أشوكا.. حاكم بدرجة قديس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لابد من الترحال شرقًا من آن لآخر، إلى الهند، وتحديدًا إلى مدينة "بنارس"، ليس من أجل رؤية الأبقار المقدسة، فهذه ليست إلا سياحة وترفية، وإنما من أجل رؤية التعايش السلمي لأكثر من ألف عقيدة دينية من مختلف الملل والنحل في قلب آسيا، تتضمن كل ما جاء عن التسامح في الأديان جميعًا بما فيها (الأديان السماوية الثلاثة).
هذا التعايش السلمي هو ثمرة تراث هندي قديم عن التسامح، ينطوي على التقدير المتبادل للمقدس، وهو موقف وجداني متعقل إلى أقصى مدى، لم ينشأ في المجتمعات العصرية المتقدمة في الغرب، وإنما يعود أساسًا لذلك الرجل الذي لم يكن مجرد حاكم عظيم في الهند القديمة، بل كان من أعظم الرجال في التاريخ الإنساني، وهو "الإمبراطور" (أشوكا).
ينحدر أشوكا من أسرة موريا Mayrya الحاكمة، فجده شاندرا جوبتا مؤسس هذه الأسرة قد أشعل نيران الحرب ضد اليونان الذين احتلوا الشمال الغربي من الهند أيام حكم الاسكندر الأكبر، وانتصر على سليكوس بنكتار عام 321 ق. م أي بعد سنتين من موت الإسكندر. وفي هذا العصر ذاعت البوذية في الهند بالإضافة إلى البراهمية، وبالأخص في الجانجز Ganges على الرغم من أن مؤسس البوذية اسمه سدارتا جواتاما وهو من عائلة نيبالية. والبوذية من الناحية النظرية، هي رد فعل ضد الميتافيزيقا البراهمية، ومن الناحية العلمية، هي حركة إصلاح ضد الأخلاقيات المنحلة، وكانت البوذية منذ نشأتها تحمل في طياتها أجمل معاني الإخاء البشري.
أما أشوكا، المولود عام 304 ق. م، فقد أشعل حربًا تسمى حرب كالنجا، وانتصر عام 262 ق.م ولكنها كانت رهيبة إلى الحد الذي أجبره علي أن يحكم، في مستقبل الأيام بروح رحيمة، وينشر القانون الخلقي في ربوع الإمبراطورية التي امتدت إلى الغرب.
هذا القانون الخلقي يسمى "دارما"، وهو منقوش على الصخور والأعمدة في جميع ربوع البلاد. وقد عين موظفين مخصصين لمراعاة احترام هذا القانون، ثم تحول أشوكا إلى البوذية. ويقال أنه بدون تحوله هذا ما انتشرت البوذية في سيلان واليابان والتبت والصين وأصبحت من أكثر الأديان انتشارًا في العالم، على الرغم من أنها لم تكن كذلك في الهند، موطن مولدها، وأغلب الظن أن هذا مردود إلى عقلية أشوكا المتسامحة.
لقد أصبح أشوكا ملكًا بفضل التسامح والقدرة على الحكم والإدارة، وبفضل سلوكه الخلقي، وليس بفضل القوة العسكرية الغاشمة. ولذلك كله يعد رجلاً لكل العصور. كان مشغولاً برفاهية شعبه وسعادته. فقد غرس أشجار الفاكهة في جميع طرق البلاد، وترك الفقراء يقطفونها بلا مقابل. ومارس التسامح، وبالأخص في معناه اللاتيني: تخزين الطعام من أجل الفقراء. وأوصى باحترام المخلوقات جميعًا، والتعايش في سلام، والزهد في الفائض.
الأهم من ذلك ان أشوكا كان أول وأعظم بطل من أبطال التسامح تجاه جميع العقائد الدينية. فلم يقحم نفسه في سلسلة من الحروب كما فعل داوود، ولم يكن ملكًا - شاعرًا مترفًا مثل سليمان الحكيم وكانت قوانين حامورابي قد سنت عام 2100 ق.م، ولكن مذهب أشوكا الخلقي الذي يتجاوز القانون قد غير قوانين حمورابي. ورغم أن أفلاطون قد أعلن أن جمهورية الفلاسفة - الملوك، لم توجد علي أرض الواقع ولن تكون، فان أنوشكا جسد شريعته في دولة حقيقية.
ويعتبر التسامح، ابتداء من حكم أشوكا، من أهم المبادئ العدلية التي تستند إليها الأخلاق في الهند... وكل من يعرف الهند يشهد على هذه الحقيقة، بل يمكن القول إن الهند هي حاملة شعلة السلوك الخلقي الأصيل، وهذا هو ما يميزها عن الغرب. فالغرب، على الضد من الهند، ليس متسامحًا، وذلك بسبب تراثه اليوناني والديني المحمل بالدوجما والمثقل بالتابو، حسبما يؤكد البروفيسور أندريه مرسيه في بحثه القيم " التسامح كأمرفلسفي ".
لقد كتبت تشريعات أشوكا باللغة البراكريتية، لغة الشعب، وليس السنسكريتية وهي لغة البراهميين. وكانت البراكريتية هي لغة الشعب في التبت وكراكوروم، ونجدها أيضًا على النقود التي كان يصكها ملوك اليونان في باكتريا في الفرس القديمة. واستخدام لغة الشعب دليل على سماحة أشوكا.
وكان أشوكا يطلق على نفسه إما "حبيب الآلهة" أو "ملك بيريادارسي" وبالإضافة إلى تعليم شعبه، أرسل البعثات إلى البلدان الأجنبية، مثل سوريا ومقدونية، ولهذا فإذا قيل عن الحضارة الهيلينية أنها تتسم بالتسامح فهذا مردود إلى تأثر ملوك البحر المتوسط بالقانون الأخلاقي المسمى "دارما" وكان من الممكن قبل سنوات مشاهدة مقتطفات من كتابات أشوكا باللغة اليونانية والآرمية في "قندهار".
يقول أشوكا إن جوهر القانون يكمن في معرفة الإنسان لذاته واحترامه للآخر. ومسؤولية كهذه، حيث التسامح لم يكن يعني اللامبالاة أوالصفح بل كان يعني في الأصل : البحث عن الأفضل، لم تكن معروفة في أي مكان من العالم.
وهذه أمثلة لبعض نصوصه :
على الصخرة رقم 13:
إن محبوب الآلهة، وقاهر الكالنجيون نادم الآن إذ هو يحس بحزن عميق وأسى لأن غزو شعب إنما يعني القتل والموت والتشريد.. إن البشر جيمعًا متساوون في سوء العاقبة... ولهذا فإن ملك بريادارسي يرى أن الغزو الأخلاقي هو الأهم... وقد حقق الملك هذه الغاية في أماكن على بعد خمسة آلاف كيلو متر حيث يحكم ملك انيتوخ، والملوك الأربعة تورامايا وانتيكيني وماكاو واليكاسودارا، حتى سيلان (الأربعة أسماء المذكورة مرادفة للأسماء التالية: بطليموس الثاني، فيلادلفوس المصري، انيتجونوس جوناتاس المقدوني، ماجاس الكريتي، والإسكندر القبرصي).
على العمود رقم 7: "في الماضي... لم تتقدم أخلاق الشعب".
على الصخرة رقم 6: "ليس أهم (من انتشار دارما).. ومع ذلك فهذه مسألة شاقة"
على العمود رقم 2: "دارما تعني الشفقة والحرية والصدق والنقاء".
على الصخرة رقم 12:
"إن ملك بريادارسي يبجل العقائديين جميعًا.. وقد يتخذ هذا التبجيل أشكالاً عدة، ولكن جذوره تقوم في حفظ اللسان من مدح معتقدك وذم معتقد الآخرين بدون لياقة أو بدون تطرف".
"علينا تبجيل الآخرين لسبب أو لآخر. وبفضل هذا الوئام يمكن للبشر أن يتعلموا دارما بتقدير وتوقير".
كان أشوكا ينبذ العدوان، ويخاطب الشعب بقوله "أيها الأصدقاء"، وهذا الأسلوب في مخاطبة الشعب متبع في الهند إلى يومنا هذا، فرئيس الجمهورية الراحل الفيلسوف راداكريشنان كان يبدأ خطابه إلى الشعب بهذه الكلمة "أيها الأصدقاء".... تحية للهند في عيدها القومي.