لنتصارح إذا أردنا أن نتصالح (الحلقة الأخيرة)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لا يمكن أن يكتمل الحديث عن المصارحة والمصالحة إلا بذكر نقطتي الخلاف المتبقيتين وهما، حل المليشيات وجدولة انسحاب القوات الأجنبية من العراق. ورغم أن هاتين المسألتين تبدوان لأول وهلة، من بين نقاط الخلاف الأكثر تعقيدا، لكنهما، في نهاية المطاف، من أكثر المسائل القابلة للحل.
وفي ما يتعلق بجدولة انسحاب القوات الأجنبية، فأن معظم الأطراف السياسية العراقية، إن لم نقل جميعها، بدأت تدرك، بأن أي انسحاب غير مدروس لهذه القوات سيكون بمثابة كارثة. وحتى الزعماء العراقيين السنة الذين كانوا يضعون قضية انسحاب القوات الأجنبية في مقدمة شروطهم لأي مصالحة، فأنهم غيروا مواقفهم، وبدأوا يعلنون على الملأ أن المطالبة بانسحاب فوري للقوات الأجنبية ستكون بمثابة "مغامرة بمستقبل البلاد وتضحية بأرواح أبناء العراق"( تصريحات نائب رئيس الجمهورية الأستاذ طارق الهاشمي بتاريخ 2 أيلول 2006 لصحيفة المدى البغدادية). ومواقف كهذه إنما تنم عن واقعية وحكمة وشعور عال بالمسؤولية. فالقوات الأجنبية تحولت الآن، شئنا ذلك أم أبينا، إلى "حكم" وراعي للسلم الأهلي داخل العراق. إما في ما يخص الأمن الخارجي، فأن أي دولة مجاورة للعراق تستطيع هذه الأيام، بسبب غياب جيش وطني عراقي قوي، أن تجتاح العراق بفرقة كشافة واحدة. وغالبية الأطراف العراقية بدأت تقترب من قناعة مفادها أن الوقت الآن هو ليس الوقت المناسب للمزايدات العاطفية، أو النواح على قدح ماء مراق، ومعرفة لماذا وكيف حدث ذلك وعلى من تقع مسؤولية ما حدث. المهمة العاجلة الآن هي: كيف يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وحقن دماء العراقيين. وكل حديث يبتعد عن تحقيق هذه المهمة سيكون "مضغ علكة" لا يشبع العراقيين ولا يروي عطشهم للأمن والطمأنينة.
إما مسألة المليشيات فأن حلها ليس بتلك الصعوبة وهو مرهون بتوفر الإرادة السياسية المشتركة لدى جميع الأطراف العراقية المتنازعة. أي أنها ليست قضية أمنية صرف. فهذه المليشيات سيتم حلها فورا، متى ما توصلت الأطراف العراقية إلى حل يرضي الجميع. والعراق هو ليس البلد الوحيد الذي عرف ظهور المليشيات. المليشيات تظهر، في كل زمان ومكان، عندما تكون هناك حاجة لظهورها، ثم تختفي عند اختفاء تلك الحاجة. هذا ما حدث أثناء الثورات الأميركية والانكليزية والفرنسية. وهذا ما حدث أثناء الحروب الأهلية والاضطرابات السياسية التي شهدتها أميركا وفرنسا واسبانيا وانغولا ولبنان والحزائر ويوغسلافيا وفيتنام وأفغانستان وكردستان العراق. وتاريخ هذه الدول وغيرها من الدول التي مرت بظروف مشابهة، يرينا كيف أن مليشيات أهلية تكونت من لا شيء، ثم تضخمت بمرور الوقت، ثم أصبحت كل مليشيا أشبه بقوة عسكرية نظامية تقوم بجباية الضرائب، وإنزال العقاب ب "المخالفين"، وحماية "الحدود" الجغرافية التي تنشط فيها. لكن تلك المليشيات سرعان ما اختفت، أو تحولت إلى جيوش نظامية، أو تم استيعابها في أجهزة الدولة، وفقا للصيغ المختلفة التي تم على أساسها وقف المنازعات. والمليشيات العراقية لن تكون استئناءا، أو مشكلة فريدة من نوعها تستعصي على الحل، لكن شرط توفر الشروط الضرورية الواقعية والعملية. فالجميع يتذكر أن حكومة الدكتور إياد علاوي كانت قد أصدرت القرار 91 لسنة 2004 الخاص بدمج المليشيات في الحياة المدنية والعسكرية بعد تأهيل أفرادها. لكن ذاك القرار ظل حبرا على ورق، ليس بسبب تراجع حكومة علاوي عن وعودها أو هشاشة تلك الحكومة، وإنما لسبب واحد هو عدم توفر الشروط الموضوعية، وغياب القناعة السياسية المشتركة لدى جميع الأطراف العراقية.
