النبيّ والشعر الإيروتيكيّ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يُروى أنّ عمر بن الخطاب (رض) عنه مرّ بحسّان بن ثابت وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله (ص)، ثمّ قال "أرُغاءً كرُغاءِ البعير؟"، فقال حسّان "دعني عنكَ يا عُمَر!، فواللهِ إنكَ لتعلمَ أنّي كنتُ أنشدُ في هذا المسجد مَن هو خيرٌ منكَ، فما يغيّر عليَّ ذلك؟"، فقال عُمَر "صدقت". [العمدة في الشعر وآدابه ـ إبن رشيق القيروانيّ]
مرّت هذا الرواية بذهني اليوم وأنا أطالع خبراً بمانشيت عريض في موقع إخباريّ يقول: (قصائد غزل تثير أزمة بين هيئة الأمر بالمعروف ونادٍ أدبيّ بالسعودية بسبب تضمّنها وصفاً دقيقاً لجسد المرأة).
وليس في الأمر ما يثير الإستغراب. فالكثير من المسلمين، خصوصاً أولئك الذين ينصّبون أنفسهم أوصياءً على الأخلاق، لا يعرفون أنّ النبيّ كان مستمعاً جيّداً للشعر والإيروتيكيّ منه بشكل خاصّ.
*
كانت أوّل قصيدة إيروتيكيّة في الإسلام قصيدة كعب بن زهير المشهورة بقصيدة "البُردة" والتي إستمع اليها الرسول الكريم وهو في المسجد، ولأنّ النبيّ لم يجد من كلمة استحسان للشعر فيها خيراً من إلقاء بُردته الشخصيّة على كتفيّ شاعر كبير مثل كعب بن زهير، فقد عرفت بقصيدة "البُردة" أكثر ممّا عرفت بإسم شاعرها أو مطلعها، كما كان متعارف عليه ثقافيّاً آنذاك. وقبيل الولوج الى نصّها الإيروتيكي دعونا نعد قليلاً الى فترة ما قبل القصيدة.
كانت المنازلات الشعريّة بين المشركين والمسلمين جزءاً من الصراع العسكريّ قبل فتح مكّة، حيث كان شعراء الجانبين يمارسون هجو المعسكر المعادي والنيل من أعراضهم والتشبيب بنسائهم، كجزء من الحرب النفسيّة والإعلاميّة، آنذاك. ولمّا كان كعب بن زهير في معسكر قريش المعادي للنبيّ فقد هجاهم وشببّ بنسائهم، وكانت ـ لسوء حظّ بن زهير ـ إحدى هاته النساء، اللواتي شبّب بهنّ، أمّ هانئ بنت أبي طالب، وهي أخت عليّ بن أبي طالب إبن عمّ الرسول، فأمرَ الرسول بقتله وقطع لسانه عقاباً له على ذلك [ الكامل في التاريخ ـ إبن الاثير]
ويروي صاحب "الأغاني": أنّه لمّا سمع ذلك ضاقت به الأرض، فقرّر القدوم على الرسول بنفسه وطلب العفو منه شخصيّاً، فأقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله (ص)، وكان مجلسه من أصحابه مكان المائدة من القوم حلقةً ثمّ حلقة ثمّ حلقة، وهو وسطهم، فيقبل على هؤلاء يحدّثهم، ثمّ على هؤلاء، ثم على هؤلاء، فأقبل كعب حتى دخل المسجد، فتخطّى حتى جلس إلى رسول الله (ص) ، فقال "يا رسول الله، الأمان!"، ثمّ أنشده قصيدته الشهيرة، والتي سيهمّنا منها الآن مطلعها الإيروتيكيّ:
بانتْ سُعاد فقلبي اليومَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثرَها، لمْ يُفْد، مَكبولُ
[البين: الفراق، وبانت: ذهبت وفارقت، وسعاد، إسم امرأة، ومتبول: هالك، من التَّبْل، وهو الهلاك وطلب الثأر، والمتيّم: المُستعبَدٌ المُذلَّل أو الذاهب العقل من العشق ، مكبول: مُقيَّد]
وما سُعادُ غَداةَ البَيْنِ إذْ رَحَلوا إلاّ أغَنَّ غَضيضُ الطَّرْفِ مَكْحولُ
[الأغنّ: الصبيّ الصغير الذي في صوته غُنّة، والغُنّة: الصوت الذي يخرج من الخياشيم، غضيض الطرف: فاتر الجفن]
هَيفاءُ مُقبِلةً، عَجزاءُ مُدبِرَةً لا يُشتكى قِصرٌ منها، ولا طُولُ
[الهيفاء: الضامرة البطن والخصر، العجزاء: العظيمة العجيزة، وهي الرّدف]
تجلو عَوارِضَ ذِي ظَلْمِ إذا ابتسمتْ كأنّه مُنْهَلٌ بالرَّاحِ مَعْلولُ
[تجلو: تصقل، العوارض: الأسنان، و"ذي ظلم": هو الفم، والظَّلم" ماء الأسنان وبريقها، منهل: إسم مفعول من "أنهله" إذا سقاه نهلاً، الرّاح: من أسماء الخمر، معلول: أسم مفعول من "علّه" إذا سقاه عللاً]
شُجَّتْ بذي شَبَمٍ من ماءِ مَحْنِيَةٍ صافٍ بأبطَحَ أضحى وهو مَشمولُ
[شجّت: مُزجت، ذو شبم: الماء البارد، الشبم، البَرَد، المحنية: منتهى الوادي، الأبطح: الموضع السهل، مشمول: هبّت عليه رياح الشمال الباردة]
تَنفي الرياحُ القَذى عنهُ وأفْرَطهُ مِن صَوْبِ غاديةٍ بِيضٌ يَعاليلُ
[تنفي: تزيل، القذى: ما يقع في الماء من تبن أو عود أو غيره، وأفرطه: سبق إليه وملأه، الصوب: المطر، الغادية: السحابة التي تمطر بالغدو، اليعاليل: الحباب الذي يعلو وجه الماء، وهو رغوة الماء]
فيالَها خُلَّةً لو أنّها صَدقتْ بوعدِها أو لو انّ النُّصْحَ مقبولُ
الى بقيّة القصيدة ...
*
ميّز الإسلام بين الغزل والرَّفَث، فالتغزّل الإيروتيكي بجمال المرأة ووصف محاسن جسدها يختلف كثيراً عن الرَّفَث، الذي هو الفحش في ذكر النساء بحضورهنّ، أي خلط الجنس بالبذاءة، والرّفث غير مقبول أجتماعيّاً حتى في أعراف الدول الغربيّة التي تعتبره بعضها بمثابة تحرّش جنسيّ غير مباشر وتعاقب عليه. لكن حتى هذا فجائز قوله شرعاً، في عِرف الإسلام، ولو كان في الحَرَم المكّي، شريطة عدم تواجد النساء آنذاك.
يروي إبن الأثير المحدِّث في كتابه (النهاية في غريب الأثر) أنّ حصين بن قيس سأل إبن عباس وكان مُحْرِماً: "هل الشِّعرُ من رفث القولِ؟"، فأنشد إبن عبّاس:
وهُنَّ يَمشِينَ بنا هَمِيسَا إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَميسَا
فقال له صاحبه حصين بن قيس: "أترفثُ وأنتُ مُحْرِم؟!" فقال له: "إنّ الرّفث ما قيل عند النساء"، ثمّ أحرَمَ للصّلاة.