كتَّاب إيلاف

نعم للاعتدال...ولكن ماذا عن العدالة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

برهنت حرب باكستان ومن بعدها حرب العراق، وأخيراً حرب لبنان، على عدم قدرة التفوق العسكري في الوصول إلى الأهداف المرجوة. ولقد عبر عن هذه القناعة المستجدة، وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية السابق، والسياسي المخضرم هنري كيسنجر، ضمن مقال نشر له في جريدة الشرق الأوسط، بتاريخ 20 /9 /2006 تحت عنوان "لبنان ما بعد الحرب: وجه العملة الذي لم يره الآخرون". عنوان يحمل معناه، أي أن المفاهيم والمعايير السائدة، ولا سيما تلك التي تعتبر أن القوة كما التمادي في استعمالها، لا بد أن تؤدي يوماً إلى حل الإشكاليات والنزاعات كما كان يحصل بالسابق، وصولاً إلى فرض أوضاع شاذة، على الشعوب المستضعفة، لم تعد تفي بالغرض في ظل استفحال القوة الخفية المضادة، ألا وهي الإرهاب. ويبدو وحسب هذا اليقين والذي بدأ يسود في بعض دوائر المخططين للسياسات الخارجية في البنتاغون، أن لا حل يقوم ويستوى سوى بالتخلص من هذه القناعات القديمة والتي لم تعد صالحة اليوم، والتي لم تؤدي سوى إلى الحائط المسدود، وإلى تفاقم الأزمات.
وما مبادرة الخارجية الأميركية باتجاه ما سمي ب"دول الاعتدال" في الشرق الأوسط، والتي أوكل تنفيذها إلى وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، سوى أحدى بشائر هذا التغيير الحاصل. وفي وقت تراهن الإدارة الأميركية على خارطة طريق تبدأ بإقامة حلف مع دول الاعتدال هذه توصلاً ربما الى السلام العادل والشامل في المنطقة، وبغض النظر عن احتمال نجاح هذا التحالف على المدى البعيد، إلا أن التوقعات التي تحيط بتحرك الوزيرة رايس الشرق أوسطي اليوم، ما زالت تلفها الضبابية ولا تشير إلى نتائج واضحة المعالم على المدى القريب والمنظور. فالتحالف الذي تطمح الولايات المتحدة إلى إقامته مع بعض الدول العربية، إنما تقيمه مع دول معتدلة عن حق، ولكن مع دول ضعيفة في الوقت ذاته. ضعيفة بسبب تفشي وانتشار الإرهاب عبر العالم العربي والذي بات كسيف ديموكليس، يهدد كيان دول الاعتدال هذه بالذات، ويعرضها لشتى أنواع الحروب الداخلية، الإثنية كما الطائفية والمذهبية.
ولا نبغي عبر هذا الكلام توصيف مبادرة الوزيرة رايس بالطوباوية، أو وضعها في خانة الرهانات الخيالية أو غير الموضوعية وغير المجدية، ولكن الهدف هو تبيان حقيقة ما ينتظره العالم العربي حاليا، من الولايات المتحدة بشكل خاص، ومن المجتمع الدولي بشكل عام، وهو إقامة حلف قوي وفاعل، عن طريق تقوية ودعم هذه الدول المعتدلة أولاً، حتى يصبح التحالف معها فاعل ونافذ. وتقوية دول الاعتدال هذه، لا يكون عبر اتخامها بالعتاد العسكري، بل عبر إبعاد شبح الإرهاب الذي ما زال مسلطاً فوق رأسها. وحتى ترتاح هذه الدول من خطر الإرهاب المحدق ويرتاح العالم من بعدها، لا بد من طروحات أميركية أكثر براغماتية وأكثر مقاربة وتفهم للواقع العربي، بعيدا عن سياسة الوزنتين والمكيالين، واللهجة الفوقية والقرارات المنحازة.
إن حل موضوع الإرهاب لا بد أن يبدأ من الأساس،أي انطلاقاً من حل دائم وعادل للقضية الفلسطينية، أما وقد بات غني عن الذكر، مدى التشابك والتداخل، وحتمية العلاقة فيما بين الغبن الناتج عن استمرار الوضع الشاذ في فلسطين، ونشوء الإرهاب وتمدده في العالم العربي، ومن بعده في العالم أجمع. والحل العادل والشامل في الشرق الأوسط، ساعة يتحقق، يساهم في سحب ورقة مهمة من يد المنظمات والحركات الأصولية، ومن خطابها التعبوي والتحريضي والمتميز بالتطرف والعنف. كما يسحب من يدها، حجة التسلط والتفرد بقرار السلم والحرب، وفي بعض الأحيان حق تصنيف القادة والرؤساء والدول بين حليف وصديق يجب المحافظة عليه، وبين معاد ومتعامل ويجب تصفيته أو تصفية شعوبه البريئة عن طريق التفجيرات المتنقلة.
إن المطلوب من دول القرار أيضاً، مبادرة تفعيل مجلس الأمن الدولي، عن طريق تحريره من هيمنة وتسلط الدول العظمى، حتى يتمكن من استعادة دوره الأساسي والذي قام من أجله، ألا وهو حماية الدول والشعوب الفقيرة والمستضعفة أولاً. لأنه حين يصبح بمقدور مجلس الأمن استصدار قرارات تكون ملزمة للدول القوية، قبل الضعيفة منها، نكون أمام تحول درامي عالمي جديد تنتفي بموجبه شريعة الغاب، وتطمئن الدول الأضعف على صيانة حقها من مرجعية قوية وفاعلة. وهو تطور بالغ الأهمية في مجال مكافحة الارهاب، من ناحية أنه يمكن مجلس الأمن من فرض تطبيق شرعة الأمم المتحدة وفي مقدمها شرعة حقوق الإنسان، التي تنتفي بموجبها بؤر الغبن والتشكي والظلم والحرمان، والتي تشكل أرضاً خصبة لنمو شتى أنواع بذور التطرف والعنف.
إن الوجه الأخر للحرب اللبنانية والذي لم يره الآخرون، يمكن اختصاره بعبارة "فشل منطق القوة". والنتيجة الحتمية لهذا اليقين، هو الحاجة إلى اقامة نظام ودستور عالمي جديد لا يستمد قوته من التفوق العسكري، بل من العدالة والمساواة بين الشعوب، العدالة والمساواة وتقبل الاختلاف،هي قيم أخلاقية وردت في كل الكتب الإلهية، فلما لا ُيستوحى منها عند صياغة هذا النظام المرتجى?
والسلام ما السلام في النهاية? السلام الدائم والثابت هو حين يتمكن الأقوى من استيعاب الأضعف من دون سحقه، وحين يتمكن الأضعف من النظر إلى الأقوى من دون الخوف منه وكرهه.

كاتبة وباحثة سياسية لبنانية
mahaleb@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف