كتَّاب إيلاف

الوحدة الوطنية، المفقودة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حينما يقف الجنرال عون، في جبل لبنان، موقفَ الداعي لنكأ الجراح وبعث أسباب الفتنة؛ هكذا موقف، هوَ من الخطورة بمكان، كونَ تلك البقعة الجغرافية، بالذات، التي أوجدتْ لحمة موطن الأرز، حدّ أنها خلعت عليه إسمها. فلم يرتفع ضياء ذلك الموطن، إلا من هذا الجبل الكريم، وعبرَ وحدة وتضامن مكونيْه الرئيسييْن؛ الموارنة والدروز. هذه الحقيقة، التاريخية، إختبرها أهالي لبنان جيداً، ودفعوا الثمن غالياً، حينما تناسوها أو تجاهلوها. وكذلك فعلَ خصومُ لبنانَ، من الباب العالي، العثماني، وحتى الجار " المتعالي "، البعثي؛ فكلّ منهم، سعى إلى إخضاع الجبل لسلطانه، عن طريق بثّ الفرقة بين ذينكَ المكونيْن، الموسوميْن. وإذ ظهرَ الدروزُ أكثرَ إنسجاماً من ناحية الموقف الجمعيّ، وفي أكثر من منعطف تاريخيّ، مفصليّ؛ فعلى عكسهم كان الموارنة، على فرقة وخلاف فيما بينهم . حتى أنّ المؤرخ اللبناني، المعاصر، كمال صليبي، يقول في هذا الشأن : " هذه النزعة التي تميّز بها الموارنة، أضعفت من تماسك صفوفهم ودفعتهم إلى الإنشغال بصغائر الأمور. فكثيراً ما إنقسموا بأحرج الأوقات لأسباب تافهة، شخصية أو حزبية. وبذلك خسروا الإمتياز الناتج عن تفوق عددهم وبسالتهم الحربية، التي لم يرقَ إليها الشك ". (تاريخ لبنان الحديث / الطبعة العربية السادسة، بيروت 1984، ص 25)

كان لبنان، على مرّ تاريخه الحديث، يسمو بديمقراطية نظامه وحريته؛ وهما اللذان أنقذا كيانه الهش، الضعيف، في كل مرة يوضعُ فيها أمام إمتحان ٍ يتعلق بوحدة مكوناته، الوطنية. فحينما إنبثق هذا الكيان، بعيدَ الحرب العالمية الثانية، شاءَ الأخذ بمبدأ النظام الدستوري، التوافقي، حفظاً لحقوق طوائفه المتعددة ومنعاً لتفرد أيّ منها بقرارات تمسّ الوطن ككل. هكذا إنبثاق لما أسميَ في حينه بـ " دولة لبنان الكبير "، ما كان إعتباطاً أو وهماً، كما ذهبَ إليه أهل العروبة في المشرق؛ من ناصريين وبعثيين وأضرابهم، من المبشرين بإذابة الكيانات القطرية وإمحاء حدودها، سعياً لإحقاق ما يصفونه بـ " الوطن العربي الكبير ". واليوم، يستعيدُ اللبنانيون، بمشاعر مختلفة ولا شك، ذكرى مرور ثلاثين عاماً على التدخل السوري، العسكريّ والأمنيّ، في بلادهم. غنيّ عن القول، أنّ تأكيدنا على الإختلاف هنا، مرده هذا الشقاق الكبير، الحاصل الآن في موطن الأرز بين مختلف مكوناته، والذي يجد مرجعه في ذلك التدخل السوري، ذاته : وبكلمة أبسط، ما كان يجتنيه كلّ من الممثلين، المفترضين، للطوائف اللبنانية من مكاسب أو خسائر من الوجود السلطويّ البعثيّ، أو عدمه، على أرضهم.

