وكأن على رؤوسهم الطير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تعرفنا على قادة منظمة حماس من خلال قنواتنا الفضائية، وتعودنا على خطاباتهم النارية، وتهديداتهم ووعيدهم، ورأى بعضنا في تعبيراتهم قوة وثقة وإيمان، ورأى فيها البعض الآخر قسوة وجلافة وبدائية متوحشة ، لكن الجميع على ما أعتقد نظر إلى هؤلاء القادة الميامين كرجال أشداء، يتمتعون بإصرار على تحقيق الهدف الذي وضعوه لأنفسهم، ويعرفون جيداً الطريق إليه.
لكن فجأة انقلب الحال رأساً على عقب، فور إعلان اكتساح حماس لانتخابات المجلس التشريعي، فجأة رأينا قادة التهديد والوعيد والتفجير، يظهرون على شاشات التليفزيون وكأن على رؤوسهم الطير كما يقولون، زائغي العيون، تخرج الكلمات بصعوبة من أفواههم التي اعتادت الجئير، يتحدثون عن الائتلاف مع كل الأطياف، التي سبق ونعتوها بكل النعوت المخزية، وعلى رأسها الكفر والفساد، وبدءوا يكررون مفردات لم تأت من قبل من بين شفاههم المقدسة، مثل الواقعية ومصالح الشعب الفلسطيني، بل ووصل بكبيرهم الحال أن ابتلع كلمة العدو عند حديثه عن إسرائيل، إجمالاً انقلب الصقور إلى حمائم بين طرفة عين وانتباهتها، ولا عزاء في النضال والجهاد!!!
شر البلية ما يفرح
نجاح حماس في الانتخابات بلية ولا ريب، ابتلي بها الشعب الفلسطيني، الذي ابتلى نفسه بنفسه، حين شايع قادة القتل والتدمير اللا إنساني، تدمير شعبهم قبل تدمير العدو المفترض، حين شايع الذين يستدرجون زهرة فتيانه وفتياته، ليلبسونهم أحزمة ناسفة بدلاً من أثواب العرس، هم حتى لم يعلموهم قتال الشجعان، الذين يواجهون العدو حتى الموت، في سبيل قضية يؤمنون بها، علموهم القتل ولم يعلموهم القتال، فقط دربوهم على تفجير أنفسهم بنذالة وسط حشود آمنة في مطعم أو عرس أو موقف باصات، وفي تلك الأثناء يتفنن القادة الميامين في الاختباء بين النساء والأطفال، سواء في الأرض المحتلة أو بيروت الرهينة أو دمشق أسيرة البعث الصامد، ويكتفون من النضال بالظهور الميمون على شاشات الفضائيات، يتصنعون بطولة ليست لهم، وقدرة لا يمتلكون منها قيد أنملة!!
نجاح حماس في المقابل خبر مفرح ولا شك، ليس فقط لأنه التطبيق الثالث للديموقراطية في أرضنا المستبدة، بعد العراق ولبنان، ولكن الأهم أن هذا النجاح هو كلمة السر التي بعدها رأينا وجوه المجاهدين المناضلين هاشة باشة، كسائر البشر الذين يمتلكون الحد الأدنى من الإنسانية، فسلام مربع للديموقراطية، وسلام مربع للانتخابات النزيهة، التي لم يتيسر إجرائها في عالمنا العربي، إلا في ظل الاحتلال الأجنبي أو تحت تأثير ضغوطه!!
يقول مثل شعبي مصري: "قالوا الجمل طلع النخلة، قال آدي الجمل وآدي النخلة"، هذا هو الفكر العملي الواقعي المصري، والذي بدأ يتوه منه بتأثير خطاب العروبة والتطرف الديني الحنجوري، فقد أفتى السادة المجاهدون لا فض فوهم، أن حكام الأنظمة التي تجنح للسلام خونة ومتخاذلون، وأن فتيانهم الملتحفين بالأحزمة الناسفة قادرون على تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وقالوا أيضاً "أن الأمة التي تتقن صناعة الموت، توهب لها الحياة"، كتبوا ذلك على الجدران والملصقات، ونادوا به في كل المنابر المتاحة لأياديهم المقدسة، والآن جاءت لحظة الحقيقة والحسم، فتعالوا يا صناع الموت لنرى كيف سيثمر جهادكم حياة لشعب ذاق الويلات عبر عقود وعقود!!
نقر لكم أنكم مجيدون في صناعة الموت، لأبنائكم أولاً ولأعدائكم أخيراً، لكن الشعب الفلسطيني الطيب، والذي عانى طويلاً من الاحتلال ومن الفساد والإفساد، تصور أنكم قادرون على تخفيف آلامه، والذنب في هذا التقدير ليس ذنبه، وإنما ذنب أبواق الهتاف والتضليل، ذنب الجهلة والمرتزقة من الكتاب والإعلاميين، ذنب القنوات الفضائية التي تبدد المليارات من دم هذا الشعب، لكي تفسد عليه حياته، وتدمر له فكره وتلوث ثقافته بالكراهية والتطرف.
