كتَّاب إيلاف

جامعة آل البيت في العراق 1924ـ 1930

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مصداقية التأسيس وفشل التجربة!

مشروع تأسيس أول جامعة إسلامية اجتهادية حديثة عند العرب المعاصرين


"كل عمل لا يشـّيد على أساس متين.. لاتقوم له قائمة"(الملك فيصل الأول)


المقدمة
1/ أهمية الموضوع:
يعد موضوع البحث حول تأسيس أول جامعة في تاريخ العراق المعاصر، ومنذ السنة الأولى لتكوين الدولة العراقية الحديثة عام 1921، من ابرز المواضيع التاريخية المهمة في دراسة " حالة " معينة كان لها أسبابها ومسبباتها، وكان فيها أحداثها وشخصيّاتها ومواقفها وتناقضاتها، وبما انطوت عليه أوضاعها التي أنتجت جملة من الآثار والتداعيات على المستوى السياسي والاجتماعي ليس في العراق حسب، بل بما ستفرزه "الدراسة " من الاستنتاجات التي تعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك مدى مستوى التفكير وطريقة صياغة القرار لدى العرب عموما والعراقيين خصوصا الذين بدءوا في تشكيل دوائرهم ومؤسساتهم وأجهزتهم الدستورية والسياسية والعلمية والإدارية في ظل الاستعانة بالآخرين وهم في رعاية الأجانب المستعمرين. ولابد ان أوضّح أيضا كم كانت مصداقية المشروع واضحة، ولكن كم كان الفشل ملاصقا للتجربة التاريخية.. واعتقد انها تجربة نهضوية حضارية عراقية صرفة تأسسّت في بغداد التي سبقت غيرها من البيئات العربية والاسلامية في تأسيس هكذا مشروع عربي اسلامي صرف، ولكنه الفشل كان من نصيبه، ليس بسبب ضعف منهاجه او ذبول حيويته..، بل بسبب عوائق شخصية وبلادة فكرية وتخلف حضاري للبعض ممّن وقف حجر عثرة امام هذه التجربة التاريخية.. دعونا نتعّرف عليها بشكل مفّصل من خلال الوثائق والمصادر الاساسية.

2/ تجربة تاريخية متقدّمة في المعرفة الاسلامية
إن تجربة جامعة آل البيت في العراق سواء في تأسيسها أو في خضم حياتها القصيرة أو في انهيار مشروعها وفشله، هي تجربة تاريخية فريدة من نوعها ستعلمنا المزيد من الدروس التاريخية وخصوصا في معرفة مجمل ما حصل فيها من مواقف مضادة وتناقضات صعبة. وستطلعنا جملة الكتابات الموثّقة والمصادر الموثوقة المتزامنة مع حياة تلك " التجربة " على غرابة بناء وتطوير جامعة علمية مع الثقة التي أولاها المجتمع وعززتها السلطة لمجمل الأهداف النبيلة والغايات السامية التي كان الجميع يتطلعون في الوصول إليها، ومع كل هذا وذاك، فان "التجربة" التاريخية المقصودة قد طويت صفحاتها ونسيت بكل ميراثها من قبل أبنائها على امتداد اكثر من سبعين سنة! فلم نجد أية دراسة بحثية عنها لا من قبل العراقيين أنفسهم ولا من قبل غيرهم ؛ وان ما كتب عنها آو من أتى على ذكرها لم يتوغل في تاريخها وتفاصيل حياتها واستنباط مدلولاتها العميقة (1).

ان هذا " المشروع " الذي اهتم به مؤسس العراق المعاصر الملك فيصل الاول شخصيا يمّثل ردّا تاريخيا حقيقيا على كلّ من يتهّم ذلك الرجل ورجالاته بالطائفية او بالتمذهب او الاحادية او بالانحياز.. لقد اراد ان يجعل من المجتمع العراقي حالة موحّدة متقدّمة من خلال تأسيس وعي متوازن لكل العراقيين وتتساوى عندهم الرؤية للدين والوطن وللحياة والتاريخ.. وسنرى من خلال هذه " التجربة " الصعبة اول فشل ذريع لأول مؤسس حقيقي للعراق في خلق تلك " الرؤية " المتوازنة بفعل الترسبّات الصعبة وبقايا التقاليد البالية في المجتمع العراقي كله.. تلك " الترسّبات " و " التقاليد " التي تبلورت عنها تعصّبات واهواء واختناقات غاية في الخطورة. وعليه، فان الدولة لم تكن لوحدها مسؤولة عن كل اخفاقات التاريخ العراقي المعاصر، بل يتحمّل المجتمع العراقي نفسه مسؤوليته فيها، بفعل الانقسامات الحادة التي لم يستطع فيصل الاول بكل ما اوتي من دهاء وحكمة وسماحة وكياسة في معالجتها او استئصالها والتي عبّر عنها الرجل في مذكرته الشهيرة قبل ان يموت!! وفي هذا الصدد، يمكنني ان اجتزأ اهم مقطع كتبه فيصل الاول في مذكرته عندما سجّل قائلا: " أقول وقلبي ملآن أسى: إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للإنتقاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكّل من هذه الكتل شعباً نهذبه وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل. هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقيhellip; " (2).

3/ الهدف من الدراسة:
ولقد قمت بدراسة هذا " الموضوع " منذ عشرة اعوام عندما كنت استاذا في قسم التاريخ بجامعة آل البيت الاردنية، ونشرت عنه مادة علمية في واحد من منشوراتها العلمية (3). وتأتي دراستي هذه موّسعة للموضوع ذاته وانا ادرك تماما مدى اهميته اليوم وقبل أي يوم مضى من اجل اهداف سامية للجمع بين اهل العراق بمختلف اطيافهم على قواسم مشتركة اشتغل عليها الرجال القدماء، وسواء افلحوا ام اخفقوا، فقد كانت لهم رؤيتهم الموضوعية للجمع بين اهل المذاهب على نهج عراقي وطني راسخ.. متمنيا ان اكون قد نجحت في الوقوف على ما هو مهم وجدير بالاثارة والمعالجة في مثل هذه الايام التي يمر بها وطننا الحبيب ومجتمعنا العراقي بكل اطيافه وانواعه وملله ومذاهبه. واتمنى ان تحقق هذه " الدراسة " الهدف المرجو منها في زرع الادراك المتبادل لدى العراقيين وخصوصا لدى الجيل الجديد في بناء مستقبله وبلورة مصيره على اسس وطنية صادقة.

4/ المصادر والمراجع:
ثمة وثائق تاريخية مهمة حول هذا الموضوع لابدّ من الكشف عنها سواء بالعربية ام بالانكليزية، ومنها بعض الوثائق البريطانية في دائرة السجلات التابعة لوزارة الخارجية ووثائق المركز الوطني لحفظ الوثائق في العراق، ومن أبرزها: وثائق البلاط الملكي ووزارتي الأوقاف والمعارف.. فضلا عن ابرز الكتابات التي نشرها الأستاذ فهمي المدرس أمين (= رئيس) الجامعة منذ مطلع عام 1930 ؛ وهناك جملة من المراسلات الرسمية والمتابعات والتقارير والأخبار الصحفية، وخصوصا صحف العاصمة العراقية، ومن أبرزها: جريدة العالم العربي التي كان يحررها الصحافي الموصلي المعروف سليم حسون في بغداد.. ناهيكم عن بعض الكتابات والأوراق والمذكرات المخطوطة والمنشورة بأقلام أساتذة كانوا في حالة مقاربة حقيقية من هذه "التجربة "، أخص بالذكر مذكرات الأستاذ ساطع الحصري وكتابات الأستاذ عبد العزيز الثعالبي وأوراق الأستاذ علي الجميل الموصلي ومن ضمنها مراسلاته الشخصية مع الاستاذ فهمي المدرس بحكم صداقتهما الحميمة منذ أيام الحركة العربية باستانبول، ومن ابرز المصادر وأهمها في كتابة هذا " الموضوع "، البيان الذي كتبه ونشره: فهمي المدرس، بيان عن جامعة آل البيت والشعبة العالية الدينية (بغداد: مطبعة الآداب، 1930)؛ ومن ابرز المراجع الأساسية في التعرف على موقف ساطع الحصري من جامعة آل البيت بالعراق، (انظر الجزء الأول من مذكرات ساطع الحصري، مذكراتي في العراق 1921ـ1941، بيروت: دار الطليعة، 1967) مع ثمة اهتمام لمتابعات بعض الصحف العربية، وخصوصا المصرية منها ؛ واراء بعض الأدباء والمفكرين. ولعل أبرز من كتب عن هذا " الموضوع " هو الاستاذ الاكاديمي القدير متي عقراوي، في مقاله المتمّيز الموسوم " المعارف العراقية في خمس عشرة سنة "، المعلم الجديد، العدد (1)، السنة (1)، بغداد، شباط 1935. وهناك ما كتبه الاستاذ حسن الدجيلي، تقدم التعليم العالي في العراق (بغداد: د.ت.، 1963). أيضا ثمة تفصيلات عن الموضوع عالجها الاستاذ يوسف عزالدين في كتابه الضخم: فهمي المدرس: من رواد الفكر العربي الحديث (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، 1970). ولابد أن اشير ايضا الى البحث الموسوم: " دراسات في العمارة الحديثة في العراق: عمارة جامعة آل البيت: المشروع التخطيطي والانجاز " للصديق الأستاذ الدكتور خالد السلطاني.

5/ شكر وتقدير: وقبل ان اختتم هذه المقدمة، ينبغي علّي ان اوجه خالص الشكر والتقدير كل الذين قدموا لي يد المساعدة في كتابة هذا " البحث "، واخّص بالذكر اثنين من الاصدقاء المعمار الاستاذ الدكتور خالد السلطاني ورجل القانون الاستاذ الدكتور سعدون القشطيني وقد زاملتهما بجامعة آل البيت الاردنية لاربع سنوات اذ قّدم لي الاول معلومات مكتوبة وبعض الصور النادرة في حين قدّم لي الثاني معلومات شفوية.. كما اشكر كل من ساعدني في الوصول الى الوثائق العراقية سواء وثائق البلاد الملكي ام اوراق مكتبة الاوقاف ام الوثائق والصحف القديمة في المركز الوطني للوثائق والاوراق الخاصة بجامعة آل البيت.. كما اذكر الانسة جوي بيترسون التي قدمت مساعدتها لي سنة 1978 في دائرة الارشيف التابع لوزارة الخارجية البريطانية والاوراق الخاصة ببعض العاملين في العراق ابان عهد فيصل الاول. (د. سّيار الجميل/ استاذ التاريخ الحديث والفكر المعاصر)

الأكاديمية العراقية: الجذور القوية
حظي العراق بمدارس وكليات عليا رصينة في النصف الأول من القرن العشرين، ساهمت كثيراً في رفد المجتمع بالثقافات الجديدة، وعملت على إخصاب المقومات الأساسية له، فزخرت الفئات الشابة بالمزيد من التطلعات الفكرية والقومية، وتخلصت النخبة المفكرة من انتلجينسيا العراق من بقايا الذهنية المركبة التي كانت تتقولب بها الأجيال القديمة، ويعود الفضل في ذلك إلى عهد الملك فيصل الأول وزخارة المرحلة التأسيسية، وبتشجيع منه، فقد جلب العديد من المدرسين والمدرسات من الخارج، ولعب ساطع الحصري دوراً بارزاً في إثراء شؤون المعارف العراقية إذ قام بوضع مرتكزات تربوية / بيداغوجية حديثة لتربية الجيل الجديد، ومن حسن الحظ أن نخبة ممتازة من أبناء العروبة قد ساهموا في هذه المعركة بحماس واندفاع، فقدموا إلى العراق، حيث كان مأوى الأحرار وملجأ المجاهدين، لقد أثرت كل من كلية الحقوق ودار المعلمين العالية كثيراً في الحياة السياسية والفكرية والثقافية العراقية على مدى نصف قرن كامل 1908-1958. وذلك بتكوين جيلين في الثقافة السياسية العراقية: جيل ليبرالي من الحقوقيين العراقيين إبان عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، وجيل راديكالي من التربويين والمعلمين ابان عقدي الخمسينيات والستينيات (4).
كانت مدرسة (= كلية) الحقوق أول مدرسة عليا للدراسات القانونية في العراق، قد تأسست عام 1908م ابان عهد ووكيل الوالي العثماني ناظم باشا، وهو المفتش العام للخطة العراقية عصر ذاك، ودامت أعمالها حتى الاحتلال البريطاني للعراق في 11 آذار / مارس 1917م، ثم أعيد فتحها عام 1919م بدروس محددة ثم اكتملت فيها الدروس الحقوقية والاجتماعية العليا، واعتمدت منذ إعادة نشأتها على كفاءات عراقية خالصة في التدريس ثم استقدمت فيما بعد العديد من الأساتذة المصريين، وكان من أبرز الأساتذة العراقيين: توفيق السويدي (للإدارة) وعارف السويدي وأمجد الزهاوي ونشأت السنوي وسليمان فيضي الموصلي وحكمت سليمان ورشيد عالي الكيلاني وداود السمرة ورؤوف الجادرجي وعبد القادر السنوي وناجي السويدي وناجي الاصيل وخالد الشابندر وانطوان شماس وعبدا لله ثنيان وحسين أفنان ويوسف العطا وكمال السنوي وغيرهم من بعدهم امثال منير القاضي وناجي القشطيني وعبد الرحمن البزاز وغيرهم (5).

لقد اعتمدت الدولة على رجالات القانون اعتماداً كبيراً، كما وتخرج في أروقة هذه الكلية العشرات من المثقفين والمناضلين اللامعين الذين أثروا تأثيراً بالغاً في حياة العراق الوطنية والنيابية/ السياسية وعلى الأخص في عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، ثم جاء تأسيس دار المعلمين العالية عام 1924م على نحو بسيط وقد تكاملت في عام 1939م لكي تغدو أبرز مؤسسة عراقية رصينة، رفدت الحياة العراقية بالاتجاهات القومية والاشتراكية الحديثة خلال عقد الخمسينات، وكما وصفها أحد خريجيها بأنها " الدار ينبوعاً متدفقاً سقى كل غرسة رفضت ذلك الواقع وبشرت بالانقلاب، ويكفيها أن من رحمها الطاهر طلع على الشعر(العربي): بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ولميعة عباس عماره وغيرهم.." (6).

الملك فيصل الأول وتأسيس جامعة آل البيت:
بغداد تستعيد ولادتها من جديد

يأتي قرار الملك فيصل الأول بتأسيس جامعة في العراق باسم "جامعة آل البيت " متزامنا مع تأسيسه مؤسسات واجهزة ومرافق عدة منذ السنة الأولى لاعتلائه عرش العراق سنة 1921، نظرا لحاجة البلاد وابنائها عهد ذاك لمؤسسة علمية عليا من اجل بناء كوادر علمية مثقفة وكفوءة في إطار تكوين العراق المعاصر.. وخصوصا في العاصمة بغداد التي كانت منارة للعلم والعلماء من كل مكان في سالف الأزمان، وما شهدته تواريخها الحضارية المزدهرة من المدارس الكبرى ودور العلم والترجمة وخزانات الكتب واسواق الأدب وبيوت الفقه واللغة والبيمارستانات (= المشافي ومحلات إقامة المرضى).. وكان فيصل الأول يمتلك الوعي بأهمية تجديد مكانة بغداد العلمية، وهو يزور أطلال المدرسة المستنصرية ويقرأ كثيرا عن بيت الحكمة والنظامية. هكذا، ولدت فكرة تأسيس جامعة علمية في العراق ترعى حاجته الأساسية. وجاء التأسيس سريعا لضرورة اجمع عليها المفكرون الذين كانوا قد بسطوا ذلك في الصحف البغدادية.
كان فيصل الأول يدرك جيدا ومنذ اللحظة التاريخية الأولى لوصوله العراق بأن المجتمع الذي سيقوم بمهمة إدارته، هو مجتمع تتباين مستوياته وانتماءاته، وتتعدد اشكاله والوانه.. وتتنوع أغراضه واهواء الناس فيه.. وان أبناءه بحاجة ماسة وحقيقية للثقافة الجمعية والمعرفة العلمية والنضوج الاجتماعي، وهي السبل الأساسية لمحو تبايناته وتنوعا ته الدينية والمذهبية والطائفية والقومية والاقلياتية، وان ذلك لا يتم فعلا ألا من خلال بناء مؤسسات علمية راقية تجتمع من خلالها الكلمة، وباستطاعة خريجيها او النخبة منهم الارتقاء بالمجتمع والدولة معا، سيما وان الدولة كانت لم تزل في طور الانتداب.. وان استقلال العراق بحاجة ماسة لرجالات لهم تكوينهم وثقافتهم وكفاءتهم العليا (7).

عندما تأسس كيان الدولة العراقية الحديثة في مطلع العشرينات، كان هناك نقص كبير في اغلب مرافق الحياة العصرية، بسبب تأخر العراق ومشكلاته وانتكاس نهضويته ابان العهد العثماني ؛ ولقد شمـل ذلك النقص بطبيعة الحال اغلب المؤسسات التعليمية العالية؛ اذ تعلمنا التواريخ المحلية العراقية ابان تنصيب فيصل الأول على عرش العراق سنة 1921 بأن ليس في العراق سوى مؤسسة واحدة بمستوى التعليم العالي هي " مدرسة الحقوق، وثمة مدرستان أخريان قريبتان من مستوى هذا التعليم هما " دار المعلمين العالية" و " المساحة " التي سميت بعدئذٍ " بمدرسة الهندسة " (8)، وهناك المدرسة العسكرية. ويبدو للمؤرخ بأن جميع تلك المؤسسات التعليمية لم يكن لها أي تصاميم خاصة بها، ولا تنفرد بأي وحدات منعزلة.. وإنما كانت العادة أن تشغل فضاءات مؤجرة في قلب العاصمة بغداد التي يجتمع فيها طلبة ولايات العراق الثلاث: بغداد والموصل والبصرة، وهي ابنية قد تكون في كثير من الأحيان مشيدة لأهداف بعيدة عن مقومات الإشغال الأكاديمي ـ على حد تعبير المعمار خالد السلطاني ـ. من هنا كانت الحاجة ماسة إلى تشييد جامعة حديثة غايتها، أساساً، كما كان يطمح مؤسسوها، خلق " انتلجنتسيا" عراقية محلية، وكذلك سد العجز في المناصب المختلفة والعديدة التي برزت فجأة أثناء وبعد تشكيل الهيكل الإداري للدولة العراقية الفتية.
نعم، كان أبناء العراق قد اعتمدوا في تربيتهم وتكوينهم وتدريبهم علميا وأدبيا وفنيا، مدنيا وعسكريا على المدارس المحلية الشهيرة في المدن، وعلى المدارس العليا باستانبول.. فضلا عن مدرسة الحقوق ببغداد وعلى شعب الاختصاص في " دار الفنون " و " دار المعلمين " والمدرسة العسكرية.. وذلك في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين (9). وجاء تأسيس الحكم الوطني وانبثاق الدولة العراقية بمثابة نقلة تاريخية نوعية في حياة المجتمع العراقي الذي بقي قرابة أربعة قرون في ظل الحكم العثماني.. وان ذلك "المجتمع" غدت له الآن شخصيته وهويته ورسالته الجديدة في الحياة المعاصرة خصوصا بعد ان تقلد الملك فيصل الأول مقاليد سلطاته الدستورية فيه (10).
ويبدو للدارس والمؤرخ بأن الرجل كان على دراية تامة بما هي عليه أحوال المجتمع العراقي قبل وصوله اليه.. فلما بدأ إدارته للعراق اخذ يفكر استراتيجيا بما تحتاجه البلاد من ضرورات واحتياجات في المستقبل (11)، وذلك بايجاد مخارج حقيقية وعملية لرجال العراق وشبابه القادرين على تحّمل أعبائهم والاضطلاع بمسؤولياتهم والقيام بواجباتهم الوطنية بعد تحصيلهم لدرجات الكفاءة وشهادات المهارة وتعيينهم موظفين في وزارات الدولة ومؤسساتها الادارية والقضائية والتربوية والفنية.. كما ان كلا من الدولة والمجتمع العراقيين كانا بحاجة ماسة الى كوادر متخصصة في الاداب والعلوم والفنون يمكن الاعتماد عليهم كنخبة عليا في الاصلاحات النهضوية والعمليات التحديثية، ناهيكم عن ان تكوين كهذا لا يمكن انجازه في خارج البلاد، وذلك بالاعتماد على التعليم العالي الاجنبي نظرا لمحاذير عدة، منها: صعوبة إرسال البعثات الدراسية وكلفتها المالية، وصعوبة المواصلات، وازدياد عدد الطلبة وغيرها من الاسباب (12).
لقد صرح الملك فيصل الأول عدة مرات بـ " إعادة مجد المستنصرية " وصلاحيتها لهذا الغرض السامي، وكان قد تفقّدها مع جمهرة من العلماء العراقيين في اليوم العاشر من شهر ذي القعدة سنة 1339 هجرية / 16 تموز (يوليو)1921 (أي بعد خمسة ايام فقط من المناداة به على عرش العراق يوم 11 تموز(يوليو). وتّم تنصيبه في 22 آب (أغسطس) 1921، ولكن تبيّن بأن ما تبقى من أطلال المدرسة المستنصرية التي شيدت في القرن الثاني عشر الميلادي لا يصلح لجامعة حديثة في القرن العشرين ؛ واجمع الرأي على إبقاء القديم على قدمه مع جعله متحفا اثريا أو مكتبة عامة (13). لقد بقي الملك فيصل الأول يستقرأ الأحوال من جميع نواحيها مع بعض رجالات العراق وبالأخص من أصحاب الحل والعقد مفاتحا إياهم بتأسيس صرح علمي كان يشجعه بنفسه، مشترطا لإنجازه : الإخلاص الدائم والعزم القوي والمال الوفير والإجماع على التأييد.. ولما كانت الجامعات مظهر من مظاهر الاستقلال، فإنها لا تأتي بطريقة عفوية بل بطريقة مدروسة كي تغدو صرحا أساسيا في البلاد من اجل الاستقلال الذي يعد صعب المنال. هكذا، تحقق حلم فيصل أمل العراقيين بتأسيس جامعة مستوفية شروط الجامعات العصرية، وذلك لما ضمتّه من شعب (= كليات) وأقسام علمية ـ على حّد تعبير رئيسها الأستاذ فهمي المدرس ـ (14)وهذا يخالف ما ذهب إليه الاستاذ ساطع الحصري ان الجامعة لم تستوف شروط العصر، فكان مصيرها الرحيل ـ مع الأسف ـ ! (15) (وسنأتي الى تفاصيل ذلك لاحقا).
بعد صدور الإرادة الملكية السامية بتأسيس جامعة آل البيت في العراق، تألفت في يوم 11 كانون الثاني / يناير 1922 هيئة تأسيسية من رجالات عراقيين ومن خبراء أجانب فنيين وكانت برئاسة الاستاذ محمد علي فاضل أفندي وزير الاوقاف وعضوية كل من المستر كوك مستشار وزارة الاوقاف والميجر ويلسن مدير الأشغال العامة وصالح الملي رئيس مجلس وزارة الاوقاف وحمدي الاعظمي مدير الأوقاف والاستاذ فهمي المدرس العالم والأديب العراقي المعروف (16). وانني ربما أفهم لماذا اشترك الميجر ويلسن في الهيئة التأسيسية لجامعة آل البيت بحكم وظيفته الهندسية كمدير للاشغال العامة (= العمومية)، ولكنني لم أفهم عضوية المستر كوك ليس في الهيئة التأسيسية لهكذا جامعة، بل لم أفهم طبيعة عمله كمستشار لوزارة الاوقاف!! ربما كان المستشارون الانكليز لهم عملهم وتخصصاتهم في وزارات أخرى، ولكن ماذا يمكن لعلماء العراق ان يستشيروا المستر كوك في شؤونهم الوقفية؟

فهمي المدّرس.. من يكون؟
وقبل ان نمضي في تحليل المعلومات، لابد ان نقف قليلا عند الرجل الذي اختير ليكون رئيسا (او: كما سمي أمينا) للجامعة، اذ عدّ الاستاذ فهمي المدرس واحدا من ابرز المفكرين العراقيين المستنيرين ليكون على رأس هذه المؤسسة، والرجل عالم واديب وصاحب قلم ولغة وفكر، وعّد واحدا من ابرز رجالات النهضة العربية والفكر العربي الحديث ـ حسب رؤية الاستاذ يوسف عزالدين الذي خّصه بمجلد كبير عن حياته وتفكيره (17). بدأ مثقفا عثمانيا منذ شبابه اذ اندفع يكتب في جريدة زوراء البغدادية منذ عام 1901 م، وبعد الانقلاب الدستوري العثماني عام 1908 م، بدأ ينشر مقالاته في جريدة بغداد.. وقد وصفه الاستاذ خالص عزمي باستاذ الجيل والمصلح السياسي بقوله: " وكان استاذ الجيل المتنور فهمي المدرس هو اول من لمح تعبيرا عن هذا النمط من الاصلاح السياسي حينما كان رئيسا لجامعة (آل البيت) في العشرينات من القرن الماضي واشتهر باسلوبه الادبي ومقالاته الفكرية التي جمعها في كتاب.. " (18). وكان المدرس قد حّرر مقالاته في عدة صحف عراقية من اقدمها جريدة زوراء عند مفتتح القرن العشرين. ويقال انه سكن بيتا جميلا في حي الاعظمية أحد اجمل احياء بغداد في القرن العشرين. لقد كان فهمي المدرس رجل كلمة وموقف اذ اتصّف ببراعته وشجاعته وقول كلمة الحق كان انيقا وله آداب الثقافة الاوروبية الحديثة.. وكان صريحا وجريئا في قول ما يؤمن به (19).. ومن اشهر اقواله: " "إن عزيز علي المصري لم يأل جهدا في إقناع الشريف حسين بان ينتهز الفرصة ويعلن استقلال العرب ويلازم الحياد وان يأذن له بتدريب جيش في الطائف استعدادا للطواريء, فأبى وأقصاه عن الحجاز, معتمدا على وعود الإنكليز التي لم تكن سوى شبح زائل. وهذه هي أول خطيئة في تاريخ القضية العربية ومنها نشأت الحالة القاسية التي يعاني مرارتها اليوم جميع الناطقين بالضاد." (20). ونتيجة لمواقفه السياسية تعّرض للنفي في العام 1931 الى كويسنجق رفقة الصحافي المعروف روفائيل بطي. توفي فهمي المدرس ببغداد سنة 1944.

هوامش:
1- لعل أبرز من كتب عن هذا " الموضوع " المتميز: متي عقراوي، " المعارف العراقية في خمس عشرة سنة "، المعلم الجديد، العدد (1)، السنة (1)، بغداد، شباط 1935. حسن الدجيلي، تقدم التعليم العالي في العراق (بغداد: د.ن.، 1963). أيضا ثمة تفصيلات عند: يوسف عزالدين، فهمي المدرس: من رواد الفكر العربي الحديث (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، 1970).
2- عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث (صيدا، 1957)، ج1، ص12. وانظر ايضا: علي جودت، ذكريات 1900 - 1958، بيروت، 1967، الملاحق.
3- راجع: سّيار الجميل، " الملك فيصل الاول والتأسيس العلمي في العراق: جامعة آل البيت في العراق 1924 - 1930م: تأسيسها.. تجربتها وتداعياتها "، في: هند ابو الشعر (اعداد وتحرير)، بناء الدولة العربية الحديثة: تجربة فيصل بن الحسين في سورية والعراق (المفرق/ الاردن: منشورات جامعة آل البيت، 1999)، ص 341- 383.
4- راجع: سّيار الجميل، "انتلجينسيا العراق: التكوين.. الاستنارة.. السلطة"،
بحث قُدّم في الملتقى الاكاديمي الذي نظمه مركز الدراسات والابحاث الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة التونسية (الملتقى تحت عنوان: النخبة والسلطة في العالم العربي) للفترة 4-9/12/1989. نشر البحث في مجلة المستقبل العربي، العدد (139)، السنة (13)، ايلول / سبتمبر 1990.
وانظر التفاصيل في كتاب سّيار الجميل، انتلجينسيا العراق: النخب المثقفة في القرن العشرين (نشر مسلسلا بحلقات في الزمان اللندنية عام 2000)، وسينشر في كتاب قريبا.
5- المرجعان نفسهما.
6- نقلا عن المرجعين نفسهما.
7- مديرية الدعاية العامة، فيصل بن الحسين في خطبه واقواله: ومضات من سيرة الملك الزعيم مؤسس مملكة العراق ومنشىء الجامعة العربية (بغداد: مطبعة الحكومة، 1945)، ص 232 وما بعدها. وانظر ايضا ما ذكره عنه:
Steuart Erskine, King Faisal of Iraq, London,1933, pp. 87-9. See also, Gerald de Gaury, Three Kings in Baghdad, 1921-1958, London, L961, p. 32.
8- حسن الدجيلي، تقدم التعليم العالي في العراق، بغداد 1963، ص 22.
9- راجع ما كتبه: سّيار الجميل، " تطور الفكر الحديث في العراق "، مجلة الجامعة، العدد (1)، السنة (7)، (جامعة الموصل: تشرين الاول / اكتوبر 1976). وقارن تحليلاته في دراسته الموسومة: " انتلجينسيا العراق: التكوين.. الاستنارة.. السلطة "، المستقبل العربي، العدد (139)، السنة (13)، ايلول / سبتمبر 1990، ص 45.
10- من المفيد جدا، مراجعة تحليلات المؤرخ حنا بطاطو للقاعدة الاجتماعية في العراق، مع اشارتنا الى انه لم يعتن ابدا بالجوانب الثقافية ومستويات المجتمع من النواحي التعليمية.. فضلا عن تغافله عن ادوار كل من الزعيم فيصل وطاقم الحكم لهذه الجوانب الاساسية في حياة العراق المعاصر عند تأسيس دولته الجديدة، أنظر:
Hanna Batato ,The Old Social Classes and the Revolutionary Movements of Iraq: A Study of Iraqi Old Landed and Commercial Classes and of its Communists, Ba thists and Free officers (Princeton amp; New Jersy, l978), p. 121.
11- Erskine, op. cit., pp. 71-6. وقارن: غانم وحيد خالد، " اثر المثقفين العرب في تكوين العراق المعاصر 1921ـ1941 " (اطروحة دكتوراه غير منشورة)، كلية الاداب ـ جامعة الموصل / العراق، 1995، ص 22.
12- للمزيد من التفصيلات، أنظر:Stephen H. Longrigg ,Iraq 1900-1950: A Political, Social and Economic history (London, 1958), p. 119.
13- من رسالة بخط اليد من فهمي المدرس ببغداد الى صديقه علي الجميل بالموصل.. يخبره فيها بتفصيلات زيارة فيصل الى بقايا المدرسة المستنصرية اثر المناداة به ملكا على العراق وقبل اعتلائه العرش. والرسالة بتاريخ 12 ذي القعدة 1339 للهجرة.
14- من ابرز المصادر واهمها في كتابة هذا " الموضوع "، البيان الذي كتبه ونشره: فهمي المدرس، بيان عن جامعة آل البيت والشعبة العالية الدينية (بغداد: مطبعة الاداب، 1930)، ص 9. (وساذكره لاحقا بمختصر: بيان..).
15- ومن ابرز المراجع الاساسية في التعرف على موقف ساطع الحصري من جامعة ال البيت بالعراق، انظر: ساطع الحصري، مذكراتي في العراق 1921ـ1941، ج 1، (بيروت: دار الطليعة، 1967)، صفحات عدة.
16- الارادة الملكية المرقمة (491 / غ) بتاريخ 11 كانون الثاني 1922. ملفات البلاط الملكي في العراق (الديوان)، المركز الوطني لحفظ الوثائق، بغداد.
17- يوسف عز الدين، فهمي المدرس: من رواد الفكر العربي الحديث (القاهرة: معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، 1970، ص 4_5.
18- انظر مقالة خالص عزمي، الديمقراطية والاصلاح السياسي في العالم العربي المنشورة في الحوار المتمدن، العدد 1348 يوم 15 اكتوبر 2005.
19- انظر: كتاب فهمي المدرس، مقالات، المطبوع ببغداد، د. ت. ورق اسمر من القطع الكبير.
20- جريدة الاستقلال، بغداد،14 آذار 1931.

يتبع

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف