هل ستتكرر محنة أبو زيد مع حسن حنفي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
-1-
الدكتور حسن حنفي المفكر المصري المعروف، ورئيس قسم الفلسفة في جامعة القاهرة، من الأكاديميين الليبراليين المعروفين في مصر، والعالم العربي ، والغرب كذلك. وهو مؤسس ما يُطلق عليه تيار "اليسار الإسلامي" الذي يقترب كثيراًُ من فكر المعتزلة والعقل المعتزلي، الذي كان سائداً في القرن الثاني الهجري، وتحديداً من عام 105-131هـ في زمن الخليفة هشام بن عبد الملك، وما بعده من الخلفاء الأمويين. ولذا، نراه يربط دائماً بين الفكر الغربي الحداثي، وفكر المعتزلة الحداثي، الذي كان حداثياً قبل ثلاثة عشر قرناً، وما زال حداثياً إلى هذه اللحظة. فالحداثة ليست العصرنة، بقدر ما هي التجديد والانفتاح الفكري في كل زمان ومكان . وفي مقال لحسن حنفي بهذا الخصوص (الكوارث الإنسانية مدعاة للتأمل) يقول فيه:
" الشر سوء في الفهم أو خطأ في الحكم، وليس في طبائع الأشياء. الشر وجهة نظر، وليس في الموضوع، في المعرفة وليس في الوجود. وأكبر مثالين علي ذلك ليبنتز في الفلسفة الغربية، والمعتزلة في الفلسفة الإسلامية. فعند ليبنتز، هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، ولا يوجد أفضل منه. ولو وجد أفضل منه لخلقه الله بالفعل. وكل شيء فيه يحدث طبقا لقانون الانسجام والتآلف الذي قام عليه الكون. فلا تناقض فيه. وعند المعتزلة كل ما في هذا العلم صلاح. ويتفاوت الصلاح بين الأقل صلاحاً والأكثر صلاحاً. فالشر هو صلاح أصغر في سبيل صلاح أكبر. الجراثيم لاكتشاف الدواء، والهزائم لمعرفة مقومات النصر، والموت طريق إلى إطالة الحياة. وهو معنى الآية )عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون(. فالظلم في العالم جزء صغير من نظرية أكبر في العدل الشامل."
وحسن حنفي صاحب أبحاث ومقالات كثيرة ومختلفة في الفكر العربي، والفكر الغربي ، والفلسفة الإسلامية، وإشكالات التراث والتجديد، والتراث والمعاصرة. وله كتب كثيرة ومهمة في الفكر العربي المعاصر منها: " التراث والتجديد"، و "قضايا معاصرة"، و "دراسات إسلامية"، و "في الفكر الغربي المعاصر"، وله رؤية فلسفية لخصها في كتابه "الدين والثورة في مصر". كما ترجم عدة كتب فكرية وفلسفية أهمها: "سبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة" و "نماذج من الفلسفة المسيحية"، و "سارتر: تعالي الأنا موجود" وغيرها من الكتب التي لعبت دوراً في تشكيل الفكر العربي المعاصر، ومهدت للحداثة في هذا الفكر.
-2-
قبل أسابيع كان حسن حنفي ضيفاً في مكتبة الإسكندرية، وألقى محاضرة تنويرية، قال فيها ما يعتقده عن الإسلام والقرآن. وهي كلها لا تتعدى اجتهادات خاصة بمفكر، ورأي لباحث، ونظرة لفيلسوف إلى تراثنا. وهي اجتهادات وآراء ونظرات قال فيها كثير من مفكرينا العرب والمسلمين، وقال فيها كثير من المستشرقين القدامى والمحدثين. ولا جديد فيها يثير، أو يغضب، سيما وأن حسن حنفي يُعدُّ مفكراً اسلامياً عريقاً ، وليس مفكراً كافراً أو ملحداً. ومن يقرأ كتب حسن حنفي ومقالاته، ويستمع إلى أحاديثه ومحاضراته، يوقن أشد اليقين بأن حنفي يقول، ليثبّت الإسلام في القلوب المؤلَفة، ويؤكد الإيمان في العقول المنحرفة. وأن ما يقوله من قلب الإسلام وليس من خارجه. وأن كلمة تخرج من مفكر وعاقل مسلم، هي لصالح الإسلام مهما فسرها المفسرون، وأوّلها المؤولون على أنها سوء نية، وهجوم معادٍ للإسلام.
-3-
ويبدو أن من هجّروا نصر أبو زيد من مصر وزوجته بعد أن حاولوا تطليق زوجته منه ومحاكمته وسجنه بتهمة الردة والخروج من الملة، ولكه فرَّ بريشه إلى هولندا ، حيث يُدرّس هناك في جامعة ليدن العريقة، ويكتب كما يشاء، ويقول كما يشاء، طيراً حراً محلقاً في آفاق الفكر الواسعة والرحبة.
فتحرك الشيخ عبد الصبور شاهين في مصر، وتحرك معه شيوخ آخرون، لرفع دعوى حسبة ضد حسن حنفي، لكي يقتصوا منه، كما سبق واقتصوا من نصر حامد أبو زيد، ولتفرغ مصر من المفكرين المجددين، ولا يبقى فيها غير شيوخ الأزهر الذين يتبعون خطاً واحداً في التفكير، ونمطاً واحداً في التدبير، ولا يجددون ولا يبدعون، كما يحاول البعض أن يفعل في جامعة القاهرة ودار العلوم وغيرها من المعاهد العلمية الأخرى.
هل يستحق حسن حنفي الجزاء الأكبر لكونه قال بأن "القرآن حمّال أوجه" أي أنه جامع لكل شيء، ويحتمل كل تفسير ممكن، كما سبق وقال علي بن أبي طالب. ولكن حسن حنفي (طويل اللسان وسيء البيان) قالها بعبارة أخرى حديثة لكي يفهمها الغشماء الكثيرون من أهل هذا العصر الجاهل. فقال حسن حنفي - وربما خانه التعبير- بأن القرآن الكريم "سوبر ماركت"، تجد فيه كل شيء، ويصلح لكل شيء. فكانت هذه العبارة هي التي أشعلت الحرائق في مصر، وفي أروقة الأزهر. وبدل أن نجد لحسن حنفي العذر فيما قال، قوّلناه بما لم يقل، وألبسناه ثياباً لم يرضاها. وحكمنا عليه باحكام جائرة. وكان لنا أن نفرّق بين من قال هذا القول وقلبه مؤمن وعقله هو عقل الإسلام، وبين من يقول مثل هذا وهو غير مؤمن وعقله لا يعرف الإسلام.
وأنا أرى - بتواضع شديد - أن حسن حنفي يجب أن لا يُعاقب ولا يحاسب ، ولا يجب أن يعاقب أن يحاسب أو يعاقب على مثل هذا الكلام، ولا على أي كلام آخر يُعتقد بأنه ضد الإسلام، وذلك لسبب بسيط جداً ، وهو أن حسن حنفي في دفاعه عن الإسلام في كتبه السابقة، وفي مقالاته، وفي محاضراته، وفي أحاديثه قد خدم الإسلام كما لم يخدمه أي شيخ من شيوخ الأزهر. فصوت حسن حنفي الإسلامي والعقلاني المسموع في أوروبا وأمريكا وجنوب شرق آسيا، أكبر أثراً بكثير من أصوات شيوخ الأزهر، وهو الذي لم يترك جانباً من جوانب عقلانية الإسلام، أو عقلانية الفكر العربي الليبرالي، إلا وسلّط عليها الضوء في المحافل الغربية التي أعشت أعينها موجات الارهاب الدموي والفكري، الذي مورس على المفكرين العرب والمسلمين.
