعاة المسلمين في العصور اللاحقة والعصر الحديث). ومنهم دعاة يدافعون عن مقدسـ (هم) بقوة السلاح والتفخيخ أيضا: استعادة الخلافة من البشر الفاسدين وإرجاعها لله وحده، كما يقولون هم، وذلك بإقامة الخلافة الإسلامية( أسامة بن لادن وخليفته أبو مصعب الزرقاوي ومعهم لفيف من المنظرين والدعاة والإعلاميين الورقيين والفضائيين.
مع تعددية المقدس ثمة نسبية المقدس، فما هو مقدس لدى جماعة أو أمة هو غير مقدس لدى جماعة أو أمة أخريين. فالله مقدس لدى المؤمنين في الديانات التوحيدية، وبوذا هو المقدس لدى البوذيين والبقرة هي المقدسة لدى الهندوس" لدى الهنود وحدهم مئات الآلهة، ويقول الدكتور أحمد شلبي في كتابه( أديان الهند الكبرى): يتجه التفكير الهندوسي فيما يخص الإله إلى نزعة التعدد غالبا، وقد بلغ التعدد عندهم مبلغا كبيرا، فعندهم لكل قوة طبيعية، تنفعهم أو تضرهم، إله يعبدونه، ويستنصرون به في الشدائد، كالماء والنار والأنهار والجبال وغيرها، وكانوا يدعون تلك الآلهة لتبارك لهم ذريتهم وأموالهم من المواشي والغلات والثمار وتنصرهم على أعدائهم".
اكتسبت أخلاق الأمم تطبيقاتها على ضوء مقدساتهم وعقائدهم، فالعرض المقدس لدى عدد من الأمم هو غير مقدس لدى أمم أخرى، فثمة قبائل أفريقية يقدم الرجل فيها زوجته لضيفه كنوع من كرم الضيافة!
بتعدد المقدس ونسبيته، عبر الحقب وتعاقب الأمم، لابد لبعض المقدسات من أن تتحول إلى غير أوجه التطور المحايث لتطور الحياة، ومن أوجه هذا التحول تحول المقدس من شأن شخصي يخص الفرد وربه وسائر شؤون دينه وعباداته إلى آيديولوجيا سياسية إرهابية، يعزوها الباحث عبد الحق الحر( وهو اسم مستعار خوف إرهاب المقدس) إلى جذرها الأول الذي يطلق عليه "الانقلاب الأموي" عندما تغلبت الثقافة الجاهلية على الرسالة السماوية... وهكذا حدث أول انحراف ظهر على إثره إسلام جديد يختلف عن إسلام الرسول(ص).
تناقض المقدس مع غير المقدس أورث التاريخ الإسلامي صداعا قاتلا ولخصه تناقض الدولة الأموية (غير المقدسة) مع النص المقدس (القرآن) ليتطور هذا الصداع إلى آيديولوجية الشيزوفرينيا، أو بعبارة أخرى: فصام حاد بين سلطة المقدس (القرآن الكريم) وسلطة الفقهاء( غير المقدسين).
.... ويستمر الحال لنبلغ هذه المرحلة من التفسير والتفسير المضاد وقد أخذا شكلهما المسلح ليتفرع المقدس إلى( أو يفرِّخ)مئات المنظمات( الفرق)والكتائب الإرهابية التي تتواصل بسلسلة صدئة من شرق آسيا إلى عمق أمريكا، وقد تحالفت أكثر من مافيا بحلف غير مقدس، بين السياسي والمقدس، وانخدع الملايين من بسطاء الناس بوعود المقدس السياسي المسلح بالزواج بحور العين في أعالي السماء حيث جنان الخلد.
يقول عبد الحق الحر في مقدمة كتابه (تحالف الشيطان/ مافيا السياسة و مافيا الأديان): "النسبية ليست في الحق ولا في الحرية.. فالحق حق مطلق هو الله، والحرية حق مطلق لكل البشر" ولكن ثمة مطلقات مستدحثة بعدد الجماعات والمذاهب والأحزاب والهيئات المسلمة وغير المسلمة، تحرم الاقتراب منها كمقدسات غير قابلة لسماع السؤال والنقد وأي أشكال الحوار، بل الأخطر أنها تشهر السلاح بوجه الآخرين ليس بسبب الاختلاف الفكري أو السياسي أو المذهبي، حسب، بل على أساس الشكوك وافتراض النوايا والمشاعر الخاصة، حتى الدفينة منها.
حتى لو زهدنا بمبادئ الاختلاف وأسئلة النقد الضرورية بوجه المقدسات وطبعاتها الخرافية، فهل لنا أن نتمسك بدعوى التجاور الاجتماعي والتعايش السلمي بين المقدسات، سواء الشخصي منها أو الجماعي، لكي نجنب المجتمع البشري ويلات الصدامات والحروب والغزوات والمفخخات، ونعود إلى جوهر الديانات كلها: السلام والمحبة وما أكرم الناس غير أتقاهم؟
أُسبغ المقدس على أتفه النظم السياسية والحكام والسلاطين والأفكاروالطوائف وأكثرها تدنيسا للإنسان، أشرف مخلوقات الله، وكلما أوغل هذا المقدس بقدسيته، وابتكر له وعاظ السلاطين من مبررات وتفسيرات وتسميات، نزل الإنسان إلى الحضيض، مجردا من أبسط مقومات وجوده: البقاء على قيد الحياة حتى!
إن المرارات التي يعيشها الناس هذه الأيام تجعلهم يكفون عن التحرش بالمقدس أو غير المقدس خوف بطش السلطات التي تدعي القداسة، وهي سلطات متنوعة ومتداخلة ومتواشجة ومتساندة كالبنيان المرصوص. إنها غريزة الحياة والتشبث بها والذود عنها بما هو متاح ومسموح ومقبول، رغم جميع الوسائل المتاحة وغير المقبولة واللامسموح بها التي يستخدمها مزيفو المقدس وشرائعه وآيديولوجياته لمنع الناس عن التمتع بحرياتهم كحقوق مطلقة وممارسة ما يؤمنون به من مقدسات، مطلقة أو نسبية، كتصرف شخصي لا يصطدم مع مقدس الآخر ولا يلغيه، بل قد يغنيه ويصونه وينقذه من عدوانيته ويعلمه أسباب الأخوة الإنسانية وما يؤثث سطح هذه الكرة الصغيرة وسماءها بالبهاء والحب والسلام والمسرة.