عن الفهلوة في السّياسة السّوريّة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
خلال حرب حزيران 67 روى قادة الجبهة الشماليّة في جيش الدّفاع الإسرائيلي الحكاية التّالية: بعد أن انهزم الجيش السّوري في هضبة الجولان وتوقّف إطلاق النّيران على خطوط الجبهة، انتظم وفدٌ من وجهاء قرية الغجر وجاؤوا إلى القيادة العسكريّة الإسرائيليّة طالبين منها أن يأتي الجيش الإسرائيلي لاحتلال قريتهم. لقد استغربت قيادة الجيش الإسرائيلي هذا الطّلب الغريب، فقد كان الجيش الإسرائيلي يعتقد أنّ قرية الغجر قرية لبنانيّة، ولذلك لم يدخلها. غير أنّ وجهاء قرية الغجر، وأهلها جميعًا ينتمون إلى الطائفة العلويّة، قد حضروا وقالوا إنّهم سوريّون ولذلك فهم يطلبون من الجيش الإسرائيلي أن يحتلّهم. لقد قاموا بهذه الخطوة الغريبة لأنّهم وجدوا أنفسهم معزولين عن سورية، ومعزولين عن لبنان لأنّهم سوريون، ومعزولين عن هضبة الجولان حيث ترابط القوّات الإسرائيليّة الّتي لم تشأ أن تدخل بلدتهم لظنّها أنّها لبنانيّة. وكما هو معلوم فلم يكن لبنان جزءًا من حرب حزيران تلك ولذلك لم يكن للجيش الإسرائيلي أيّ نيّة باحتلال أراض في لبنان.
***
ولماذا نسوق هذه الحكاية الآن؟ والجواب على ذلك يتّضح من عنوان هذه المقالة. فقد احتلّ موقع "مزارع شبعا" صدارة الأخبار بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان إبّان رئاسة إيهود باراك للحكومة الإسرائيليّة. لقد تمّ الانسحاب الإسرائيلي تنفيذًا لقرار مجلس الأمن الدّولي 425، واستنادًا إلى الخرائط المعترف بها دوليًّا. أمّا مزارع شبعا هذه فقد تمّ احتلالها في حرب حزيران 67 حيث كانت واقعة تحت سيطرة الجيش السّوري الّذي انهزم في حرب حزيران تلك كما هو معلوم.
***
لا خلاف حول كون "مزارع شبعا" منطقة محتلّة من قبل إسرائيل، غير أنّ الخلاف يدور حول لمن تعود ملكيّة هذه المزارع من ناحية القانون الدّولي. لكنّ هذا الخلاف هو خلاف لبناني سوري، وليس خلافًا لبنانيًّا إسرائيليًّا. إذ أنّ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان قد تمّ وفق القانون الدّولي وبموجب قرار مجلس الأمن استنادًا إلى الخرائط المعترف بها في هذا القانون الدّولي. ولذلك تعترف الأمم المتّحدّة بأن الانسحاب الإسرائيلي من لبنان كان انسحابًا كاملاً إلى الحدود المعترف بها دوليًّا. أضف إلى ذلك أنّه وحتّى هذه اللّحظة لا يعترف النّظام السّوري ذاته بكون هذه المزارع منطقة لبنانيّة، مثلما يماطل هذا النّظام بترسيم الحدود بين البلدين في المناطق اللبنانية الأخرى. إنّ هذه المماطلة الّتي يقوم بها النّظام السّوري تنبع من سياسة سوريّة لا علاقة لها بهذه المزارع بأيّ حال من الأحوال.
***
النّظام البعثي الشّامي الّذي اكتوى بهزيمة حزيران 67، وبعد ذلك بهزيمة حرب 73، وإن كان يصرّ على تسميتها "حرب تشرين التحريريّة" رغم أنّه لم يحرّر شبرًا واحدًا من هضبة الجولان في نهاية المطاف، فحتّى مدينة القنيطرة قام الجيش الإسرائيلي بإعادتها بموجب اتّفاقات وقف النّار وفصل القوّات بين الجانبين الإسرائيلي والسّوري. ومنذ ذلك الأوان، أي منذ أكثر من ثلاثة عقود، لم تُسمع طلقة واحدة على حدود وقف النّار هذه في هضبة الجولان.
***
إذن، وبعد كلّ هذا الاكتواء، أخذ النّظام البعثي الشّامي يبحث عمّن يقوم بحروبه "التّحريريّة" نيابةً عنه. وقد وجد ضالّته هذه في لبنان بعد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللّبناني، وعلى وجه الخصوص بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، حيث برزت على السّاحة اللّبنانيّة قوى جديدة متمثّلة بحزب الله والّذي وإن كان هو رأس الحربة في فرض الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، إلاّ أنّه وبالإضافة إلى أمور ذات علاقة بميزان القوى داخل الكيان اللّبناني الهشّ فهو أيضًا ذو أجندات بعيدة عن هذه البقعة.
***
لكن، ومع الاعتراف الدّولي بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من لبنان، بدأت تنتفي ذرائع الوجود الاحتلالي السّوري في لبنان منذ منتصف سبيعينيّات القرن المنصرم. وهكذا ظهرت على السّطح قضيّة مزارع شبعا كورقة أخيرة بقيت في أيدي النّظام البعثي الشّامي للّعب بها، وذلك من خلال التقاء مصالح مشتركة بين هذا النّظام وبين حزب الله في هذا المفصل التّاريخي. ولكن، حتّى هذه الورقة بدأت تتكشّف أنّها لا تفي بالغرض السّوري، إذ لا يوجد في العالم، أي في الأمم المتّحدة ومجلس الأمن، من يقبل دعوى كون هذه المزارع لبنانيّة من الناحية القانونيّة.
***
في هذه النّقطة بالذّات، التبست الأمور على نظام البعث الشّامي، فـ"غاب صواب" رئيسه المتورّث الشّاب وبطانة والده الرّاحل الّذين كان جلّ اهتمامهم الحفاظ على الرئيس بغية الحفاظ على مواقعهم. هكذا بدأت تتكشّف تهديدات سوريّة للقيادات اللّبنانيّة الّتي أخذت تجهر تململها وتبحث عن وسائل للتّحرّر من هذا الوجود السّوري الخانق في لبنان. وهكذا، وبعد تزايد الضّغط الدّولي على سورية، وخاصّة بعد الإطاحة بنظام البعث العراقي في بغداد، ولالتباس الأمور على البعث الشّامي الّذي لا يعرف قراءة العالم من حوله، فقد بدأت مسلسلات الاغتيالات للشّخصيّات اللّبنانيّة بهدف خلط الأوراق اللّبنانيّة مرّة أخرى. غير أنّ حسابات البعث الشّامي كانت خاطئة هذه المرّة أيضًا، وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى أن يجرجر الجيش السّوري أذياله منسحبًا من لبنان دون قيد أو شرط. ناهيك عن التّحقيقات الدّوليّة الّتي تتواصل الآن مع خليفة ميليس، وانتهاء بتصريحات عبد الحليم خدّام الّتي لا زالت تتفاعل سوريًّا ولبنانيًّا، عربيًّا ودوليًّا.
***
بعد كلّ هذا، ولأنّ البعث الشّامي، كصنوه العراقي، آيلٌ للسّقوط لا محالة، فإنّه يجد نفسه أمام خيارات محدودة أحلاها مرّ بكلّ المعايير والمذاقات.
أوّلاً، خيار الامتثال للإرادة الدّوليّة بشأن التّحقيق باغتيال الحريري، ممّا قد يفضي في نهاية المطاف إلى الوصول إلى رموز النّظام السّوري حتّى قمّة الهرم السّوري، وهو أمر يشكّل نهاية لهذا النّظام بصورة أو بأخرى أو بتقزيمه إلى أبعد الحدود، ممّا يفسح المجال إلى الإطاحة به داخليًّا.
ثانيًا، خيار المماطلة ومحاولة البحث عن طرق للإفلات من التّحقيقات الدّوليّة من خلال تقديم تنازلات "سرّيّة" لا يتمّ الكشف عنها علانيةً، وهو أمر ليس ببعيد عن طبيعة نظام من هذا النّوع من أجل البقاء في الحكم. غير أنّ هذا الخيار هو الآخر يؤدّي إلى تقزيم هذا النّظام بصورة كبيرة، ولن يُسمع له "نَفَس" بعدئذ. وهو أمر يؤدّي في نهاية المطاف أيضًا إلى إسقاطه داخليًّا عاجلاً أم آجلاً.
ثالثًا، خيار محاولة المقامرة مرّة أخرى، من خلال اللّعب بالورقة اللبنانيّة وتسخين الحدود اللّبنانيّة الإسرائيليّة إلى درجة الغليان، بدءًا بمزارع شبعا وما سواها عبر وكلاء وعملاء هذا النّظام في لبنان. وذلك في محاولة يائسة منه للإبقاء على الأنفاس الأخيرة الّتي تبقّت في جسد هذا النّظام المقبل من وجهة نظره على موت محتوم في أسوأ الأحوال، أو إلى حالة كوما في أحسنها.
***
لهذا السّبب رشح، بين ما رشح، من أخبار بعد لقاء الأسد والملك عبد الله وبعدئذ مع الرئيس مبارك، بعض النّقاط الّتي قيل إنّها بالاتّفاق مع الجانب السّعودي. ولا ندري إن كان ما رشح صحيحًا أم لا، غير أنّ بندًا واحدًا من هذه النّقاط يكشف عمّا يدور في أروقة النّظام السّوري. والبند الّذي نعنيه، كما نُشر في وسائل الإعلام، يقول ما يلي: "التنسيق بين وزارتي الخارجية في البلدين في السياسة الخارجية لدعم مواقفهما في عملية السلام وتحرير الاراضي السورية واللبنانية المحتلة وفق قرارات الشرعية الدولية لا سيما 242 و425 ومبادرة السلام العربية". إنّ ما يعنيه هذا البند واضح للعيان. إنّه يعني ربط "تحرير الجولان" من الاحتلال الإسرائيلي بالمسألة اللبنانيّة، وبكلمات أخرى، يريد النّظام السّوري أن يقوم اللّبنانيّون، عبر وكلاء وعملاء النّظام السّوري بين ظهرانيهم، بتحرير الجولان من أجل سورية، وهي الحدود الهادئة منذ العام 1973، إذ لا يجرؤ نظام البعث هذا على تسخين حدود وقف النّار مع إسرائيل في الجولان السّوري المحتلّ. وإذا ما أصرّ اللّبنانيّون، رغم المراوغات البعثيّة، على عدم الوقوع في الفخّ البعثي ثانية، فقد يعود هذا البعث إلى زعزعة الاستقرار اللّبناني بطرقه المعهودة من اغتيالات جديدة إلى آخر ما قد تبدعه قريحة هذا البعث من فوضى بغية الإبقاء على رمقه في السّلطة.
***
وأخيرًا، هل تنفع الفهلوات بعد الآن؟ إنّ الفهلوة عندما تحدث لدى جيل من الشبّان المراهقين، فقد تكون مقبولة بصورة أو بأخرى وإلى مدى معيّن، لكن عندما تأتي هذه الفهلوات من أنظمة سياسيّة تتحكّم في الشّعوب وفي مقدّراتها تصبح هذه الفهلوة لعبة خطيرة وعواقبها وخيمة على الشّعب قبل النّظام. غير أنّنا نعلم يقينًا أنّ مصير الشّعوب العربيّة لم يكن في يوم من الأيّام في سلّم أوليّات هذا النّوع من الأنظمة الطّائفيّة القبليّة الدّكتاتوريّة.