والآن ؟ هل توفرت هذه القناعة ؟ ثم، من هي المليشيات التي تنشط على الساحة العراقية، ومن هي الجهات السياسية وغير السياسية المسؤولة عن نشاطها ؟
يبدو أن تزايد عدد المليشيات منذ ثلاث سنوات، وتناسلها المستمر ونشاطها الأخطبوطي وتوسع رقعة هذا النشاط، يجعل من الصعب لأي مراقب، مهما كان موضوعيا ومنصفا وملما، أن يعطي صورة حقيقية وواقعية عنها. وإذا ابتعدنا عن المعايير الأكاديمية للبحث، وعرفنا المليشيا بأنها "أي قوة أهلية مسلحة تنشط بمعزل عن قوانين ومراقبة الدولة الرسمية"، فنستطيع القول أن المليشيات العراقية تتكون من الجماعات المسلحة المقاومة للاحتلال، وأفراد العشائر، وجماعات الضغط، أي مليشيات الجريمة المنظمة، وتلك التابعة لجهات سياسية مشاركة في العملية السياسية مثل منظمة بدر وجيش المهدي. ولم نذكر، هنا، قوات البيشمركة الكوردية. فهذه لم تعد مليشيات، إنما هي قوات نظامية تعترف، رسميا، بوجودها جميع الأطراف السياسية المشاركة بالعملية السياسية. والدليل هو، أن جميع المسؤولين الحكوميين والقادة السياسيين، من جميع الأطراف، عندما يزورون منطقة كوردستان العراق ويلتقون المسؤولين الحكوميين هناك، إنما يتمتعون بالحماية الرسمية لهذه القوات، باعتبارها قوات رسمية نظامية معترف بها. ولم نجد مسؤولا واحدا في الحكومة المركزية، ولا زعيما سياسيا واحدا من كل الجهات، أعترض على وجود تلك القوات أو رفض حمايتها له، عندما يكون في زيارة رسمية لمنطقة كوردستان. وأكثر من هذا، فأن وزير الدفاع العراقي السيد عبد القادر محمد جاسم العبيدي ذكر (في 15/08/2006 ) بان "قوات البيشمركة موجودة وأمنت الحماية لمنطقة كردستان العراق ... وهي الآن سور كبير يمنع الإرهاب من أن يتطور داخل المحافظات الشمالية".
ومثلما لا نتحدث هنا عن قوات البيشمركة الكوردية، فأننا سنؤجل الحديث الآن، ولكن لأسباب أخرى، عن الجماعات المسلحة المناهضة للعملية السياسية. فهذه المليشيات لا تعترف، في الوقت الحاضر، بكل التغيرات السياسية التي حدثت منذ سقوط النظام السابق، وترفض العملية السياسية القائمة، جملة وتفصيلا. وسوف لن نتحدث، كذلك، عن مليشيات الجريمة المنظمة، فهذه المليشيات هي، رغم تأثيرها التدميري الواسع، أشبه بالأشباح التي يسمع عنها المرء، لكنه لن يستطيع رؤيتها، ناهيك عن التحاور معها. والقضاء على هذه المليشيات "الشبحية" لا يتم، تماما مثلما هو الأمر مع "مليشيات" أفراد العشائر، إلا بفرض هيبة الدولة وبسط نفوذها.
وهذه القضية الأخيرة، أي فرض هيبة الدولة، هو الذي سيقودنا للحديث عن المليشيات الأخرى، أي تلك التابعة لجهات سياسية تشارك بالعملية السياسية، بل وتقود الدولة الحالية، ونقصد هنا تحديدا، منظمة بدر وجيش المهدي. إننا نخص هاتين المليشيتين بأهمية استثنائية لسبب واحد ووحيد هو، كما ذكرنا توا، أن الجهات التي توجهها وتشرف على نشاطها، تقود، نظريا وعمليا، الدولة، وتتبوأ مواقع مهمة في جميع مفاصلها الإدارية والعسكرية والأمنية والدبلوماسية. وبالتالي، فأن هذه الجهات السياسية عليها أن تختار أما "الدولة" و"مؤسساتها الأمنية الرسمية" التي تشارك هي في تسييرها ورعايتها في العلن، أو "الثورة، الجهادية" التي تتحدث عنها في السر ويبدو أنها ما تزال أسيرة لأفكارها. إذ، ليس من المعقول ولا من المقبول أن يكون مسؤول سياسي في كتلة الإتلاف، مثلا، "وزيرا" في الصباح، وراعيا لمليشيا أهلية، عندما يحل الليل. وهذا الكلام ينطبق، بالمقدار نفسه، على قادة جبهة التوافق والحوار ومؤتمر أهل العراق. فليس من المقبول، وليس من المنطق السياسي في شيء أن يكون هذا المسؤول أو ذاك من هذه القوى، وزيرا في الصباح، لكن عندما يحل المساء يتحول إلى مؤيد، إن لم نقل ناطق باسم "المقاومة المسلحة" التي تطالب بتدمير الدولة التي يتحمل جزءا من المسؤولية في إدارتها.
ولا تجدي،هنا، أي مبررات تقدم لدعم هذه المليشيات، كأن يقال أن "جيش المهدي ليس مليشيات مسلحة ولا ينطبق عليها أي قرار يخص المليشيات"، مثلما ورد على لسان النائب والقيادي في التيار الصدري السيد بهاء الأعرجي/ صحيفة الشرق الأوسط في 14 تموز 2006 /. أو يقال، مثلما هو منسوب لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر، بأنه "غير قادر على حل جيش المهدي"، لأنه ليس له جيشه، بل "هو جيش الإمام المهدي المنتظر". أو أن يقال أن منظمة بدر قاتلت ببسالة النظام العراقي السابق، وهي الآن تنظيم سياسي، وعليها أن تتمتع، مكافأة لعملها النضالي السابق، بوضع خاص في النظام الجديد. المليشيا هي مليشيا، أي أنها قوة عسكرية أهلية خارجة عن القانون، مهما كانت أسباب وجودها، ومهما كان الاجتهاد الفقهي الديني الذي تستند عليه في نشاطها. وإذا تحدثنا بلغة السياسة، فان وجود أي مليشيا إنما يعني، ليس تجاوزا على القوانين المرعية الرسمية وانتقاصا من هيبة الدولة، فحسب، وإنما هو مناقض للعملية الديمقراطية، وتجاوز على الأوضاع الدستورية، وعقبة رئيسية أمام ضمان الحريات الفردية والعامة. فأي نائب أو رئيس كتلة برلمانية تملك مليشيا، يدخل البرلمان وهو يعرف جيدا انه يتفوق بقوة مضاعفة على زملائه الذين ينتمون إلى كتل برلمانية عزلاء، ويدرك جيدا أنه يتمتع بحجم سياسي أكبر من حجومهم السياسية. وكل وزير أو مسؤول حكومي ينتمي لجهة سياسية تملك مليشيا لا بد أن يعمل ويفكر وفقا للقوة الإضافية التي تمنحها له المليشيا، وهي قوة لا تتوفر عند زملائه الآخرين. وهذا اللاتوازن في الميزان العسكري لا بد أن ينعكس بشكل سلبي على الميزان السياسي التنافسي بين القوى السياسية، ويساهم في أرباك العملية الديمقراطية، بل وتخريبها، أيضا.
وبالإضافة إلى المشاكل السياسية والأمنية، هناك مشكلة كبرى أخرى يولدها نشاط المليشيات، وهي التخريب المنظم الذي يلحق بالاقتصاد العراقي، وإدخال الرعب إلى قلوب المواطنين البسطاء، وجعل المجتمع يعيش على حافة الهاوية، وفي حال رعب مستمرة، لا يتمنى المواطن في ظلها إلا أمنية واحدة هي، البقاء على قيد الحياة، وعدم التفكير بأي مطالب سياسية أخرى، لأنها ستبدو بمصاف البطر الوجودي.
تقول قيادة الجيش الأميركي العامل في العراق أنها تراقب 20 مليشيا تنشط في بغداد وحدها. ووفقا لأقوال الضابط الأميركي المسؤول عن مراقبة المليشيات في بغداد فان "المليشيات التابعة للأحزاب الشيعية تجمع مليون دولار على الأقل في اليوم الواحد عن طريق الجريمة المنظمة وخاصة عمليات التصفية والاختطاف والابتزاز والتهديد وتجارة السوق السوداء / صحيفة الزمان البغدادية في 23 أيلول 2006 ".
وإذا صح ما يقوله الأميركيون، وإذا كانت عملية نشر هذا الخبر دقيقة، فأن هذه المعلومات حول نشاط المليشيات، تعتبر كارثة حقيقية. فإذا كانت العاصمة العراقية وحدها ميدانا لنشاط 20 مليشيا، فما هي أعداد المليشيات التي تنشط في جميع أنحاء العراق ؟ وإذا كانت "المليشيات التابعة للأحزاب الشيعية" تجمع وحدها مليون دولار في اليوم الواحد، فكم هي الثروة التي تحصل عليها المليشيات الأخرى ؟ وعلى حساب من تجمع هذه الأموال، ولأي غايات ؟
إن هذا الوضع "المليشياوي" إذا استمر، إنما يعني وجود "دولة" داخل الدولة، وهو يعني، نظريا وعمليا، إلغاءا للعملية السياسية برمتها، بما في ذلك الانتخابات البرلمانية، والدستور، والتداول السلمي للسلطة، والحياة الحزبية، ومنظمات المجتمع المدني، والنشاط الحر لوسائل الإعلام، والنشاط الاقتصادي، والنشاط الأكاديمي.
الآن، قد يتساءل البعض أن نزع سلاح المليشيات، وخاصة تلك التابعة للأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسية، لم ولن يتم من طرف واحد، ما دام هناك نشاط تقوم به جماعات مسلحة تنشط لتدمير الدولة، وتهدد بإشعال حرب أهلية، وبالتالي فأن وجود هذه المليشيات هو بمثابة دفاع عن النفس. كلام مثل هذا يبدو، إذا نظرنا إليه لأول وهلة، واقعيا ومنطقيا، لكنه لن يصمد أمام حقائق ووقائع الحياة اليومية المعاشة. فهذه المليشيات لا تنشط فقط في بؤر التوتر الطائفي، وإنما تنشط، وبصورة مكثفة وفعالة، في مناطق جغرافية هادئة، وبعيدة عن مناطق الاشتباكات الطائفية. والاقتتال الذي يحصل في هذه المناطق الهادئة، إنما يتم بين أفراد المليشيات نفسها التي يفترض أن الجهات السياسية التابعة لها، تشارك رسميا في قيادة الدولة، أو بينها وبين أجهزة الدولة. وقد وصل الأمر ببعض زعماء هذه المليشيات أن هددوا بقطع إمدادات النفط، إذا لم تلبى مطالبهم.
ثم، إذا كان هدف المليشيات هو الدفاع عن النفس، فأن هذه المهمة تستطيع انجازها "اللجان الشعبية" التي يدور الحديث عنها هذه الأيام. إن فكرة وجود لجان شعبية لهي فكرة مقبولة وعملية، لكن شرط أن تكون هذه اللجان بأشراف الجهات الحكومية وبمراقبة جميع الكتل البرلمانية، وأن يتم مسك سجلات بأسماء المشاركين فيها وأنواع الأسلحة التي بحوزتهم، من قبل مراكز الشرطة، وأن لا تتعارض مهماتها مع قوات حفظ النظام الحكومية، وأن تتمتع بصلاحيات محدودة لا يمكنها تجاوزها، وأن تكون مهمتها مؤقتة، تنتهي عندما تنتفي الحاجة إليها، إلا إذا رأت السلطات الرسمية الاستفادة لاحقا من خبراتها.
ونعتقد أن "الشارع العراقي" مؤهل تماما للقيام بهذه المهمة. فهذا الشارع، رغم جميع عمليات الشحن والتحريض الطائفي المتبادل، لم يفقد بعد رصيده " العراقي الوطني". ولولا هذا الرصيد المتراكم لدى العراقيين، لكانت العاصمة العراقية بغداد قد أصبحت كومة خرائب وأنهار من الدماء، أكثر ألف مرة مما يحدث الآن. وهذا الرصيد الذي نتحدث عنه، لا يعني فقط مجرد وجود عواطف ومشاعر صادقة متبادلة بين أبناء الطوائف المختلفة، إنما يعني، أيضا، مصالح مادية مشتركة تحققت عبر مئات السنين، يعرف المواطنون أنها ستتضرر في حال استمرار التوتر الطائفي، أو بدء حرب أهلية.
وهنا، بالضبط، يكمن الأمل في تجاوز هذه المحنة، ومن هنا تنطلق المصالحة الوطنية الحقيقية التي لا تحتاج، أصلا، إلى "مصارحة". "المصارحة" تحتاجها القيادات السياسية. و"إذا" فعلت ونجحت القيادات في مسعاها فأنها ستجد لدى "الشارع العراقي" أذرعا وقلوبا وأذانا صاغية ومشرعة. لكننا مرة ثانية نقول "إذا"، التي وضعناها في صلب عنوان هذه الحلقات.