توقعت وخاب توقعي
توقعت أن القرار الأول للسادة مجاهدي حماس، سيكون استيراد 2 مليون حزام ناسف من كوريا الشمالية وإيران وسوريا وفنزويلا، وأن يرفعوا شعار "حزام ناسف لكل مواطن"، وبالطبع لن يستغرق التدريب على عملية تفجير الذات البطولية أكثر من أسبوع، وأن تذيع جميع الإذاعات العروبية نشيد "كلنا فدائيون"، أو نشيد "أطلب تلاقي، 30 مليون فدائي"، ثم نهجم هجمة رجل واحد على العدو الإسرائيلي، فنزيل إسرائيل من الوجود في لحظات، ونستعيد القدس وكل أرض فلسطين ونحقق الحلم العروبي!!
أعتقد جازماً أن هذه خطة جهادية نضالية محكمة، كفيلة باستعادة الأرض السليبة والكرامة المهدرة، وأمجاد يا عرب أمجاد، لكن مجاهدي حماس في عهدهم الجديد لا يبدو أنهم سيأخذون بها!!
توقعت أيضاً أن السادة قادة حماس يؤمنون حق الإيمان بامتلاكهم الحقيقة المطلقة، وبأنهم ليسوا بحاجة لأن ينظروا حولهم، ليتعلموا من الواقع، التفرقة بين الممكن والمستحيل، كما كنت أتصور أنهم يحبون الموت بقدر محبة أمثالي للحياة، لكنهم مرة أخرى خيبوا توقعاتي، وبدءوا مراجعة وتراجعاً لا يليق بمالكي الحقائق المطلقة والنهائية، وبدلاً من الاعتزاز بما في رؤوسهم الثمينة من أفكار، راحوا ينظرون حولهم إلى الأطفال والنساء والشباب والشيوخ، الذين ينشدون حياة توفر لهم الحد الأدنى من الحياة الإنسانية، كما وأظن ولو أن بعض الظن إثم، أن البقاء والاستقرار على كراسي الحكم، صارت أحب إليهم من دخول الجنة، التي دفعوا إليها المئات من الشباب والشابات!!
كما توقعت أن يكون قادة حماس الأفاضل أوفياء على العهد، وأن يلتزموا بالبرنامج الذي انتخبهم الشعب على أساسه، وهو إزالة إسرائيل من الوجود، ورد أمريكا وأذنابها على أعقابهم، لكنهم أصروا أن يخيبوا توقعاتي، وأن يسلكوا طريقاً آخر، غير النضال إلى آخر دولار!!
كان يمكن ألا تخيب توقعاتي، لكن ماذا يستطيع قادة حماس الكرام، في مواجهة عالم كله من اللئام؟!!
تحالفت النظم العربية العميلة، مع الطاغوت في الغرب بكل أجنحته، وأخذ الجميع يهددون ويتوعدون، ومن كانوا يدعون المطالبة بالديموقراطية، يرفضون الآن نتائجها، لأنها لم تأت بمن هم على هواهم.
رددت العبارة الأخيرة لنفسي، وأنا أتخيل كما لو كنت على شاشة فضائية عروبية مناضلة، أمارس صناعة الكلام بحذق وذلاقة لسان لا نظير لها، فيما أتزين بحزام ناسف حول وسطي، لكن شيطاناً مريداً (ربما يقبض بالدولار من الـCIA) هتف في رأسي:
bull;أن يقف العالم كله ضد العرب، يعني أن العرب يقفون ضد كل العالم، فلماذا يفعلون ذلك في أنفسهم، لماذا لا يتصالحون مع العالم، يتوافقون معه، لماذا يصرون على إساءة قراءة حقائق العصر، لماذا يصرون على البقاء أسرى عهود مضت ولن تعود، لماذا الإصرار على إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، أي قوة يمتلكون ليفعلوا ذلك؟!
bull;الديموقراطية تعني أن يختار ويحدد كل شعب حكومته وسياساتها، ولقد اختار الشعب الفلسطيني لنفسه وهذا عظيم، لكن باقي شعوب العالم أيضاً قد اختارت لنفسها، وعلى كل شعب تحمل مسئولية خياراته، إلا إذا كانت الديموقراطية تعني في نظرك أن تفوض شعوب العالم حق تحديد خياراتها للشعب العربي البطل!!
bull;إن نجاح حماس في الانتخابات خطوة كبيرة على طريق نهاية وبداية، نهاية التطرف والغلو ورفض الآخر في منطقتنا، فالمتطرفون الذين كانوا يعيثون في الأرض فساداً قد تحملوا الآن مسئولية شعب، وستعيدهم المسئولية إلى عصرنا، سوف تستعيدهم من كهوف الغيبوبة والتخلف، لتضعهم وجهاً لوجه أمام حقائق الألفية الثالثة، هي إذن بداية انحسار الطوفان، وهزيمة الطاعون الذي اشتدت وطأته في الربع قرن الأخير، وهي أيضاً نقطة بداية لمشوار طويل نحو التحديث والسلام والإنسانية.
أنهى الشيطان الإمبريالي همسه في رأسي، وكان الميكروفون المفترض لا يزال في يدي، والحزام الناسف حول وسطي، حين خطر لي أن أقتدي بقادة حماس، فأستدير مائة وثمانين درجة، وأصطنع خطاب الحمائم، لكنني تناسيت أن أخلع حزامي الناسف!!