فضل حسن حنفي على الإسلام وعلى الفكر الإسلامي والعربي الليبرالي فضل كبير. فضل العالم الكبير، والأستاذ الجليل، والباحث الجاد المجتهد، الذي يخطيء ويصيب. وهذا الفضل يتجلّى في المحاور الفكرية المختلفة التي أثارها حسن حنفي في مسيرته الفكرية خلال سنوات طويلة، وهي التي تشفع له في "محاكم التفتيش" التي تنصب له منذ الآن المشنقة، قبل أن يفكر في الهروب بريشه من مصر، كما هرب نصر أبو زيد، وإلا لقي حتفه المشهود.
فماذا كان يقول حسن حنفي عن الإسلام كمفكر، وباحث، وأستاذ جيل؟
-4-
في مقال له بعنوان (الأقوال والأفعال) منتقداً معشر المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون عكس ما يقولون، ويحاولون الضحك على ذقون العالم بلسان من عسل، وسيف من خشب الارهاب العتيق، كاشفاً عورتهم، فاضحاً نواياهم، مقابل المستشرقين الذين يحللون الواقع، ولا يأبهون بالنص، بقوله:
"الغرب لا يعرف حجة القول بل حجة العمل. ولا يُصدِّق المثال بل يرى الواقع. فمهما قيل عن عظمة الإسلام وعالميته وإنسانيته وحريته وعدالته والغرب يرى واقع المسلمين في الاتجاه المعاكس فإنه لا يصدق الدعاة. فالواقع أبلغ من التمنيات. والرؤية أقوى من السماع طبقا للمثل الشهير (أسمع كلامك يعجبني، أشوف أعمالك أستعجب) ويعرف الغرب أيضا حدود منهج الدفاع. فهو منهج انتقائي يقوم على اختيار النصوص التي في صالحه دون نصوص أخرى مناقضة. فإذا تحدث الداعية عن )لا إكراه في الدين( قدم له المستشرق الغربي "آية السيف". وهو منهج نصي، يعتمد على حجة السلطة وليس على حجة العقل. ويغفل تحليل العلل وهي أساس الأحكام الشرعية. والمستشرق يحلل الواقع، ولا يأبه بالنص، ويرصد العلل ويحيلها إلى جوهر الإسلام الثابت وليس إلي عوامل التاريخ المتغيرة. وهو منهج تاريخي، يستدعي من الذاكرة اللحظات المضيئة في التاريخ ويترك غيرها. فيأتي المستشرق الغربي وينتقي لحظات أخرى في صفه ليثبت هجومه. والتاريخ مملوء بالشيء ونقيضه، دون تمييز بين القاعدة والاستثناء. وهو منهج أخلاقي يضع ما ينبغي أن يكون، وليس منهجاً اجتماعياً يصف ما هو كائن. والمستشرق يصف الظواهر كما هي عليه ويحللها ولا شأن له بما ينبغي أن يكون. فهو لا ينتسب إلي الحضارة الإسلامية كمثال، ولكنه يدرسها كواقع. وبقدر ما يستعمل الداعية خطاب الوعظ الديني يستعمل المستشرق التحليل الاجتماعي. وفي النهاية تكون حجة الواقع أبلغ من حجة النص. ويكون التحليل العلمي أقوى من الوعظ الأخلاقي. ويضيع كل الوعظ الأخلاقي في القنوات الفضائية إلى الهواء كما بدأ منه. ولا يبقي إلا العلم".
مثل هذا الكلام، جارح ومؤذٍ لرجال المؤسسة الدينية، واتهام صريح واضح لهؤلاء الرجال. وهو ما أوغر صدر هؤلاء الأشياخ الذين يتحمسون الآن لمحاكمة حسن حنفي، ليفعلوا به ما فعلوا بنصر أبو زيد. بل إن حسن حنفي قال في هؤلاء الأشياخ كلاماً أكثر إيلاماً وأشد وقعاً، وهو الكلام الذي جاء بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، ووضعت حسن حنفي في قفص الحساب والعقاب.
يقول حسن حنفي في مقاله (مشايخ السلطان)، منتقداً مشايخ السلطان الذين يفتحون القرآن الكريم وكتب الحديث النبوي، فينتقون منها ما يشاءون، وما يلائم طبق طبيخ ذلك اليوم، ومذاق ذلك السلطان: "بعد قرارات مؤتمر الخرطوم بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967، واللاءات الثلاث: لا صلح، ولا مفاوضة، ولا اعتراف بإسرائيل، انبرى مشايخ السلطان بتبرير هذا بالفتاوى والنصوص الدينية: )وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل(، )وجاهدوا في الله حق جهاده(، )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله علي نصرهم لقدير(، )وقاتلوا الذين يقاتلوكم(، وما أكثر الآيات والأحاديث في هذا السياق. وبعد أن انقلبت الجمهورية الثانية على الجمهورية الأولى، وعُقدت اتفاقيات كامب ديفيد في 1978، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979 انبرى مشايخ السلطان، هم أنفسهم، بتبرير قرارات السلطان الجديد بآيات وأحاديث أخرى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها(، )أدخلوا في السلم كافة(. وأن سلام وشالوم من نفس الاشتقاق، وأن كلانا أولاد عم من نسل إبراهيم. وحدث نفس التحول علي الصعيد الداخلي من الاشتراكية والقومية وعدم الانحياز، وهو اختيار الجمهورية الأولى، إلى الرأسمالية والقطرية والانحياز إلى أمريكا وإسرائيل، وهو انقلاب الجمهورية الثانية، والذي مازال مستمراً في الجمهورية الثالثة والأخيرة في حقبة من تاريخ مصر المعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين، نهاية لمرحلة، وبداية لمرحلة أخرى. فأفتى مشايخ السلطان في الجمهورية الأولى، بأن الإسلام دين الاشتراكية، وجاءوا بالحديث النبوي: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، والقطاع العام من الإسلام كما مثله "الإقطاع"، وهو ما يقطعه الخلفاء للصالح العام كالمراعي للإبل، و (ليس منا من بات جوعان وجاره طاوٍ) ، )والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم(.
ولما حدث الانقلاب في الجمهورية الثانية، انبرى مشايخ السلطان لتبرير سياسة الانفتاح ونقد الشيوعية الملحدة، (من لا إيمان له لا أمان له). والكسب الحر مشروع، والتجارة حلال في الأسواق، ومع الله تجارة لن تبور. وكل ما أتى الإنسان هو رزق، حلالا ً أم حراماً، اعتماداً علي رأي بعض القدماء، والرفاهية حق المؤمنين )قل من حرم زينة الله والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا(. والغرب مؤمن، والشرق كافر. والانحياز إلي الغرب المؤمن ضد الشرق الكافر خير وبركة، ونصرة للإسلام والمسلمين. وقد انبري شيخ مشايخ السلطان أخيراً بفتوى من نفس النوع لحث الناس علي الاشتراك في التصويت علي تغيير المادة 76 من الدستور، وعدم مقاطعته، كما تريد المعارضة )ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه(. وهي نصف شهادة. فأين الشهادة علي الباقي: إلغاء قوانين الطوارئ، والأحكام العرفية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، ورفض التمديد والتوريث لأن الحكم في الإسلام عقد وبيعة واختيار حر من الناس، لا انقلاباً ولا وراثة؟"
ومن أجل هذا الهجوم العنيف على أشياخ السلطان وخطابهم، وتملقهم، وتزويرهم للحقيقة، وكذبهم، يريد عبد الصبور شاهين وغيره من الأشياخ، قطع لسان حسن حنفي، وليس - في ظننا - من أجل ما قاله في مكتبة الإسكندرية.
فالحكاية ليست حكاية رمانه، ولكنها حكاية قلوب مليانه، كما يقولون.
أليس كذلك؟
السلام عليكم.