إرادة الإصلاح أو إدارة الهيمنة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بين "مثقف السلطة" و"مثقف المعارضة"
شكّلت قضية "الإصلاح" محورًا خصبًا في حوارات المثقفين والمفكرّين منذ عقود طويلة، وعند كافة الحضارات في معظم بلدان عالم،كما تبلورت هذه القضية من خلال العلاقة الجدلية القائمة بين ما يعرف بـ"السلطة" وبين "المثقف" وانعكست على عامّة القواعد الشعبية في معظم الأنظمة الحاكمة.
ويرى بعض المفكرين أن المجتمعات البشرية خصوصًا في الدول ذات "النظام الرعوي"، يبدأ الفساد فيها من الرأس، وهذا يعني أن "السلطة " المتمثلة بأجهزتها الإدارية الحاكمة تأخذ بالانحراف عن القيام بواجباتها الموكلة إليها وبالوظائف المسندة إليها لقيادة ما يعرف بالدولة.
وانطلاقًا من هذه الرؤيا فإنّ الفساد ينتشر من الأعلى إلى الأدنى، فيعمّ الفساد في العامّة، فلا بأس في تلك الادارات ان يرتشي الموظف الصغير عندما يشاهد المسؤول الكبير وقد أدخل ميزانية وزارته الكريمة في حساباته الخاصة، التي تأخذ أشكال "قانونية" من خلال جعل هذه المسروقات مالا حلالا في جيب "السلطة الموقرّة".
في حين يرى قسم آخر من المنظرين والمحللين، أن الفساد في "السلطة" ليس سوى إنعكاس لفساد الشعب والعامّة وفق المبدأ القائل: "مثلما تكونوا يولَّ عليكم" فالقاعدة الشعبية الفاسدة هي التي تفسد "الحكام ".
فهذا المبدأ يرتكز على مفهوم أن السلطة هي جزء لا يتجزأ من الشعب، فإذا صَلُحَت مبادئ الناس صَلح الحاكم بطبيعة الحال والعكس بالعكس، فإن التربية الاجتماعية الفاسدة سوف تُفرز لا محالة "عناصر سلطة " فاسدة.
ولست هنا في مَعرض نقاش هاتين النظريتين، فلكلّ واحدة منهما شواهدها التاريخية التي تؤكّدها، غير أنَّه من المؤكد في كلتا الحالتين أن مكمَن الإشكالية يقع في طبيعة العلاقة القائمة بين "المثقف " و"السلطة " ووضعية كلِّ واحدٍ منهما والصورة المتبلورة عنها.
فالصورة الراهنة للتجاذبات السياسية المؤثرة في في الحياة العامة، في العالم العربي بشكل عام، تتلخص في تصوّرها "الطائفي ج" او "القبائلي ج" او "العشائري"..... وهذا الجانب يلقي بثقله الشديد على الحياة العامة مما يجعل من سلطة "العشيرة" أو "الطائفة " أو القبيلة" أو "الدين" أو المذهب " سلطة فوق كلّ السلطات، وثقافة حاكمة تعلو على كل الثقافات....
فإن الانتماء الطائفي او العشائري في هذه الدول...هو الذي يحدد ما يمكن قبوله من تكافؤ الفرص،فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد في بعض الدول العربية ان هناك "قبيلة درجة أولى "، واخرى درجة ثانية، واخرى في نهاية السلم القبائلي المتدرج المتفق عليه، حيث يجعل من قبيلةٍ ما، عائلةً حاكمة منها الوزراء ومنها السفراء ومنها أفراد المناصب القيادية الفاعلة....
وفي دول عربية أخرى نجد ان "الطائفية " او حتى "المذهبية" هي المعيار المقدسّ، فالرئيس ينبغي ان يكون من "المذهب "الفلاني، وقائد الجيش من ذاك"المذهب"... وهكذا
وعلى هامش تلك التجاذبات، نجد من يحاول ان يتسلل او يتجاهل او يُسَوّق اوراقًا اخرى، فالبعض يطرح "القومية " أو "الاشتراكية " أو "ايديولوجيا "معينة، يقوم من خلالها بطرح فكرٍ مضادٍّ للافكار السائدة، غير أنه في كثير من الأحيان تكون المضامين الفكرية واحدة، ولكن تحت مسميّات أخرى متنوعة، فيغير اسم "القبيلة " باسم آخر... ولكن تبقى في جميع الأحوال المضامين المؤدلجة واحدة تُكرس العنصرية الفئوية تجاه المجموعات الإنسانية الأخرى.
هذه التقسيمات وإن كانت في اغلب الدول غير مُعلنَة، او مما لا يُجهَر به، ولكنه مستقِّر استقرار النفوس في الاجساد، وارتضَته مُعظم العقول طوعًا أو كرهًا، سواء كانت العقول عقول "السلطة " او حتى عقول الطبقات "المثقفة "، ونجد في تلك التركيبة تجاهلا كبيرا في بحث تلك المضامين الأنتربولوجية والتربوية والاجتماعية المؤثّرة في السياسة، وهذا التجاهل إن دَلّ على شيئ فهو يدلّ على الخوف منها أكثر مما يدلُّ على عدم أهميتها.
لذلك تبقى عملية طرح موضوع "فيروس الطائفية " من الأمور المسكوت عنها او ذاك المحرّم الذي لا يمكن الإقتراب منه بحال من الأحوال.
هذا المُتَخيَّل المُجتَمعِي المتأصِّل في النفوس، هو المحرك الحقيقي للعجلة السياسية الدائرة في معظم البلاد العربية، اما في لبنان فهو العمود الفقري المحوري فيها.
فرجل السلطة يُفكّر في التوازنات "الطائفية" أو "القبلية"، قبل أن يفكر في المصلحة العامة او القانون الذي اقسم على الوفاء به، ومن جهة أخرى فالمثقف يفكّر في طائفته او قبيلته ويضع مصالحها ويسعى جاهدًا الى إيجاد الصِيَغ الفكرِّية المؤطِّرة، التي تؤصل لمصلحة قومه،علما ان هذا التفكير يُخرجه من دائرة الثقافة أصلا.
فسيطرة "القيم الطائفية" او "القبلية"... هو السائد حاليًّا، وينبغي تحليل هذه القيم للوصول الى نقاء "سلطة الدولة من جهة، واستقلال "سلطة الثقافة" من جهة أخرى، لأنه في ظل الدوّامة الحالية فإن دور "الدولة " بمفهومها الحقيقي والعميق يبقى معطَّلا، ويصبح" "الجهاز الحاكم" طائفة من جملة الطوائف بدلا من ان يكون له دور اداري وتنموي.
كما ان هذه الدوامة تشوّه صورة "الثقافة " فيصبح "مثقف السلطة " هو ذاك شاهد الزور على "التأويل " في النصوص و "تحريف" الكلم عن مواضعه، وذاك البوق الدائم الذي يُسبّح بحمد أهل السلطة ويُشرّع الفساد الفكري لهم....
ولعل المجتمعات تشتمل على انواع من المثقفين ابرزها:
bull;"مثقف السلطة" الذي ينتمي الى السلطة ومقرّب من النخب الحاكمة، وهو الذي تُغدَق عليه الاموال ويُمنح السيارات وتُفتح له وسائل الاعلام، فتراه في كلّ المناسابات متصدّرا متفوّها متكلّما، فيصبح هو سلطوي أيضا يُمَارس فوقيته من خلال سلطته الثقافية.
bull;"مثقف المعارضة" التي تستغلّه احيانا القوى السياسية المعارضة لتسويق أجندتها السياسية المقابلة، من خلال طرح قيم وافكار "مضادة" للفكر "مثقف السلطة ".
bull;"مثقف كوني" ينتمي الى الثقافة بمفهومها الانساني الكوني العام، وهؤلاء المثقفين قلائل وغير معروفين في معظم الأحيان، أولئك الذين فهموا الثقافة بمفهومها الكوني الذي يتجاوز كلّ التقسيمات، ويُسقط كلّ الاعتبارات "الايديولوجية"، و"الطائفية"، والاثنية"، و"الجغرافية"...
اولئك لا يرون "الانا " و"الاخر"، لانهم خرجوا من دائرة الأنوية السياسية والاجتماعية والطائفية، فلم يُصادرهم فكر،ولم تحتكرهم ايديولوجية، ولم يرتضوا ان يكونوا أبواق او دعاة افكار معلّبة، أولئك يتبنَّون النسق المؤسس لكافة مناهج المعارف البشرية ولا يقفون عند واحدة منها بل يتخطَّونها جميعًا، أولئك لا يزالوا مؤمنين بكونية الثقافة التي تتعدّى كل الديانات بطوائفها ومذاهبها وتتخطى كل الأيديولوجيات، بالرغم من كل ما حصل ويحصل من أحداث على الساحة العالمية العربية منها والاقليمية والدولية.
إذن إنَّ الوضع الراهن الفاسد، ناجم عن كون ميكانيكية العمل المؤسساتي في المؤسسات الادارية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.... مازال يرتكز على مفاهيم وقيم وأنموذج فاسد الذي لم يَعد يصلح قطعا للتعامل مع مع القضايا العالمية ولا المحلية...
إن الخطوة الأولى في التخفيف من حدّة الأزمات في العالم تكمن بضرورة إحداث تغيير جذري وإصلاح ثقافي عميق منبني على التحرر وزيادة الوعي عند الشعوب للخروج من التجمعات الطائفية المعلبة التي حولت العالم لا سيما العربي منه الى اشبه ما يكون بتجمعات وحشية يريد كلٍّ منها ان يسيطر على طريقته.
إن الطرح الثقافي الكوني، يجعل من المواطن إنسانًا نبيلا، ويصبح الوطن هو البيئة التي ترعى هذا الانسان، وتحترمه، وتحفظ كرامته، وتؤمن له حقوقه الانسانية كاملة، وتصبح السلطة هي تلك الادارة الساهرة على تقديم أفضل الشروط لعيش كريم...
وبناء على ما تقدم أقول لابد عند معالجة اشكالية "السلطة " و"المثقف"، وفي وعينا أمور على رأسها اصلاح ثقافي حقيقي يشمل كل المؤسسات بدءا من المؤسسات التربوية ومناهج التعليم، وصولا الى المؤسسات السياسية، مرورا بالاقتصادية والاجتماعية والقضائية وكافة مؤسسات المجتمع المدني... بما يتلازم مع تنمية ادارية مستمرّة تتيح تكافؤ الفرص، وذلك يترافق مع مراجعة مواد الدساتير والقوانين التي تجسدها وتطويرها واصلاحها المرتكز على مبادئ الانسانية تحفظ حرية الافراد وتؤمن لابنائها العيش الكريم.
مروة كريدية / كاتبة لبنانية
Marwa_kreidieh@yahoo.fr
http://www.maktoobblog.com/marwa_kreidieh