جمال البنا .. لا تعتذر عمّا كتبت!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
-1-
كنتُ أُحبُّ وما زلت أُحبُّ شيخنا جمال البنا، وأقدره حق قدره، واحترم منـزلته الكبيرة الدينية والفكرية. وكنتُ اتمنى وكان يتمنى معي من أحبوه من الكتاب والمفكرين والقراء أن لا يكون ما كتب في صحيفة "المصري اليوم" صحيحاً.. وأن يكون مدسوساً من قبل أعداء جمال البنا الكُثر الذين يضيقون بفتاويه الدينية والجريئة والمتحدية لمجموعة كثيرة من أشياخ الدين، والتي تحتفل بها المرأة العربية أيما احتفال، ويحفظها الليبراليون عن ظهر قلب ويجادلون بها خصومهم من أشياخ الدين المتشددين. ولكن أمنيتنا وأمنية محبي الشيخ البنا، في أن لا يكون صحيحاً ما كتبه في مقاله المذكور، عن كارثة 11 سبتمبر قد خابت. ومضى أسبوعان، ولم ينفِ الشيخ البنا أنه كتب هذه المقالة، أو يعتذر عن سوء فهمنا لمقالته - كما هي عادة السياسيين في النفي - رغم أننا نشرنا مقالنا (جمال البنا .. حلقة جديدة في سلسلة المرتدين) في أكثر من صحيفة ورقية، وفي أكثر من أربع صحف اليكترونية، وتناقلته مواقع كثيرة على الانترنت لا حصر لها. ومن المؤكد أن شيخنا قد قرأه ايضاً أو أحداً من مريديه - وهم كثر - لفت نظره اليه. ويبدو أن الشيخ البنا مؤمن تماماً بما قال في مقاله، من أن مجرمي كارثة 11 سبتمبر، "أشجع الشجعان" وبأن الجريمة التي ارتكبوها، وقتلوا فيها ثلاثة آلاف من الأبرياء، كانت "أداءً رائعاً". وهو ما قاله بن لادن حين وصف منفذي الكارثة بأنهم "كوكبة من أبطال الإسلام". وأن الشيخ البنا فخور باعجابه بالانتحاريين الـ 19 الذين شنوا تلك الهجمات البشعة.
فمعذرة لكل محبي ومريدي الشيخ البنا، وكل من توقّع أن يكون ما كتبه الشيخ البنا في مقالته تلك غير صحيح. ولكن تبقى الأيام حبلى بالمفاجآت.
-2-
ولكن لو قلّبنا الأمر على أكثر من وجه، لرأينا أنه من الواضح أن جمال البنا غير مؤمن إيماناً عقلياً - وهو الشيخ العقلاني - بما قاله في مقالته السابقة الذكر. ولو كان مؤمناً حقاً بما قال لما صبر كل هذه السنوات الخمس ليقول لنا في نهايتها أن مجرمي 11 سبتمبر هم "أشجع الشجعان" وأن جريمتهم كانت "عملاً رائعاً". فنحن لم نشهد في تاريخ الفكر الديني المعاصرة ردة كهذه الردة، ولا تراجعاً كمثل هذا التراجع الحاد والكلي. سيما وأن الشيخ البنا قد وُصف في تيار الفكر الديني بأنه من "التيار الإسلامي الليبرالي" من خلال كتبه: (الحرية)، و(التعددية في المجتمع الاسلامي)، و (الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة) ، و(استراتيجية الدعوة الاسلامية) وغيرها، والتي كانت تركز على ليبرالية الإسلام وعقلانيته من خلال التالي:
- ربط الحداثة بالفكر الاسلامي.
- التوحيد الذي جاء به الإسلام يعني اطلاق التعددية بين الخلق وليس الوحدانية السياسية أو الحزبية.
- الإسلام هو دين العلمانية ، ولا ربط بين الدين والدولة. ولكن هناك ربطاً بين الدين والأمة.
- ينادي البنا بوقف تفاسير القرآن، وإلغاء ما سبقها من تفاسير . ذك أن هذه التفاسير السياسية والأيديولوجية، قد أساءت كثيراً للإسلام. وأن هذه التفاسير ادعت على لسان القرآن والسُنّة ما ليس فيهما من معان، وادخلت الكثير من الاسرائيليات والاحاديث الضعيفة والمنحولة.
وفجأة ينقلب الشيخ البنا 180 درجة، ويصبح صدىً لأصوات الكهوف في تورا بورا ، ويردد ظلاميات وهذيان غُربان "القاعدة" التي تريد أن تعيد المسلمين إلى ما قبل القرون الوسطى المظلمة. فقوله بأن مجرمي 11 سبتمبر هم "أشجع الشجعان"، وأن كارثة 11 سبتمبر "أداء رائع" ليس مجرد تلاعب بالألفاظ، ولا هو بالعلك السياسي، فشيخ كجمال البنا لا يتلاعب بالألفاظ ولا يعلك بالسياسة. وهو يعتبر نفسه مثقفاً عضوياً مسؤولاً عن كل كلمة يقولها. وإنما أقواله هذه ردة من إيمان البياض إلى إيمان السواد. ومن إيمان القرن الحادي والعشرين إلى إيمان القرون الوسطى. ومن إيمان فقهاء الرحمان إلى إيمان فقهاء السلطان. ومن إيمان إسلام القرآن إلى إيمان الإسلام المخطوف. ومن إيمان إسلام المحبة إلى إيمان إسلام المطيّة.
فلماذا فعل جمال البنا كل هذا عن قناعة تامة كما يبدو لنا الآن، ولكنها قناعة من أجل هدف واحد، وهو هدف الشهرة والنجومية، الذي كان يسعى اليه جمال البنا منذ بدء حياته إلى اليوم ، وعبر كتبه وفتاويه المثيرة والمتميزة.
-3-
جمال البنا، هو ابن أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي. وأحمد البنا كان ساعاتياً، يصلّح الساعات، وتعلم هذه المهنة أيام كان يدرس في الإسكندرية في حلقات العلم الأزهرية في المعهد الديني الأزهري. ولكنه كان في الوقت ذاته محققاً تراثياً، حقق عدة كتب منها كتاب "الفتح الرباني لمسند الامام أحمد بن حنبل"، ثم شرح كتابه هذا شرحاً موسوعياً (24 جزءاً) سمّاه "بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني". وله في الحديث النبوي كتب، منها كتاب "بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن "، و " منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود " . وله مؤلفات لم تطبع منها " إتحاف أهل السنة البررة بزبدة أحاديث الأصول العشرة". إذن، فقد كان الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي عَلماً في زمانه وشيخاً له مكانته ومقداره الثقافي الديني الكبير (توفى 1958). وكان جمال البنا يسعى لأن يتفوق على والده في المجال الديني الثقافي نفسه، وهو سعي محمود. ولكن سعيه هذا كان قد وصل به إلى حد العقدة النفسية، وربما العقدة المرضية، كما يقول أحد عارفيه عن قرب، ومنهم الشيخ أحمد صبحي منصور.
فلو أننا اعتبرنا - فرضاً - أن العقد النفسية الأولى لجمال البنا كانت سمعة والده الشيخ أحمد البنا، فإن العقدة الأكثر حدة والأعمق أثراً ، كانت عقدة شقيقة الأكبر حسن أحمد البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين. فكان جمال البنا بكتبه وفتاويه المثيرة كالمفرقعات، يريد أن يتفوق في الشهرة والنجومية على شقيقه حسن البنا الذي أصاب من الشهرة والنجومية منذ الأربعينات وحتى الآن الشيء الكثير. بل إنه يعتبر بفضل حركة الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي والعالم الإسلامي والغرب عموماً محاذياً للصحابة والخلفاء الراشدين في الشهرة والنجومية والتبجيل. بل إن كثيراً من شباب الإخوان يعرفون جيداً من هو حسن البنا، ولا يعرفون الكثير من الصحابة. ولا خليفة أموي أو عباسي ، ولا سلطان عثمانياً، ولا حاكماً فاطمياً أو مملوكياً، يعيش في ذاكرة الأتباع والمناصرين والمريدين بالملايين من حركة الإخوان المسلمين كحسن البنا.
وحسن البنا لم يكن زعيماً سياسياً فقط يُغتال اغتيالاً سياسياً في عام 1949، ولم يكن فقط قائداً لحركة دينية سياسية كحركة الإخوان المسلمين التي هي الآن أكبر حزب ديني سياسي في العالم، حيث يوجد لها فروع في أكثر من سبعين بلداً في العالم، وتقدر أموالها وأصولها المنقولة وغير المنقولة بمليارات الدولارات. ولكن حسن البنا، اضافة إلى ذلك كله، كان مفكراً دينياً كبيراً ترك من الآثار الفكرية - الدينية - السياسية الشيء الكثير. ولم يُكتب عن زعيم ومفكر ديني وسياسي في الشرق والغرب كماً من الدراسات والأبحاث كما كُتب عن حسن البنا.
وقد شعر جمال البنا بأن حسن البنا لم يترك له مكاناً مهما تعلّم واجتهد وأفلح. وأن المكانة الدينية والسياسية لحسن البنا قد طغت على مكانة ملوك أسرة محمد علي في مصر، وانها طغت كذلك على بعض رجال الثورة المصرية فيما بعد. وما زالت هذه المكانة لحسن البنا إلى الآن، تزداد بريقاً ووهجاً وتجدداً كلما انتصرت حركة الإخوان المسلمين في قطر من الأقطار، وارتفع شأنها في مصر من الأمصار.
فماذا يفعل جمال البنا حيال هذا الهرم الكبير ، لكي يتفوق، ويشتهر، ويبرز، ويصبح نجماً كشقيقه، أو حتى يقترب من هذه النجومية الساطعة؟
-4-
لا غبار أن يكون أبي شيخاً مشهوراً كأحمد البنا. ولا غبار أن يكون شقيقي الأكبر زعيماً دينياً وسياسياً كبيراً كحسن البنا. ولا غبار عليَّ أن أسعى لأن أكون نجماً ساطعاً مثلهما، ولكن المهم أن لا يكون مثل هذين العاملين ، سبباً في احداث عقدة نفسية مرضية لي، اتخبط بها، بحيث أنني أكفر بما كنت أؤمن، وأؤمن بما كنت أكفر، واتحول إلى مطرب ديني وفكري من مطربي السهرة العربية الصاخبة الحالية، وأقول ما يرضي الجمهور، ويزيد من شعبيتي الجماهيرية على حساب الحقيقة، لكي أُسعد الجمهور، وأنال تصفيقه واستحسانه مقابـل التنازل عن يقيناتي وقناعاتي.
وجد جمال البنا، أن أسهل الطرق إلى الشهرة والنجومية، هي معارضة ونقض معظم ما قاله شقيقه حسن البنا، وجاءت به جماعة الإخوان المسلمين. أي أن يقف معارضاً لمعظم أفكار شقيقه ولخطاب جماعة الإخوان المسلمين الديني والسياسي والاجتماعي. فجمال البنا رغم عمله المتواصل لمدة نصف قرن بين طبقة العمال، وجهوده الكبيرة في مجال العمل النقابي والعمالي الذي ظل محور مشروعه الفكري، إلا أنه لم ينل من الشهرة والنجومية ما يريد ويأمل.
فماذا فعل جمال البنا؟
لقد فعل، وقال التالي:
1- العمل في السياسة إلى جانب العمل كشيخ من شيوخ الأزهر. بمعنى عدم ترك السياسة للسياسيين، ومزج الرأي السياسي بالرأي الديني الشرعي. وهو عارض بذلك دعوته ودعوتنا بضرورة ابتعاد رجال الدين عن السياسية وعدم خوضهم في المعارك السياسية، وفصل الدين عن السياسة. ونحن غضضنا النظر عن عمله بالسياسة وهو الشيخ الأزهري، عندما شعرنا بأن مواقفه السياسية الليبرالية مما جرى في افغانستان ومما جرى في العراق على وجه الخصوص تخدم توجهنا، وتساند دعوتنا، وتؤيد مطالبنا، خاصة عندما قال إن الجهاد إلى جانب الحاكم الكافر العادل فرض عين أكثر من الجهاد إلى جانب المسلم الظالم. وكان في ذلك تأييداً واضحاً لخلع صدام حسين بالطريقة التي تمت فيها، فجر التاسع من نيسان 2003.
2- وقف جمال البنا مواقف سياسية واضحة وصريحة معارضة لمواقف الإخوان المسلمين. وبالتالي معارضاً صريحاً لشقيقه حسن البنا فيما لو كان حياً بيننا الآن. فالإخوان المسلمون الذين أيدوا غزو صدام للكويت والاعتداء على شرق السعودية، عارضه جمال البنا. وغزو أمريكا لافغانستان والعراق الذي عارضه الإخوان المسلمون أيده جمال البنا. وكان جمال البنا على نقيض تام مع مواقف الإخوان المسلمين من عدة قضايا سياسية.
3- أصدر جمال البنا عدة فتاوى معارِضةً لفتاوى أخيه حسن البنا.
فحسن البنا قال بوجوب اقرار العدل للصحابة إلزاماً كما استقر المنهج عند أهل السنة والجماعة، وجمال يرى أن الصحابة قد يكذبون في الحديث.
وحسن يرى أن الإجماع دليل من أدلة الأحكام المعتبرة عند أهل السنة والجماعة، وجمال يراه خرافة لا يمكن أن تتحقق.
وحسن يؤمن ما اصطلح على تسميته بعلوم القرآن جملة وتفصيلا؛ وهي العلوم التي استقر علماء السلف على اعتمادها كقواعد وآليات لفهم النص القرآني، وجمال يرفض ذلك.
وحسن البنا قال بالحجاب في الإسلام، وجمال نفى أن يكون الحجاب من الإسلام.
وحسن اعتبر أن التدخين في رمضان يفسد الصيام، وجمال نفى أن يكون التدخين مفسدة للصيام، وأباح التدخين أثناء الصيام.
وحسن استنكر إمامة المرأة للمسلمين في الصلاة، وجمال أباح إمامة المرأة في الصلاة .
وحسن أبطل الزواج الشرعي ما لم يوجد شهود وولي أمر، وجمال قال بصحة هذا الزواج بدون شهود أو ولي أمر.
وحسن أجاز وقوع طلاق الرجل للمرأة منفرداً بدون موافقة الزوجة، وجمال أنكر ذلك، ورفضه.
وعلينا أن نلاحظ أن لا شيخ في الإسلام قديماً أو حديثاً أفتى بما أفتى به جمال البنا، وقال بما قال جمال البنا، أو أيّده في فتاويه، مما يدل على أنه لا أصول في الإسلام لفتاوى الشيخ جمال. وأن فتاويه عبارة عن اجتهاد شخصي، ومواقف شخصية معارضة، لا سند لها، ولا أساس، ولا برهان مقنعاً.
وتلك واحدة من مظاهر فوضى الفتاوى المتضاربة، والتي أوقعتنا في مآزق وكوارث ومهالك، لا حدود لها.
وبعد، فهل من الممكن ان يتخلّى الشيخ جمال البنا عن مواقفه وفتاويه؟
إن ذلك يعني بكل بساطه تخليه عن نجوميته وشهرته. وهو بذلك لن يعتذر عمّا كتب.
السلام عليكم