أسر العقل؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
في إحدى لمحاته الذكية أفاض شيخ الفلاسفة في العالم يورجن هابرماس في التأكيد على أن: " العلم ينير العقل ويبدد أوهامه الكثيرة حول العالم. وحين نتعلم شيئا جديدا عن أنفسنا ككائنات في العالم يتغير مضمون فهمنا الذاتي. وقد قلب كوبرنيكوس وداروين صورة العالم التي كانت تتمركز حول الأرض وحول الإنسان رأسا على عقب.
بيد أن تخريب الوعي الفلكي فيما يتعلق بمدار النجوم ترك في عالم الحياة آثارا أقل مما تركه نزع الوهم البيولوجي فيما يتعلق بمكانة الإنسان في تاريخ الطبيعة. ويبدو أن المعارف العلمية تزعج فهـمنا الذاتي بدرجة أكبر كلما اقتربت منا ".
وحتى نفهم مغزى كلام هابرماس، يجب التوقف عند محطات رئيسية غيرت الوعي الإنساني هي: نظرية مركزية الأرض ونظرية التطور واكتشاف الخريطة الجينية للإنسان أخيرا. بالتوازي والتزامن مع ما حققه عصر النهضة الأوروبية و التنوير وصولا لمرحلة ما بعد الحداثة اليوم.وتحتل الثورة التي قادها رجال عصر التنوير أو العقل، مكان القلب في هذه القضية المحورية.
و عبر"كانط"، قمة عصر التنوير ودرته، أصدق تعبير عن روح هذا العصر في مقال بعنوان "جواب عن سؤال: ما التنوير؟".. نشره عام 1784 في مجلة شهرية ببرلين، في هذا المقال عرف كانط التنوير بأنه "هجرة الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول وحده عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام العقل، والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره لأن العلة في ذلك ليست في غياب "العقل" وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين، لتكن تلك الشجاعة على استخدام عقلك بنفسك، ذلك هو شعار التنوير".
من هذه الزاوية يقال إن العقل مستقل، واستقلال العقل يعني أنه عقل مستقل، واستقلال العقل يعني أ،ه عقل ناقد، وهذا هو السبب في تعريف التنوير للفلسفة بأنها العادة المنظمة للنقد، وهذا التعريف لا يساير التعريف التقليدي للفلسفة، وكان كانط أيضًا قمة هذا العصر النقدي بكتابه العلامة نقد العقل الخالص.
إن دينامية العقل تعتمد على مجموعة من المقومات الهامة، منها حرية القبول والرفض (الشك)، ذلك أن ما يقدم أمام العقل من عناصر خبرية لا تكون ملزمة للعقل الحر بأن يتناولها بإقامة العلاقات التفاعلية فيما بينها، بل هو يقبل ما يريد أن يقبله ويرفض ما يريد أن يرفضه. كذلك فإن من خصائص العقل أنه لا يعرف الكلمة النهائية أو الانتهاء إلى موقف حاسم نهائيًا، فما يصل إليه من نتائج لا يستحيل إلى معتقدات مطلقة، بل يظل مطروحًا للفحص والدراسة والتطوير والتعديل والتغيير.
وأيضًا فإن دينامية العقل تقوم باستمرار بعمليتين أساسيتين هما التحليل والتركيب، يرد المركبات إلى عناصرها الأولى، وعملية تركيب مركبات جديدة من العناصر المتوافرة بعد القيام بالتحليل.
معنى ذلك أنه إذا ما أُسر العقل، فإنه لا يسمح له بالقيام بهذه العمليات الثلاث الأساسية، بل يقسر على تقبل ما يقدم إليه من قوالب اعتقادية جاهزة لا تقبل التطوير أو التعديل أو التغيير.
والواقع أن طبيعة المعتقدات أو الدُوجمات هي طبيعة استاتيكية ساكنة وليست طبيعية ديناميكية ثائرة. وما يظن أنه دينامية ثائرة في نطاق المعتقدات إنما هو في الواقع حرب وتطاحن بين المعتقدات بعضها ببعض، أو ما يعرف بصراع المطلقات، ذلك لأن المطلق بحكم طبيعته واحد، لا يقبل التعدد، ومن هنا فإن تعدد المطلقات يدخل بالضرورة في صراع.
وحتى إذا انقسم المعتقد الواحد إلى شيع وطوائف، فإن ذلك لا يدخل في نطاق التطور بل يدخل في نطاق الانقسام، فليست هناك إذن ديناميكية ثائرة داخلية في دخيلة المعتقد نفسه تسمح له بأن يتطور ويتفتق عن جديد غير مسبوق في عقيدته أو معتقده. فقد أدت ثورة رجال الإصلاح الديني في أوربا عصر النهضة أمثال "لوثر" (1483 - 1546) و"كالفن" (1509 - 1564)، و"زوينجلي" (1484 - 1531)، و"سيرفيتوس" (1511 - 1553)، وغيرهم، إلى الانقسام داخل العقيدة المسيحية الواحدة (الكاثوليكية = الجامعة) ولم يعمل ذلك على تقدم المسيحية وإنما عمل على إضعافها، فيما نشاهده من التطاحن والحرب الضروس بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا.
وهذا على العكس تمامًا مما حدث في نطاق العلوم في أوربا عصر النهضة أيضًا، فثمة دينامية ثائرة تعتمل في نطاق العلوم والتكنولوجيا تؤدي إلى حدوث تطورات حقيقية وإلى نشأة الجديد دائمًا الذي لم يكن له وجود قبل ذلك.
وهنا يتضح أن المنهج الاعتقادي يتصف بالاستمرارية (الاستاتيكية) غير المتطورة، بينما يتسم المنهج العلمي بالتطورية المتغيرة، وبينما يأخذ المبدأ الاعتقادي بالمبدأ الإطلاقي التقديسي، فإن المنهج العلمي يأخذ بالنسبية ويجعل محك القيمة هو الفائدة أو العائد.
وهناك قيم اعتقادية تساعد على طغيان الاعتقاد على الفكر وأسر العقل وشل حركته، منها "التابوهات" Taboos أو المقدسات واللا مساسات والمحرمات، والتابو قديم قدم المجتمعات البشرية، وإن اتخذ أشكالاً متباينة مع تباين المجتمعات واختلاف العصور. وما تزال قيم اللا مساس معتملة في نفوس الكثيرين، تغذي الخشية من الاعتداء على حرمتها إلى الحيلولة دون التقدم، من ذلك مثلاً ما يثار اليوم عن التدخل في الخلايا الوراثية للإنسان و الهندسة الوراثية، والاستنساخ... الخ.
فقد تأخر تطوير علم الطب حتى القرن الرابع عشر بسبب تحريم الكنيسة القيام بشريح جثة الميت، وأول من تجرأ على تشريح جثة ميت هو طبيب إيطالي في "بادوا" بإيطاليا، وذلك عام (1315)، ولكنه لم يجرؤ على فتح رأسه وتشريح دماغه خوفًا من ارتكاب الخطيئة القاتلة والخروج على تعاليم الدين المسيحي أو "المقدسات"، لذا كان يضع فوق طاولة التشريح كرسيًا لراهب يتلو صلوات من أجل راحة نفس الشخص الذي كان يشرحه، واستمر هذا الوضع حتى عام 1405، حين ألغى مجلس شيوخ البندقية سلطة محاكم التفتيش".
ومما يذكر عن محاكم التفتيش في هذا الصدد أنها انتقمت من "بطرس الآبانوي" - أبرز المؤسسين للرشدية اللاتينية في جامعة "بادوا" بايطاليا عصر النهضة
- حتى بعد وفاته، إذ مات بطرس ومجلس التفتيش يبحث قضيته، وكان عقابه حرق عظامه عقابًا له! لذا ظل اسمه في ذاكرة العوام مثقلاً بالمـكايد الجهنـمية.
ومن المفارقات أيضًا أن "توركويمادا" (1420 - 1498) - أشهر رئيس لمحاكم التفتيش في أسبانيا، كان يبرر إحراق مئات "الزنادقة" و "السحرة" على الخازوق (وتعريف الزنادقة والسحرة كان: كل منشق على الكنيسة الكاثوليكية أو رافض لها في العقيدة أو السلوك أو المصالح) بقوله: "نحن نحرقك في الدنيا رحمة بك، حتى ننقذك من النار الأبدية في الآخرة".
وقد امتدت تهمة الزندقة إلى"الإبداع" العلمي وقتئذ، ذلك أنه كان ثورة على الموجود والقائم والمستقر، وإحلال الجديد محله، وأبرز نموذج في التاريخ الحديث هو "جاليليو" الذي أيد نظرية "كوبر نيكوس" القائلة بدوران الأرض حول الشمس، وهو ما يتعارض وتعاليم الكنيسة الكاثوليكية التي أكدت ثبات الأرض باعتبارها مركز الكون، واعتبرت القول بعكس ذلك "بدعة" و"ضلالة" فقد أصدر جاليليو كتابه المعنون بـ حوار حول النظامين الرئيسيين للكون: النظام البطليموسي والنظام الكوبرنيكي عام 1632، وأعلن في شجاعة: "أن نظرية مركزية الأرض ليست سوى خيالات ملفقة".
وفي العام 1632 منع كتابه وحظر نشره، وأدين جاليليو بالفعل من قبل محاكم التفتيش، واستمر هذا المنع حتى عام 1822، حيث أعيد نشره على نطاق واسع.
وتكشف مأساة جاليليو عن أمرين غاية في الأهمية، الأمر الأول هو أن جاليليو لم يتعرض للمساءلة والمحاكمة لمجرد قوله بدوران الأرض حول الشمس، أو لخروجه على نسق فكري لعلاقات بنية فلكية مستقرة تتبناها الكنيسة الكاثوليكية وهي "مركزية الأرض"، وإنما لأنه أبدع نسقًا فلكيًا جديدًا خلخل البنية الاجتماعية الطبقية السائدة والمستقرة آنذاك.
وقد عبر "برتولد بريشت" تعبيرًا رائعًا عن هذه الحقيقة في المشهد العاشر من مسرحيته (حياة جاليليو) إذ يقول منشد الجوقة في بعض المقاطع:
لما انتهى الرب القدير من خلق الدنيا
على الشمس نادى وإليها أصدر أمرًا
أن ترسل ضوءها حولنا وهي تدور
وهكذا بدأت تدور الكائنات الصغيرة حول الكبيرة
في السماء كما في الأرض
فحول الباب يدور الكرادلة
وحول الكرادلة يدور الأساقفة
وحول الأساقفة يدور الأمناء
وحول الأمناء يدور الآباء
وحول الآباء يدور الصناع
وحول الصناع يدور الخدم
وحول الخدم يدور الكلاب والدواجن والشحاذون
هذا أيها السادة الطيبون هو النظام
ولكن ماذا حدث بعد ذلك أيها الناس الطيبون
... جاء الدكتور جاليليو
فألقى بعيدًا بالكتاب المقدس ثم صوب منظاره
وألقى على الكون العظيم في نظرة
وللشمس قال: إبق في مكانك
سيدير الإله الخالق كل شيء على خلاف ما فعل
آه.. آيتها السيدة: حول خادمتك
ستدورين منذ الآن".
الأمر الثاني هو أن جاليليو "كان أول من استخدم اللغة العامية الإيطالية في الكتابة "العلمية" ومعروف أنه يتميز بروعة أسلوبه، فقد صدر أكثر من كتاب في الغرب يشيد ببلاغة جاليليو، وأن اختياره للعامية وتحديه للغة اللاتينية كان سببًا من الأسباب الرئيسية في عدم الرجوع عن إدانته. صدرت إدانة جاليليو عام 1633، حين أعلنت محكمة الكرسي المقدس، بعد محاكمة استمرت ستة شهور أنه: "يشتبه لآخر درجة في خروجه عن الدين القويم (الهرطقة) لأنه نادى وآمن بعقيدة كاذبة مخالفة للكتاب المقدس عقيدة مؤداها أن الشمس هي مركز العالم، وأنها تتحرك من الشرق للغرب، وأن الأرض تتحرك وليست مركز العالم".
أضف إلى ذلك أن التحقيقات أثبتت أنه بدلاً من أن يكتفي بالدفاع عن مذاهب منحرفة إلى هذه الدرحة، فقد أراد نشرها على أوسع نطاق ممكن، واتبع حيلة تلخصت في اختياره الكتابة باللغة العامية.
فقد كانت الكنيسة الكاثوليكية تقدس اللغة اللاتينية لغة الدين والعلم في العصور الوسطى، وكانت تعتبر اللغات العامية أو الشعبية "لهجات منحطة"، وكان أول ما فعله "لوثر" في عصر النهضة هو ترجمته للكتاب المقدس من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية الدارجة وذلك في عام (1522 - 1530)، وكان يعتبر أفضل قاموس في العالم هو قاموس الأمهات في البيوت والأطفال في الشوارع والرجل العادي في السوق، وهو القاموس الذي استفاد منه في الترجمة، والذي أبدع من خلاله "جوته" و"شيللر" و"هلدرلين"، من بعده، روائع الأدب الألماني العالمي.
كاتب المقال أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس