العثمانيون والأرمن: الجينوسايد المتجدد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حينما يصرّح اردوغان، رئيس الوزراء التركي، على الملأ، بما يصفهُ " لاحكمة " الإقتراح الفرنسيّ، الخاص بتجريم إنكار مجازر الأرمن؛ هكذا تصريح، يُحمّله وحكومته قبل كل شيء، المسؤولية الأخلاقية في تبرير تلك الجريمة، الكبرى، وتالياً توتير العلاقات مع الإتحاد الأوروبي. فأيّ حكمةٍ، يستظلّ بهديها سليلُ الخلافة الهمايونية هذا، في الإصرار على إنكار حقيقة معروفة، نكراء، تنتمي على كل حال إلى حقبة مطوية من تاريخ بلاده خاصة ً، والشرق الأدنى عموماً: أمْ أنّ ذلك الإرث، الدمويّ، ما فتأ له أصحابه، وورثته الغيورون على أثاله، التليدة ؟ لا ريبَ أنّ اردوغان وحزبه السياسي، الإسلامي الهوى، في مأزق بيّن الآن؛ لجهة ناخبيهم، الموعودين ببرنامج إنتخابيّ يُعيد إلى حاضر بلادهم، البائس المتأزم، ذلكَ الماضي، العثماني، المزدهر ـ كذا ـ المستوفي أحلامهم وآمالهم في دولةٍ عادلة، مرهوبة الجانب ومترامية أطراف المجد. أوهامُ إستعادة الخلافة العثمانية، السماوية، التي يداعبُ فيها إسلاميو أنقرة جمهورَهم الإنتخابيّ، تصطدمُ بعدَ كل شيء بتلك الحقيقة الفظة، الموسومة، المكتنفة بملايين الضحايا من رعايا وسبايا الباب العالي؛ بأنهار من دمهم القاني، المصطبغ به لون العلم التركي، الحالي.
في مثل هذه الأيام، قبل تسعة عقود من الأعوام، تحديداً، كان الجيش العثمانيّ منتشياً بنصر وحيد، تمّ له في الحرب العظمى، الناشية آنئذٍ: وهوَ إبادة مواطني الدولة العلية، من الأرمن. كان ذلك الجيشُ المعتلّ بالفساد والتخلف ـ كدولته، المعروفة وقتذاك بنعتِ " الرجل المريض " ـ يواجه النكسات المهينة على كافة جبهات الحرب، المفتوحة على القفقاس والبلقان والسويس. وإذاً، لم يبل الجنود التركُ بلاءهم، الحَسَن، في تلك الحرب الموصوفة، إلا على جثث الشعب الأرمنيّ، العريق، أطفالاً ونساءً ومسنينَ ورجالاً عزلَ؛ لم يرتو أسيادهم، السفاحون، في إستانبول، من دم أولئك الضحايا، قط؛ فما تورعوا عن تعميم " فرمان " الجينوسايد الأرمني، السيء الصيت، ليشمل باقي النصارى من رعايا خلافتهم، كالآشوريين والسريان واليونان والروم.. وغيرهم. كان التحريض على الجريمة، الجماعية، قد بلغ كماله بـ " فضل " نقصان مروءة أغلب رجال الدين، المسلمين، من النافخين في بوق التعصب والتزمت والتكفير؛ حدّ أن الأديب المصري، المتنوّر، مصطفى لطفي المنفلوطي، لم يجد حرجاً آنذاك في أن يكتبَ في مقالة له، شهيرة،، مشهّراً براءته من المرجعية الدينية، المشاركة في تلك الجريمة أو الصامتة إزائها، على السواء.
لا ريبَ أنّ المدنيين المسلمين، من الكرد، خصوصاً، قد عانوا أيضاً في تلك الآونة ما عانوه من إعتداءات الجنود الروس وبعض حلفائهم المتطرفين، من الأرمن والآشوريين واليونان. إلى أنّ ذلك الإنتقام، المتبادل، ما كان سياسة ً منهجية؛ حال " الفرمان " العثماني، آنف الذكر. إن أجلى برهان على براءة الشعب الكرديّ من دم جيرانه النصارى، هوَ تمكن أعداد كبيرة من هؤلاء الأخيرين من النجاة بأنفسهم، ومن ثمّ الإلتجاء إلى حمى جنود الحلفاء، الفرنسيين والبريطانيين، في سورية والعراق. فما كان من الممكن إختراق ذلك العدد من الناجين، لخطوط الجيش العثماني، المحكمة المراقبة بفعل حالة الطواريء المصاحبة للحرب؛ لولا شهامة العشائر الكردية، أو معظمها، على وجه الصواب. لقد دفع العثمانيون تلك العشائر ثمناً باهظاً، لموقفها الإنسانيّ ذاكَ؛ فتمّ شمل الكثير من زعمائها وأفرادها وعوائلها بقوانين الترحيل، الجائرة، فمات الكثير منهم في الطريق إلى المنافي الأناضولية والشامية، برداً وجوعاً وضنكاً. إنّ حقيقة تورط بعض زعماء الأكراد، المتحالفين مع الدولة التركية، في جريمة الجينوسايد، الأرمني، غيرَ قابلة للدحض. بيدَ أنه تبقى الحقيقة الاخرى، أشدّ مضاءً وسطوعاً: وهيَ أنّ كردستان العثمانية، آنئذٍ، كانت مرتبطة بالكامل مع الحكومة المركزية، بعدما كانت إماراتها قد سبق وفقدت إستقلالها، الذاتيّ، منذ ما صار يُعرف بـ " إصلاحات عبد المجيد الثاني "، في أواسط القرن التاسع عشر. وحتى التشكيلات شبه العسكرية، من مرتزقة العشائر الكردية، والتي نعتت بـ " الخيالة الحميدية " ـ نسبة لراعيها السلطان عبد الحميد ـ فكانت قد حلّتْ مع إسقاط ذلك السلطان الراعي، نفسه، في ثورة الدستور العثماني، المصاقبة للعام 1909.
قد يكون من المستغرب، والحالة هكذا، إصرار الحكومات التركية، المتعاقبة، على إنكار جريمة الجينوسايد، الأرمني: الخلق التركيّ، الممعن بالشوفينية، هوَ وجه المسألة هنا، ولغزها. فلا العلمانيون الكماليون ولا الليبراليون المتفرنجون ولا المحافظون الإسلاميون، ليكاد كل منهم يختلف في تلك المسألة، القومية. إقرار هؤلاء أو أولئك بجريمة كبرى، كالإبادة الأرمنية، معناه في نظرهم، على الأرجح، نوعاً من القبول بحقيقة الكيان التركي، " المصطنع "؛ القائم على سلبٍ تاريخيّ، سافر، لحقوق القوميات الاخرى، الأصلية، من أرمن ويونان وكرد وآشوريين ولاز وعرب. من المحال، إذاً، أن يتخلق الساسة التركُ بمسلك أصدقائهم الألمان، الذين إعترفوا بشجاعة بجريمة الجينوسايد اليهودي؛ إستحالة، تحيلنا أولاً وأخيراً إلى السياسة التركية، المغرقة في عنصريتها تجاه المطالب العادلة للقوميات الاخرى، وخاصة الكردية. فالجمهورية التركية، العلمانية شكلاً، والمتهيئة للإنضمام إلى صرح حضاريّ، شامخ، كالإتحاد الأوروبي؛ هذه الجمهورية، مستمرة في حربها ضد الكرد، بحجة واهية، متخرصة عن " الإرهاب والإنفصالية ". حكومة سلفية، أو علمانية مزيفة سواءً بسواء، لعلى أتمّ الإستعداد نفسياً وإجتماعياً وعقائدياً، لتجديد الجينوسايد الأرمنيّ، الآن ونحن في مستهل القرن الواحد والعشرين، بحقّ كل مكوّن إثني يجرؤ على البوح بأبسط حقوقه المشروعة؛ حتى لو كان الأمر، متعلقاً بحقّ بسيط كالتعلم باللغة القومية. ومن فواحش الأثافي في مسلك الإعلام التركيّ، أن " يعترف " بوجود الكرد، في حالة واحدة حسب؛ حينما يتمّ توجيه الإتهامات الرخصة، العشوائية، بالتضييق على التركمان في كردستان العراق، على سبيل المثال. هكذا إعتراف مزعوم، يضافره بعض المؤرخين الترك، المدعين تورط الكرد بمجازر الأرمن في مفتتح العقد الأول من القرن المنصرم: لكأنما شوفينيو مشرقنا، على الوتيرة نفسها من المسلك الدوغمائي؛ خاصة ونحن في غمرة محاكمة مجرمي " الأنفال "، من البعثيين الصداميين؛ وحيث يزعم أبواقهم هنا وهناك، في عالم العرب، أنّ مسؤولية ذلك الجينوسايد نفسه، إنما تقع على كاهل ما يسمى " تشكيلات الفرسان الأكراد "، من المتعاونين مع حكومة بغداد.. !!