نفي الله عن نفسه ورسله الاستبداد، فلماذا يستبد الإنسان؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لطالما سألت نفسي هذا السؤال.. ما هو الأسوأ؟.. الاستبداد السياسي للحاكم.. أم استبداد المجتمع الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة الانسان.. كيف يفكر وكيف يعبر عن فكره.. كيف يلبس ويأكل.. حتي وصل الحال الي كيفية دخوله الحمام.. بل وأحيانا يدخل معه الي غرفة نومه بل ويتدخل في العلاقة بينه وبين زوجته.. وقد يفرض عليه هذه الزوجة أو هذا الزوج كما هو الحال غالبا..
طرأ هذا السؤال علي عقلي القاصر بعد اكتشافي أننا مجتمعات تعشق الاستبداد.. بل وتبحث عنه بنفسها..
ففي فترة الشباب الأولي أو النصف الأول من عمري.. كانت مصر تعاني من الاستبداد السياسي ولكنها كانت تتمتع بمساحة معقولة من الحرية الاجتماعية والثقافية.. ولكنني اكتشفت أن المجتمع بدلا من أن يأخذ الطريق المنطقي في رأيي آنذاك ويحاول استكمال حريته عبر التخلص من الاستبداد السياسي.. قرر أن يتخلص من حريته الاجتماعية والثقافية ويستبدلها باستبداد هو أسوأ كثيرا من الاستبداد السياسي..
لقد بدأت تنتشر في الجامعات.. تلك المفروض أن يتخرج منها أحرار ومثقفين.. جماعات تتدخل في كل شيء.. في العلاقة بين الإنسان والله والعلاقة بين الطالب والطالبة.. وبدأ يتواري الجدل الحر وقيم الاختلاف.. لتحل محله ثقافة الطاعة والانصياع اتقاءا للعنف المعنوي وأحيانا الجسدي التي كانت تمارسه مثل تلك الجماعات..
هناك في جامعات مصر بعد حرب 73 بدأت المأساة التي مازلنا نعاني منها حتي الآن.. بدأ التحالف بين الاستبداد السياسي والاستبداد الاجتماعي والثقافي.. ليصل الحال في مصر في الربع الأخير من القرن الماضي وحتي الآن الي ماوصلت اليه.. انحدار ثقافي وحضاري.. جعل مصر تتنازل عن دورها الريادي في المنطقة.. دور الدولة النموذج..
لقد نجح تحالف الاستبداد.. لأنه عرف كيف يبدأ... بين شباب مثقفي مصر وأملها في التغيير.. في الجامعات..
لقد كانت مصر في النصف الأول من القرن العشرين نموذجا للتنوير والتعددية الثقافية والسياسية.. وكتنت أول جامعة أهلية أنشئت في مصر.. جامعة فؤاد الأول التي اصبحت جامعة القاهرة فيما بعد هي مركز هذا التنوير..
من مصر انطلقت الشرارة الأولي في منطقتنا نحو التحول من العصور الوسطي الي القرن العشرين.. في جميع المجالات.. ثقافية وحضارية.. علي يد رواد التنوير من رفاعة الطهطاوي الي محمد عبده الي طه حسين وسعد زغلول وهدي شعراوي.. رواد الاصلاح الديني والسياسي وحقوق المرأة..
وفي النصف الثاني من القرن العشرين كانت أيضا مصر الدولة النموذج التي انطلقت منها شرارة التحرير والاستقلال..
ولكن انتصار فكرة الاستبداد السياسي علي أنه اسرع وسيلة للتغيير علي يد قادة ثورة يوليو.. كان هو أسرع وسيلة لوقوع مصر في براثن الاستبداد الاجتماعي والثقافي.. الذي انتشر للأسف من مصر أيضا.. ليخيم علي المنطقة..
إن الاستبداد الاجتماعي هو أسوأ أنواع الاستبداد وهو أشد قسوة وتخريبا لأي مجتمع.. ولكنه الابن الشرعي للاستبداد السياسي..
ولن ترجع مصر الي سابق عهدها الا بالتخلص من جميع أنواع الاستبداد السياسي منه والاجتماعي والثقافي والدين..
ترجع لقيم الحرية والتعددية والتسامح والدولة المدنية..
وللأسف يلبس الاستبداد في جميع أنواعه وخاصة الديني والاجتماعي والثقافي منه ثوب الله والدين.. وفي عالمنا التعيس يلبس ثوب الاسلام.. رغم أن الله نفسه وهو القادر علي كل شيء نفي عن نفسه الاستبداد وحذر رسوله الكريم من ذلك في عشرات الآيات القرآنية في أمور العقيدة والإيمان.. وأكد علي أن الحساب علي هذه الأمور هي فقط في يوم الدين والحق في هذا الحساب هو لله فقط.. تأكيدا علي حكمة الاستخلاف في الأرض.. أعطي الله الانسان حرية الاختيار.. ليتسني له حسابه علي اختياره..
وهذه بعض الآيات وغيرها كثير تؤكد علي هذا المعني..
( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) الكهف/29
( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل ) يونس/108
( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) البقرة/256
( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ) فصلت/46
( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) الأنعام/149
( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ) الأنعام/104.
( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) يونس/99.
وقال سبحانه ( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) العنكبوت/18.
( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ) الإنسان/3.
( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ) فصلت/46.
( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً ) الإنسان/29
الحرية هي الأساس في الاسلام وكل الأديان.. وكل الرسالات السماوية هي تأكيد علي هذا المعني.. ولو أراد الله لخلقنا مثل الملائكة علي قالب واحد ولا نعرف غير الطاعة.. ولكنه عز جلاله لم يفعل بل أرسل الرسل للتذكرة وترك لنا بعد ذلك حرية الاختيار.. إن حرية الاختيار هي هبة من الله ومن يتخلي عنها أو يجبر الآخرين علي ذلك هو في الحقيقة يعصي الله وأوامره.. فكيف بمن يحاول أن يستبد علي الإنسان تحت أي مسمي كان سياسيا أو دينيا.. تحت مسميات ما أنزل الله بها من سلطان.. إن كان هناك أي سلطة دينية في هذه الدنيا فهي سلطة الدعوة فقط وهو ما تؤكده الآيات السابقة وغيرها العشرات في القرآن الكريم..
الحرية لا يحدها في الدنيا والدين إلا شيء واحد وهو إيذاء الآخرين.. ولا توجد عقوبات دنيوية إلا علي هذا.. في كل النصوص الدينية في جميع الأديان وعلي رأسها الاسلام.. والآخرين هنا هم كل البشر من بني آدم وليس أتباع دين دون آخر.. الإيذاء المعنوي أو الجسدي والمادي.. هو فقط الذي يحد حرية الإنسان ويضعه تحت طائل العقوبة..
والله في سورة الممتحنة الآيتين 8 و 9 أكد علي هذا بما لايقبل أي تأويل :
(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)....( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)..
وفي رأيي المتواضع أن هذا الأمر ليس موجها فقط للمسلمين بل لكل البشر..
وقهر الإنسان في العقيدة ومنعه من حريته الدينية في الاختيار الديني والعقائدي هو من أشد أنواع الإيذاء المعنوي.. ومن يمارس هذا القهر من أي دين كان يستحق العقوبة الدنيوية وهو ما أكدت عليه كل المواثيق والقوانين الدولية تأكيدا لحرية العقيدة التي أكد عليها الاسلام.. وهو مالا تفهمه بعض الدول و الأفراد في العالم الاسلامي.. فتضع نفسها دون أن تدري تحت مقصلة القانون الدولي.. ثم تصرخ بعد ذلك عن اضطهاد الآخرين.. رغم أن هذه القوانين هي تعبير قانوني لكل الشرائع السماوية وخاصة الاسلام..
أما الإيذاء المادي والجسدي فهو الحد الآخر الوحيد للحرية بعد محاكمة عادلة وعلنية تقوم علي أساس واضح أن المتهم بريء حتي تثبت إدانته وأن له حق الدفاع عن نفسه.. وأن تكون هذه المحاكمة أمام قضاء واضح يحكم بقوانين واضحة لا تحتمل اللبس والـتأويل.. ثم نجد في عالمنا من يحارب تقنين الشريعة الاسلامية ليظل الأمر مائعا وهلاميا وسيفا مسلطا علي رقاب خلق الله... يستخدمه كل المستبدين في عالمنا سياسيا ودينيا.
لن يمكن التخلص من الاستبداد في عالمنا.. قبل تبني مفهوم الدولة المدنية التي تبناها العالم كله فتقدم... والتي في الحقيقة هي التعبير الأمثل للإسلام والقرآن الكريم..
تلك الدولة التي تمنع الاستبداد بجميع أنواعه عبر دستور واضح يؤكد علي حقوق الإنسان وأولها حرية العقيدة والفكر والتعبير.. ولا يعاقب فيها الإنسان دنيويا إلا من خلال قوانين واضحة يسنها المجلس التشريعي المنتخب بحرية تامة ويتمتع باستقلالية تامة عن السلطة التنفيذية بعد حكم قضائي من سلطة قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية..
السلطة التنفيذية والتي تشرف علي تطبيق القانون الذي تسنه السلطة التشريعية وتصدر به أحكام من السلطة القضائية.. يجب أن تكون منتخبة بحرية ودوريا من الشعب.. من خلال عملية تنافس سلمي بين أحزاب لا تدعي أنها تتحدث باسم الله والدين..
هذا هو مافهمه العالم أجمع لمنع الاستبداد السياسي والاجتماعي.. وهو ما يجب أن تتبناه دولنا إن هي أرادت التخلص من الاستبداد السياسي والاجتماعي..
وقد بدأت إرهاصات هذه الفهم في مصر.. ولن يستطيع أنصار الاستبداد الوقوف في وجه عجلة التغيير.. فمصر في الثلاثين عاما الأخيرة عانت الكثير من محاكم التفتيش التي تشبه في الحقيقة ولو بصورة أقل محاكم التفتيش في أوروبا في العصور الوسطي.. تلك المحاكم التي قادت الي عصر التنوير هناك.. ونفس المحالكم هنا ستؤدي الي نفس النتيجة.. نتيجة ممارساتها الخاطئة ومحاولتها فرض الوصاية علي الإنسان..
الاستبداد المتفش في عالمنا سياسيا واجتماعيا سيودي الي تمرد الانسان العادي الذي عاني كثيرا علي الوصاية.. السياسية منها والثقافية والدينية..
لن نحتاج هنا الي مقولة فولتير الشهيرة.. وسيكون التغيير سلميا.. فقد أصابنا الغثيان من العنف.. الجسدي والمعنوي..
وأتمني أن يتذكر أنصار الاستبداد بكل أنواعه ذلك.. إن عهدهم في بلادنا أوشك علي الانتهاء بغير رجعة وغير مأسوف عليهم.. فقد احتملناهم كثيرا.. ولم يعد هناك المزيد من قدرة للإحتمال..