جديرٌ بالتنويه هنا، كونَ المقام الماروني الأكبر، وظيفياً، هوَ من طلب رسمياً التدخل العسكري السوري. إذ بادر الرئيس الأسبق، سليمان فرنجية، في عام 1976، بالإستنجاد بجاره اللدود، حافظ الأسد، للحيلولة دون إكتساح البلد من لدن القوى الفلسطينية، المتحالفة مع اليساريين اللبنانين. كانت الحرب الأهلية وقتئذٍ، في ذروة إشتعالها، فزاد من تأجيجها ذلك الحضور، الطاريء، للديكتاتور الأسديّ، العتيد. مقابل هذا الأخير، المستبد، الواحد الأوحد؛ توالى سبعة رؤساء على حكم لبنان : حقيقة، قد لا تعني كثيراً أولئك السياسيون الموارنة، المتحالفون علناً أو خفية ً، مع وريث النظام السوريّ؛ هذا المحصورُ اليوم إقليمياً ودولياً، على خلفية جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكذلك على دوره في دعم الإرهاب هنا وهناك. وإذ إضطرّ الأسدُ الصغير، مرغماً، على سحب جيشه ومخابراته من البلد الجار، وجرجرة أذيال الخيبة إثرَ عقود ثلاثة من التدخل الفظ في شؤونه وإستحلاله نهباً وإبتزازاً؛ إلا أنّ محاولته المستميتة إضطردتْ، للعودة إلى ذلك الفردوس، المفقود. وبما أننا في حديث الرئاسة الأولى، في لبنان، فها هوَ الرئيس اميل لحود، المارونيّ، ما فتأ في مركزه الوظيفيّ، مصراً على إستعادة دوره كذيل للوصيّ البعثيّ، السابق. وها هوَ الجنرال عون، سعياً لترسيخ نفسه كمرشح مارونيّ، وحيد، للرئاسة الأولى، يضع نفسه في محالفة مع حزب آيات الله، الإيراني، وفي مغازلة مع الجار البعثيّ، السوريّ، وكما لو أنه على إستعداد لتقمّص ذاك الدور، اللحوديّ، الموسوم آنفاً.

حينما يطلب الجنرال عون، بمليء فمه، أن يُصار إلى " الإعتذار " من مسيحيي جبل لبنان، على ما ذاقوه من معاناة وتهجير على يد الطرف الآخر، الدرزيّ، من الصراع في الحرب الأهلية ؛ فإنما يتناسى أنّ تلكَ صفحة، سوداء، من تاريخ البلد، قد طويتْ مع طيْ السجل الأكبر، لتلك الحرب الدموية. أم أنّ جنرالنا، بما يتصفُ به من إعتداد وثقة بالنفس، على إستعدادٍ، أيضاً، لتقديم مبادرة، مماثلة، للبنانيين جميعاً، وخصوصاً، النصارى منهم : الإعتذار، عن تلك المجابهة المفتوحة، غيرَ المبررة، مع تنظيم " القوات اللبنانية "، الذي أدى في منتصف الثمانينات إلى إحراق بيروت الشرقية برمتها؛ الإعتذار، عن إنقلابه العسكري على الحكومة اللبنانية، الشرعية، ومن ثمّ على " إتفاق الطائف "، الذي تمّ بموافقة المكونات اللبنانية، جميعاً ؟؟ وعلى كلّ حال، لا يبدو إختيار جبل لبنان، تحديداً، بالمكان الأنسب لتلك الحملة العونية، العاصفة، على الحكومة اللبنانية وبعض أبرز رموزها. من حقّ الجنرال العائد، بطبيعة الحال، إبداء ملاحظاته وإنتقاداته للحكومة وأدائها؛ إلا أنه من المحظور عليه، وعلى غيره أيضاً، العودة بالبلاد إلى أجواء الحرب الأهلية. هذه الأجواء، الموصوفة، يختلقها حزب آيات الله، الإيراني، فيما هوَ يدعو إلى الإنقلاب العسكريّ على الأغلبية النيابية، وتحت مسعى إيجاد آليات تشكيل ما يسميه بـ " حكومة الوحدة الوطنية ". وإذا كان نصر الله، في ذلك المسعى آنف الذكر، يحاول حماية " مقاومته " وسلاحها، من خلال ربط مصيره بمصير نظاميْ الإستبداد في دمشق وطهران؛ فمن غير المفهوم بحال ـ أخلاقياً على الأقل ـ موقف الجنرال عون، المتضامن معه على طول الخط : لقد صدق مؤرخنا اللبنانيّ، حقا، بتوصيفه الصائب لسلوك بعض الزعامات، المارونية، الخرقاء!

Dilor7@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف