إيران وسياسة الهاوية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يضع قرار إيران إعادة العمل بالبرنامج النووي الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة والعالم العربي أمام مفترق محفوف بالمخاطر، ولكنَّه يوفِّر فرصة تاريخيَّة لتحقيق تقدم جذري في عدد من الملفَّات الساخنة تقف الدبلوماسيَّة العربيَّة عاجزة حيالها. هذه الملفَّات هي: شرق أوسط خالٍ من السلاح النووي، انسحاب إسرائيلي شامل إلى حدود عام سبعة وستِّين، عودة اللاجئين وإقامة دولة فلسطينيَّة. هذه الملفَّات تضمَّنتها مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز التي أقرَّتها قمَّة بيروت سنة 2002، ورفضتها إسرائيل بسبب عدم وجود ورقة تضغط بها الدول العربيَّة على الولايات المتَّحدة لتضغط هي بدورها على إسرائيل. نعتقد أنَّ الملف النووي الإيراني يهيِّئ مثل هذه الورقة، ومن الخطأ الكبير في رأينا، أن تتنازل الدول العربيَّة الكبرى عنها مجانًا قبل استكشاف محاولة استعمالها بما يضمن تحقيق مكتسبات عربيَّة في الملفَّات آنفة الذكر.
نحن ضد السلاح النووي ومن الداعين إلى عالم متحرِّر من أسلحة الدمار الشامل. ولكنَّنا نفهم إصرار إيران على تطوير قدراتها النوويَّة طالما أنَّ جيرانها إلى الشمال والشرق: روسيا والهند وباكستان والصين، وخصمها إلى الغرب إسرائيل، تملك كلُّها ترسانات نوويَّة مختلفة الأحجام والأنواع. لقد أدركت إيران أنَّ العالم الذي هاله انضمام كلٍّ من باكستان والهند لنادي الدول مالكة القنابل النوويَّة، غضَّ النظر بين ليلة وضحاها عن الموضوع لأسباب سياسيَّة بحتة. من هنا نفهم غيظها ممَّا تراه ازدواجيَّة في المواقف الدوليَّة، قائمة على ما يبدو وكأنَّه عنصريَّة سياسيَّة، أي أنَّها ضدُّ إيران ليس إلاَّ! في رأيها، إمَّا أن تكون التقنية النوويَّة للجميع أو لا تكون.
أمام المجتمع الدولي طريقان لحل الأزمة الإيرانيَّة: سلمًا أم حربًا. الحل الحربي سوف يكون مكلفًا للولايات المتَّحدة والغرب وللعالم العربي. الحلُّ السلمي يبدو متعذِّرًا لأنَّ إيران لم تضع حتَّى الآن شروطًا واضحة لإيقاف برنامجها النووي. نعتقد أنَّ من مصلحة الدول العربيَّة بقيادة سورية والسعوديَّة ومصر أن تبلور تصوُّرًا عربيًّا إيرانيًّا مشتركًا يحظى ربَّما بمباركة تركيَّة، يقوم على رزمة شروط تتخلَّى إيران عن برنامجها النووي في حال تطبيقها. في مقدِّمة هذه الشروط: شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النوويَّة، أي تدمير الترسانة النوويَّة الإسرائيليَّة، ونزع سبب التوتُّر المستمر - الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى ما تراه إيران شروطًا محقَّة لها أمنيًّا واقتصاديًّا.
إنَّ تصوُّرًا مشتركًا كهذا من شأنه أن يضع الولايات المتَّحدة والمجتمع الدولي في خطٍّ تصادميٍّ مباشر مع إسرائيل ومع صقورها في الإدارة الأميركيَّة. فالمطلوب هو ربط الملف النووي الإيراني بالإسرائيلي، والإصرار على حلٍّ شامل. لإسرائيل قدرة كبيرة على المناورة، ولكنَّها قدرة متناقصة لأنَّ المعطيات المتغيِّرة لا تتيح لها ولا لصقورها داخل الإدارة الأميركيَّة مقاومة عالم يرغب كلُّه في إزالة الخطر النووي من أحد أكثر المناطق التهابًا.
لا ريب في أنَّ طاقم المؤسَّسة الإسرائيليَّة في الإدارة الأميركيَّة الحاليَّة قويٌّ ولكنَّه تعرَّض مؤخَّرًا لفضائح كبيرة برز منها إلى السطح فضيحة مسؤولَي "آيباك" اللذين اعتقلا بتهمة التجسُّس لإسرائيل، وفضحية "أبراموفيتش" المتعلقة برشوة مسؤولين أميركيِّين، ما دفع عددًا كبيرًا من الكتَّاب الإسرائيليِّين واليهود المعارضين إلى تكثيف حملاتهم المناهضة لإسرائيل ولصقور الإدارة الأميركيَّة ومعظمهم من الصهاينة. فيما يلي بعض النماذج.
في عدد هآرتس الصادر في تاريخ 16 كانون ثانٍ (يناير) الحالي، كتب جدعون ليفي مقالاً بعنوان: "اتِّصال هاتفي صغير." سخر فيه من قدرة إسرائيل على مواجهة الضغوط الأميركيَّة، ومنوِّهًا بقرار السماح للفلسطينيِّين المقدسيِّين المشاركة بالانتخاب الذي لم يتطلَّب أكثر من "اتِّصالٍ ً هاتفيٍّ واحد، وربما اثنين".
في 14 من الشهر نفسه، نشرت صحيفة "Aftenposten" النرويجية مقالاً للكاتب اليهودي المناهض لإسرائيل نورمن فنكلستين بعنوان: "المقاطعة الاقتصاديَّة لإسرائيل؟" وذلك في أعقاب الضجَّة التي أثارها فتح موضوع مقاطعة النرويج لإسرائيل. في هذا المقال، يذكر فنكلستين ثلاثة أسباب موجبة لمقاطعة إسرائيل: "قتل المدنيِّين، التعذيب وهدم البيوت." ويحمِّل الدول الأوروبيَّة مسؤوليَّة التغاضي عن الجرائم الإسرائيليَّة لدرجة حجبها لتقرير أوروبي يدين انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها إسرائيل.
الكاتب الإسرائيلي الشهير يوري أفنيري كتب أيضًا مقالاً عنوانه: "مع أصدقاء مثل هؤلاء.." هذه العبارة هي النصف الأوَّل لمثل إنجليزي يقول: "مع أصدقاء مثل هؤلاء مَن يحتاج إلى أعداء!" يلخِّص أفنيري المخاطر التي سيتعرَّض لها اليهود بسبب ممارسات غلاة الصهاينة من يهود ومسيحيِّين في الإدارة الأميركيَّة، والتي قد تسبِّبت بقيام انطباع بأنَّ "إسرائيل واليهود يسيطرون على الإدارة الأميركيَّة." يستشهد أفنيري باضطرار الرئيس بوش مؤخَّرًا إلى توبيخ خصومه علنًا بسبب زعمهم أنَّ غزو العراق "كان من أجل النفط وإسرائيل." هذه الأجواء مرشَّحة للتنامي سواء لأسباب سياسيَّة أميركيَّة، أم بسبب تنامي الوعي في العالم لممارسات إسرائيل.
عودة إلى إيران والملف النووي. لسورية دور محوريٌّ عبر قيامها بوساطة عربيَّة - إيرانيَّة تهيِّئ قيام التعاون المطلوب الذي أشرنا إليه أعلاه. فليس من مصلحة سورية أن تأخذ موقفًا مع إيران ضد الدول الدول العربيَّة أو بمعزل عنها. وليس من مصلحة إيران أن تواجه المجتمع الدولي والعالم عربي ضدَّها. وليس من مصلحة مصر والسعوديَّة والعالم العربي كلِّه أن تقف إيران في مواجهة العالم وتكون سورية منفردة إلى جانبها. إنَّ افتراضٌ كهذا خطير جدًّا. صداقة سورية لإيران وعلاقتها المحوريَّة بمصر والسعوديَّة تؤهلانها للعب دور الوسيط.
إذا فشلت الوساطة، فعلى سورية أن تقرِّر ما إذا كانت ستقف مع إيران أو ضدَّها. في حال وقفت معها، تدخل منطقة الشرق الأوسط في مواجهات عنيفة، تبدأ بإعلان الغرب أنَّ كلاًّ من إيران وسورية دولتان "مارقتان" ويتمُّ عزلهما ومحاولة تقويضهما من الداخل والخارج. وسيكون على الدولتين القيام "بحرب عصابات دوليَّة" منطلقين فعلاً من مقولة: "طالما أنَّ الصيت قد انتشر، فلنمارس دور دولتين مارقتين." هذا يعني تبنيِّهما لمنهج "الفوضى" دون أن تكون بالضرورة "خلاقة"، وانتشار النموذج العراقي في المنطقة كلِّها، وإن بإيقاع أكثر انضباطًا وفاعليَّة.
في الإدارة الأميركية مَن يحاول عزل سورية وإيران، ودفعهما لمثل هذا الموقف انطلاقًا من لبنان، ومن الحملات المتصاعدة فيه ضدَّ سورية وحزب الله، ومن محاولة إفشال المبادرات العربيَّة لإصلاح ذات البين. ولا ريب أنَّنا نقرأ أحداث لبنان الأخيرة كلَّها على ضوء هذه المحاولات. في تقديرنا، أنَّ عزل سورية وإيران يشكِّل خطرًا كبيرًا على العالم العربي كلِّه، ويجب الحؤول دونه بأيَّة وسيلة كانت. نكرِّر، من المفيد استغلال ورقة الضغط الإيرانيَّة لتحقيق مكاسب عربيَّة أساسية في هذا المنعطف. ربَّما يوجد مَن يقرأ موقف إيران على أنَّه ابتزاز سياسيَّ، وموقفنا على انه انتهازي. فليكن! إنََّها سياسة حافة الهاوية. وفي رأينا، سياسة كتلك لها فوائدها أحيانًا. فـ "ربَّ ضارة نافعةٌ."