تحليل المضمون بوصفه وسيلة اتصالية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
البحث عن المعنى الذي يحمله النص، أو القصد التبليغي المضمر داخل الموضوع، أو الرسالة الكامنة في النص، والمراد تبليغها إلى طرف بعينه. تلك هي أبرز المعطيات التي يتوقف عندها موضوع "تحليل المضمون"، واليات الاشتغال لا تتوقف عند نوع بذاته، أو تكرس تطلعاتها نحو غاية بعينها، بقدر ما تتوجه نحو التطبيق المباشر و العملي في مختلف وسائل الاتصال بحثاً عن تحليل المحتوى والوقوف على المعاني، من خلال طرق ووسائل استخدام الشفرات والرموز وصولاً إلى مضمون الرسالة، التي تتمظهر في أكثر من شكل وصورة وبنية.
مجال التراكم
كان لتراكم المادة الإعلامية خلال أوائل القرن العشرين، وتوسع مجالات الاتصالات، أثرها البالغ في التطلع نحو ظهور هذه التقنية المنهجية. إذ لم يعد مجدياً أمام هذا الزحف الهائل من المادة الصحفية المقروءة والمسموعة، أن تكون طريقة الوقوف على معطياتها، من خلال الحصافة والذكاء. فالأمر لم يكن محاولة لمواجهة حالة طارئة، أو ترفاً منهجياً يحاول البعض من أصحاب الكفاءات إثبات قدراتهم وألمعيتهم فيه، بقدر ما كان محاولة للتواصل مع "حقل" أثبت أهمية وفاعلية في توجيه الحشود والتأثير على الجماهير. وهكذا كانت الصحافة الميدان البكر، الذي شهد نشوء طلائع هذا المنهج، حيث التركيز على تحليل اتجاهات الصحف من خلال دراسة المادة الخبرية التي تحتويها، وطريقة إيصال المادة إلى القارئ، ومدى محاولات التأثير عليه. حيث يرتكز إليه المنهج على طريقة المقارنة بين الاتجاهات التي تحملها"1" الصحافة ومدى علاقتها بالحقائق الموضوعية المتعلقة بالقضية المدروسة.
النجاح اللامع الذي تحقق لآلية منهج تحليل المضمون، في مجال الصحافة هيأ لها التسلل في ميادين العلوم الإنسانية المختلفة، حيث بدأت آليات التطبيق في مجال علم الاجتماع وتحليل النصوص الأدبية وعلم السياسة. ولم يتوقف التطبيق عند هذه العلوم، بل تخطاها ليشمل الأعم والأغلب من العلوم الإنسانية، حتى غدا منهجاً ذا حضور فاعل، يتم من خلاله الوقوف على معطيات ثابتة ووضعية للتحليل والتفسير وتحديد الدلالات التي يزخر بها النص الذي يؤدي وظيفة الاتصال وفق الخصائص المميزة له، انطلاقا من أساس موضوعي ودقيق يتميز بالعلمية، حيث التوزيع وفقاً لوحدات لها خصائص ذات فرادة ومعنى خاص بها.
من هنا يمكن الوقوف على العديد من الأفكار التي يقدمها النص، استنادا الى آلية فرز الوحدات، والتي تقدم تصنيفاً واضح المعالم للمعاني في مجموعات محددة. وبهذا تتيسر عملية المقارنة بين المجموعات أو الوحدات التي يحملها النص، حيث يقيض للباحث إمكانية الوصول الى النتائج، عبر سلسلة من المقارنات المنهجية الواضحة، القائمة عل التوزيعات المتكافئة. وليس الاستناد الى الحدس والتخمين أو الذائقة النقدية، هذا مع الاعتراف بأهمية هذه العوامل كأسس ثابتة لابد للباحث أن يتوافر عليها. ولكن تبقى مسألة المنهج ذات حضور وفعالية في كشف الغموض التي تعتري العديد من الجوانب التي يقوم عليها النص. وهكذا يأتي الاستنتاج في تحليل المضمون مستنداً الى خطوات معلمة واضحة لالبس فيها، غايته الوضوح والتفسير القائم على تحليل المعطيات من خلال القراءة الفاعلة"2"، التي لا تتوقف عند الظاهر في النص، بل تعتمد للغور عميقاً في باطنه وصولاً الى المعنى. بعبارة أخرى يمكن القول بان "تحليل المضمون" يعد نوعاً من القراءة الأخرى، المختلفة عن القراءة التقليدية، غايتها المعاني المضمرة والأفكار المسكوت عنها التي يحملها النص. وعدتها العمل على تأويل الخطاب وتحليل أنساقه ومعانيه، عبر جميع الموجهات الممكنة من ذاتية أو موضوعية ،فالأمر لا يتوقف عند حدود التطلعات الذاتية، وجعل النص أو الخطاب خاضعاً لها، أي العمل على اعتباره "حمال أوجه"، ليتم عبر هذا العمل، تحميل النص مالا طاقة له به، أو تركيب معطيات ومسلمات وبديهيات لاعلاقة لها بالغاية الرئيسية التي أعد من أجلها الخطاب.
إن توجهاً كهذا سيعمل على هدم محتوى الخطاب، وتمزيق أواصر المعنى فيه "ظاهراً وباطناً" بل أن الأمر بأجمعه لن يتجاوز، لعبة الإخضاع والتمويه والخداع الرخيص. فالانتقاء والابتسار وبتر النص، كمحاولة لالباسه معنى أخر، لم تكن بالتقنية الجديدة، بقدر ماهي ممارسة شديدة القدم، عمد إلى ممارستها الأولون بكثافة من أجل التنكيل بخصومهم والنيل منهم، وتوكيد خروجهم و مروقهم وتكذيبهم وتكفيرهم. بل أن هذه الممارسة تتصاعد حمى ممارستها خلال المواجهات والحروب الناشبة بين الأطراف"3"، حيث يعمد كل طرف إلى انتقاء نصوص بعينها من الطرف المقابل، وتحميلا معاني أخرى ومعطيات مختلفة.
وإذا ما صدقت الحال على "سوء النية"، فان المنهج الموضوعي في "تحليل المضمون" لا يخلو هو الآخر، من مزالق ومطبات "حسن النية"، فعلى اعتبار سعة عملية التأويل وتشعبها، قد يقع الباحث في مزالق قلة الوعي بالمادة الخاضعة للتحليل، لاعتبارات نقص المعلومات أو الخبرة، أو ربما إساءة تفسير الشفرات والعلامات، أو الخضوع لمؤثرات نفسية داخلية كامنة في الشعور، أو حالة التقاطع في النسق الثقافي وعدم الإلمام بطبيعة الخطاب الذي يحمله الآخر، حيث الاختلاف في أنماط التفكير وموجهاته.
الاحتكامات الذاتية والموضوعية
اجتهد المشتغلون في مجال "تحليل المضمون" على تنقية هذا الحقل من الاختلالات الداخلية، والمضامين الذاتية التي يحملها الباحث، متوخين الدقة والصرامة العلمية والالتزام الموضوعي، حيث الحرص على تثبيت المعالجات والخطوات المنهجية، طبقاً لمعطيات الفرض واختيار العينة ووحدة القياس والإحصاء. وعلى هذا الأساس كانت البدايات لبروز المحددات والوسائل التي يتم من خلالها معالجة الظواهر المراد دراستها، بتطلع شامل وكلي غايته الإحاطة بالتفصيلات والأجزاء المتعلقة بالموضوع. ومن أجل الوصول الى الغاية العلمية، حيث الوصول الى النتائج، فان الجانب الموضوعي يتبدى حاضراً في التوجه نحو البحث الخالي من الأغراض الشخصية والثوابت والغايات والأهداف المسبقة، بل أن التطلع المنهجي المحدد بخطوات بحثية ثابتة ودقيقة صارمة، يعد المفتاح الأهم للوصول الى النتائج المتوخاة.
يتيح "تحليل المضمون" للباحث الوقوف على العديد من المعطيات الادراكية، وفقاً للمرونة الكامنة فيه، كأداة منهجية خاضعة للاستدلال المنطقي ببعديه من العام الى الخاص حيث "الاستنباط"، أو من الخاص الى العام "الاستقراء". فيما يحدد الموضوع ذاته، طبيعة الأداة المنهجية المستخدمة في معالجة الخطاب. وهكذا تكون أدوات التحليل الأساس الذي يتوقف عنده الباحث لجلاء مكنون الخطاب وحل رموزه وشفراته، وإذا ما كانت الأصول " الإعلامية - الاتصالية""4" قد فرضت حضورها على "تحليل المضمون" باعتبار بواكير الاستخدام، فان التطبيقات اللاحقة في حقول ميادين العلوم الإنسانية، كان قد أفصح عن تحديد نوعه في مجال التطبيق، حيث التأكيد على كونه أداة عقلية غايتها الفهم والإفصاح بلوغاً الى الحقيقة.
لا تتوقف عناية "تحليل المضمون" بالكشف عن النص المكتوب، بل تتخطاها نحو اللغة الشفاهية والصورة والحلم والموسيقى والمواقف والأصوات ، الإشارات والإيماءات والحركات. وعلى هذا يكون السعي نحو التحليل بلوغاً الى المعنى، استناداً الى إحصاء مفردات بعينها داخل النص والعناية بتصنيف علوم البلاغة والعلوم المتفرعة عنه حيث علم المعاني الذي يعنى بتكوين الجملة وأنواعها، والأسلوب المستخدم إيجازاً أم مساواة أم إطناب، وعلم البيان حيث التشبيه والمجاز والكناية، وعلم البديع حيث المحسنات اللفظية والمعنوية"5". ويلعب الأسلوب الإحصائي دوراً بالغ الأهمية في تحديد المضامين المستهدفة، حيث يتم الوقوف على صياغات وكلمات يستخدمها كل طرف إزاء الآخر وصولاً الى تحديد موقفه وميوله واتجاهاته.
حساب الكم والنوع
إن عملية الفرز الإحصائي والكمي للكلمات والجمل والصياغات والحركات والإيماءات، لاتعني بحد ذاتها غاية قصوى يستهدفها "تحليل المضمون". فالأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بقدر ما تتطلع العملية برمتها نحو الوصول إلى غاية محددة حيث المعنى المراد توضيحه. والمسألة لا تتعلق بإحصاءات وتحديد كميات، بقدر ما تمثل أداة للوصول الى المضمون والبحث في الدلالات التي تحشد بها الخطاب. ولابد من الإشارة هنا الى أهمية حالة التكامل التي يجب أن يعيها الباحث ويعمل على الربط بين الأسلوب الكمي والنوعي المستند الى الانطباعات، حيث تتوافق الخطوات المنهجية خلال سير البحث وفقاً لطبيعة الموضوع المبحوث. وعلى الرغم من الأسبقية التي يحتلها التحليل النوعي في تحديد المضامين والاتجاهات والملاحظات والسياقات، فان الاتكاء على التحليل الكمي يساهم في بلورة "6" اتجاهات البحث وفق الدقة المطلوبة.
العناية التي تطلع نحوها "تحليل المضمون" بالجوانب الشكلية، والحرص على تحديد القسمات الفارقة في الخطاب، جعل بعض المهتمين يؤكدون على أهمية التوقف عند ظاهر النص. والاكتفاء بحساب التكرار للكلمات والصياغات والجمل. لكن التوسع الذي شهده هذا المجال البحثي، جعل الكثير من الباحثين يتوقفون طويلاً عند هذه الظاهرة، ولم يطل بهم الأمر. حيث كشفت آليات العمل على أهمية الخوض في التحليل الباطني والبحث عن المسكوت عنه بين ثنايا النص. لاسيما وأن مجالات البحث لم تتوقف عند مواضيع بعينها، بقدر ما توجهت للتوسع في دراسة ميادين وحقول معرفية جديدة، ألزمت الباحث وفرضت علبه، شروط الولوج في مجال الـتأويل"7" والتفسير والبحث عن الدلالات والمعاني.
إن حالة الرفد من العلوم الإنسانية الأخرى، كانت له الإضافة البالغة والمهمة في دعم هذه الأداة التحليلية بلوغاً للوصول إلى المضمون. فإذا كان الاهتمام ينصب أولاً نحو تفصص وتمعن المادة المكتوبة أو الشفاهية أو حتى الرموز والألوان والأصوات والموسيقى، فان العناية الأهم كانت قد تبدت في الأهمية التي بات يوليها الباحثون في هذا المجال، نحو دراسة ردود الأفعال الصادرة عن أصحاب الرسالة، أو الخطاب. وكان النهل الأهم قد تبدى من الفروض المنهجية التي قدمها علم النفس وعلم الحضارات المقارن. فمن أجل الوقوف على تحليل علمي دقيق لصاحب الخطاب، لابد أن تتوافر في الباحث معرفة بالثقافة التي ينتمي إليها صاحب الخطاب، حيث القيم والعادات والتقاليد والأعراف السائدة، ليتم من خلالها المقارنة والرصد المباشر للأفعال الصادرة عن المبحوث، ومدى درجة الثبات والانفعال فيها. هذا مع أهمية الأخذ بالاعتبار، اختلاف السياقات الثقافية وطبيعة الخطاب السائد لكل حضارة، مما يصدق"8" للتمييز في مجال حضاري محدد، لايمكن أن يتوافق مع النمط السائد في حضارة أخرى. من هنا تتبدى أهمية تحديد مكامن الخطاب ومصدره الأصلي.
أسئلة الاتصال الستة
تقوم علاقة الاتصال على الدافع الكامن في "المرسل" والذي ينطوي على علاقة الذات بالموضوع في توجيه رسالته الى "المرسل إليه"، فالرغبة تمثل الحافز الأصلي في "الذات"، فيما يمثل الموضوع "مرغوباً فيه". وهكذا تتبدى إنجاز الرغبة "اتصالا أو انفصالا"، وفق قيمة الموضوع الذي تحدده الذات الكامنة في كلا "المرسل والمرسل إليه". فالأول تتمثل فيه الرغبة، أما الثاني فيتمثل فيه الإنجاز حيث التواصل.
ولا يتجرد الموضوع من عوامل معرضة بغية الحصول على الإنجاز، فيما يدعم العامل المساعد محور الذات في الخطاب، وعبر هذه العلاقة الصراعية قدم "غرايماس" نظرية العامل في دراسة بنية الخطاب. ويبقى التمثل شاخصاً بين هذه العوامل عبر محور الرغبة"9" الذي يربط بين "الذات والموضوع"، ومحولا الصراع القائم بين "المعيق والمساعد"، ومحور البلاغ بين "المراسل والمرسل إليه". ويبقى محور الرغبة محتلاً الأهمية القصوى باعتبار كون الغائية فيه، باعتبار أن "المرسل" تتمثل فيه إمكانات بث الرسالة وفق صياغاته وتحديد الموضوع. فالذات هي الفاعل الأهم في توزيع العلاقات داخل النص وتوليده، بدءاً من النفي إلى الإثبات أو من الإثبات إلى النفي"10".
ومن أجل تحليل الرسالة الاتصالية، يتم تحديد أسئلة ست من أجل الإحاطة بمضامين النص ومحمولا ته الدلالية والمعنوية وهي؛ "من، ماذا، كيف، لمن، الهدف، النتيجة؟". وتكشف هذه الأسئلة عن معطيات مباشرة تتعلق بإنتاج الخطاب وفق خطوات منهجية، تبدأ من مصدرها وصولاً إلى المتحقق من العملية بأكملها. فالسؤال "من" يتعلق بطبيعة المنتج هل هو فرد أم جماعة، وماهي الظروف المحيطة بهذا المنتج وأصوله ورغباته، انطلاقا من التحديد الزماني والمكاني وعلاقاته بالآخر. أما السؤال "ماذا" فانه يتعلق بدراسة المضامين المرتبطة بالأفكار والاتجاهات السائدة من خلال الوقوف على معطيات الإثبات والنفي في مكنون الخطاب. والسؤال "لمن" يحدد نوع المرسل إليه، ليتم من خلاله تحديد الاتجاهات والقيم السائدة لدى مستلم الرسالة، وما هي الإشكالات الرئيسة التي تشغله وتعن عليه. فالشريحة المستهدفة يمكن أن توضح للباحث جملة من القضايا الرئيسة التي تهمها، وتمثل لديها نقاط التقاء أو افتراق. والسؤال "كيف" يهتم بنوع الرسالة كلمة - صورة - صوت، والجرعات الخطابية التي يمكن أن تقدم الى الجمهور، كأن تكون عن طريق تكثيف الاتصال، أو تقديمه وفق "11" تدرج زمني معلوم ومحسوب، هذا بالإضافة تحديد المؤثرات الأشد وقعاً في الجمهور، عبر تحديد مكنون الخطاب وفق الحالة السائدة. فقد يكون التركيز على الجانب الرياضي وتعزيز روح الشباب، إذا ما حقق الفريق الوطني لكرة القدم على سبيل المثال فوزاً في بطولة رسمية. ومن خلال هذا التركيز، يمكن توجيه العديد من الاتجاهات وتعزيزها داخل المنظومة الاجتماعية عن الضخ الخطابي"12" وتركيز الأفكار في هذا الاتجاه.
سؤال "الهدف" يتضمن العديد من الإشكالات، لاسيما في مجال وضع التصورات المسبقة. ولعل الأهمية القصوى تنطوي في هذا السؤال، باعتبار أن "المستقبل" يقدم هذا السؤال بداهة وبطريقة بالغة الذاتية. وعليه فان تحديد "الهدف" من الخطاب لايتم بشكل مباشر، بقدر ما يتعلق بالظروف المحيطة والشواهد المساندة والمساعدة. ولعل الشاهد الأهم يكمن في الخطاب السياسي فكثيراً ما يقع باحث "تحليل المضمون" في مطب"13" توزيع الأعداء، أو طبيعة الصراع التقليدي بين القوى.
سؤال "النتيجة" يرتبط بأفق التوقع. حيث تأثير الخطاب في الجمهور، ويصدق هذا السؤال في مجال الإنتاج وتحديد أسس مكوناته. فالأمر مرهون بمدى التقبل والإشباع الذي يقدمه لحاجات الجماهير وفي مختلف مجالات الحياة وتفاعلاتها. وإذا ما كانت أدوات "تحليل المضمون" قد توقفت طويلاً "خصوصاً في بواكيرها" عند مسألة الفصل والعزل للأسئلة، فان التطورات والتداخل مع العلوم الإنسانية الأخرى، جعل منها تتجه صوب التحليل الشامل والواسع، حيث تداخل الأسئلة وتكاثفها وصولاً نحو بلوغ المحتوى والمكنون الذي يحتله الخطاب بصورته الكاملة والتامة والشاملة. فهو ليس بالعملية الأحادية الجانب، قدر استناده إلى حالة التفاعل بين "المرسل" و "المرسل إليه" "14"وفق محاور وحوافز ووظائف وتوزيعات وعوامل وعلاقات.
تحديد الاتجاهات
لعل الغاية الرئيسة التي يرتكز جهد "تحليل المضمون" كأداة منهجية، تتعلق بالكشف عن الاتجاهات التي تطبع الظاهرة قيد الدراسة. وهذا كله يتم عن طريق التطلع نحو تحليل المواد المتعلقة بالظاهرة من ؛كتب ووثائق ودراسات أو أية مادة أخرى يمكن حشدها في سبيل الوصول إلى الغاية الموضوعية، التي يرومها الباحث ويسعى للكشف عنها. وهكذا يتم التفاعل ما بين اتجاهين منهجيين يتمثلان في التحليل النوعي المستند إلى الموضوعية، والتحليل الكمي - الإحصائي المعني بتحديد العناصر التي يحويها الخطاب.
ومن أجل الوصول إلى محددات علمية دقيقة، يكون للموضوعية طابع التعميم والصدق في التحليل وإمكانية المطابقة مع دراسة وتشريح ظواهر أخرى تدخل في ذات المجال. مع الأخذ بالاعتبار أن المحتوى الموضوعي لا يتوقف عند جهود باحث بعينه، بقدر ما يجب أن تكون النتائج التي تم التوصل إليها، مرتبطة بتوحيد النتائج لدى جميع الباحثين الذين تم لهم العمل على ذات الظاهرة. من هنا تتمثل المعطيات الموضوعية في التحليل، بدءاً من دقة النتائج والحياد الذي ينبغي أن يؤكد عليه الباحث، "15"بعيداً عن الميول والأهواء والرغبات والتحديدات والمواقف المسبقة.
العناية بالتحليل الكمي - الإحصائي، جعل من بعض الباحثين في هذا المجال يؤكدون، على أهمية التشديد والتركيز، في أن عناية "تحليل المضمون" يجب أن تسعى نحو تحليل المضمون الصريح والمباشر الذي يفصح عنه النص، وليس الغور في تفصيلات المحتوى الباطن"16". لكن مقولة كهذه سرعان ما تتماثل فيها معطيات التناقض، حين يتم التعامل بالتحليل الموضوعي، الذي يفرض حضوره وأهميته، باعتبار التوافق بيت الجانبين؛ "الموضوعي - الإحصائي".
تحتل القراءة مكانة بالغة الأهمية وتوجيه الباحث نحو تحديد معالم الظاهرة المراد دراستها. فالعملية تقوم على اختبار الفروض التي تعن عليه، ويسعى من خلال هذه العملية نحو توكيدها أو رفضها من خلال المنطق الذي تؤيده القرائن والبراهين. من هنا يكون السعي نحو الأمام والشمول بجوانب الظاهرة، سعياً الى تحديد الفئات ومحاولة تغطية جميع الجوانب المتعلقة بالظاهرة من خلال التركيز على التجانس في انتقاء واختيار العينات. مع أهمية المواءمة والتوفيق بين المادة المبحوثة والأهداف التي وضعها الباحث. ولا يتوقف الأمر على فعل القراءة فقط، بل يشتمل على جوانب أخرى تتمثل في الملاحظات التي يستنبطها الباحث من خلال متابعته واتصالاته، والوقوف"17" على التخمينات الذاتية، وصولاً الى وضع الصياغات الأولية للولوج في متن الدراسة.
الهوامش:
1.د.محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، دار المعارف، القاهرة 1967، ص148.
2.د.سمير محمد حسين، تحليل المضمون، عالم الكتب، القاهرة 1983، ص21.
3.د.احمد اوزي، تحليل المضمون ومنهجية البحث، الشركة المغربية للطباعة، الرباط 1993، ص13.
4.السيد يسين، تحليل مضمون الفكر القومي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1980، ص19.
5.هادي نعمان الهيتي، صحافة الأطفال في العراق، دار الرشيد، بغداد 1979، ص12.
6.نادية سالم، إشكاليات استخدام تحليل المضمون في العلوم الاجتماعية، مجلة العلوم الاجتماعية، الكويت 1983، ص44.
7.د.احمد اوزي، المصدر السابق، ص17.
8.سعد الدين إبراهيم، اتجاهات الرأي العام الغربي نحو مسألة الوحدة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1980، ص21.
9.د.حميد لحمداني، بنية النص السردي، المركز الثقافي الغربي، بيروت 1993، ص36.
10.د. إسماعيل نوري الربيعي، غريماس والنموذج العاملي، مجلة كتابات معاصرة، بيروت 1999، ص154.
11.د.احمد اوزي، المصدر السابق، ص37.
12.مجموعة من الكتاب، مدخل الى مناهج النقد الادبي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1997، ص17.
13.رولان بارت، درس السيمولوجيا، ترجمة ع.بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء 1993، ص21.
14.سعيد بنكراد، مدخل الى السينمائيات السردية، تانسيفت، مراكش 1994، ص32.
15.محمد نظيف، ماهي السيميولوجيا، افريقيا الشرق، الدار البيضاء 1994، ص64.
16.السيد يسين، المصدر السابق، ص19.
17.د.احمد اوزي، المصدر السابق، ص38.
imseer@hotmail.com