كتَّاب إيلاف

النبيّ والشعر الإيروتيكي (2)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

كان حسّان بن ثابت ـ كأيّ شاعرٍ ـ جباناً، سيفه لسانه وميدانه كلماته، يطاعن في منامه ويفخر ببطولاته التي اجترحها في أوهامه، أمّا حين يجدّ الجدّ فله في القعود ألف مخرج، الحلقة الأولىوعند الهروب مائة باب. وكان الجميع على علمٍ بصفته هذه، بمَن فيهم الرّسول، ويروي الأصفهانيّ أنّه أنشدَ النبيَّ شعراً في شجاعته فضحك منه.
قال الزّبير أنّه سمع أنّ حسّان بن ثابت أنشدَ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم:
وقد أروحُ أمامَ الحيِّ مُنتطِقاً ـ بصارمٍ مثل لون الملح قطّاعِ
يدفعُ عنّي ذبابَ السيف سابغةٌ ـ موّارةٌ مثل مور النّهي بالقاعِ
في فتيةٍ كسيوفِ الهند أوجُههمْ ـ لا ينْكُلون إذا ما ثوَّبَ الدّاعي
قال: فضحك رسولُ الله، صلّى الله عليه وسلّم؛ فظنّ حسّانُ أنّه ضحكَ من صفتهِ نفسه مع جُبنه. [ معاهد التنصيص في شواهد التلخيص ـ عبد الرحيم بن أحمد العباسيّ ]
أمّا ابن الأثير المؤرَّخ فيقول عنه بالحرف الواحد "كان حسّان من أجبن الناس، حتى أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، جعله مع النساء في الآطام يوم الخندق"، (والأُطُم: هو الحصن المبنيّ من الحجارة)، ولهذه حكاية يرويها:
كانت صفيّة بنت عبد المطّلب في فارع، حصن حسّان بن ثابت، وكان حسّان بن ثابت مع النساء والصبيان، حيث خندق النبيّ (ص). قالت صفية: فمرّ بنا رجلٌ من يهود، فجعل يطيف بالحصن، فقالت له صفيّة: "إن هذا اليهوديّ يطيف بالحصن كما ترى، ولا آمنه أن يدلّ على عورتنا مَن وراءنا مِن اليهود، وقد شُغِلَ عنّا رسول الله وأصحابه، فانزلْ إليه فاقتلْه"، فقال حسّان: "يغفر اللهُ لكِ يا بنتَ عبد المطّلب، لقد عرفتِ ما أنا بصاحبِ هذا". قالت صفيّة: فلمّا قال ذلك أخذتُ عموداً، ونزلتُ من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتله، ثم رجعتُ إلى الحصن، فقلت: "يا حسّان، إنزلْ فاسلبْه"، فقال: "ما لي بسلبهِ من حاجةٍ يا بنتَ عبد المطلب". [ أسد الغابة في معرفة الصحابة ]
وتبعاً لذلك لم يشهّد حسّان أيّ موقعة للمسلمين، باستثناء يوم الخندق، حيث خاض معركة طريفة يقصّها علينا ابن الزّبير ويقول:
"كان معنا حسّان بن ثابت ضارباً وَتَداً يوم الخندق، فإذا حملَ أصحابُ رسول الله على المشركين حملَ هو على الوتد فضربه بالسيف؛ وإذا أقبل المشركون انحازَ عن الوتد حتّى كأنّه يقاتل قِرْناً (مُناجزاً)، يتشبّه بهم كأنّه يُري أنّه مجاهدٌ حين جَبُن" [ الأغاني ـ أبو الفرج الأصفهاني ]
ومع كلّ هذا فقد كان حسّان بن ثابت يُكنى "أبو الحُسام" لمناضلته عن رسول الله ولتقطيعه أعراض المُشركين. [أسد الغابة]

الدلالة الإيروتكيّة للحسام
يرتبط الحسام (السيف) ثقافيّاً بالرجولة، خصوصاً وأنّ شكله يقترن برمز القضيب Phallic عند الإنتصاب، أو الفحولة. ومازال الرجال في اليمن يتباهون بتعليقهم السيوف الصغيرة في منتصف أحزمتهم لتبدو وكأنّها أعضاء جنسيّة منتصبة. كما حفل الشعر العربيّ بمثل هذه المقارنات كقول النابغة الذبيانيّ يصف عملية إدخال الذّكَر في فرْج المرأة بالطعان:
وإذا طعنتَ، طعنتَ في مُستهدَفٍ ـ رابي المَجسَّةٍ، بالعبيرِ مُقرمَدِ
ومثلما اقترنَ الذَّكَر بالسيف، إقترنَ فَرْجُ المرأة بالغِمْد، ومنه قول أبي ذؤيب في امرأةٍ أرادت أَن يُخالَّها خَليلان:
تريدين كيما تجمعيني وخالداً ـ وهل يُجمع السّيفان، ويحكِ، في غِمْدِ؟
والحسام أو السيف رمز قضيبيّ مشترك في جميع ثقافات الشعوب تقريباً، فمسرحيات شكسبير مثلاً حافلة بالتوريات والرموز التي تقرن السيف والخنجر بالفحولة أو الرجولة. وهنالك من الباحثين مَن يرى في خيار قتل عُطيل لزوجته ديزدمونة خنقاً باستعمال يديه بدلاً من استعمال السيف أو الخنجر كما هو معتاد، كنايةً عن العجز الجنسيّ أو العنّة التي أصابت عُطيل، فالصعوبة التي يلاقيها عطيل في رفع سكّينه لـ"طعن" ديزدمونة توازي عدم قدرته على الإنتصاب.

لسان حسّان
قال النبيّ لحسّان لمّا طلبه لهجو قريش "كيف تهجوهم وأنا منهم؟"، فقال حسّان "واللّه، لأسلنّكَ منهم سلَّ الشّعرة من العجين، فلي مِقْوَل (لسان) ما أحسب أنّه لأحد من العرب، وإنّه ليفري (يشقّ) ما لا تفري الحربة". ثمّ أخرجَ لسانه كأنّه لسان شِجاعٍ (أفعى)، بطرفهِ شامةٌ سوداء، فضربَ به أنفَه، ثمّ ضربَ به ذقنه وقال "لأفرينّهم فريَ الأديمِ (الجلد المدبوغ)، فصُبّ على قريش منه شآبيب شَرٍّ"، فقال له الرسول: "إهجهم كأنّكَ تنضحهم بالنّبْل" [ نكث الهميان ـ الصفديّ ]، وفي رواية الذهبيّ "إنّ روحَ القدس لا يزال يؤيدك ما نافحتَ عن الله ورسوله" [تاريخ الأسلام ]
كانت المشكلة الأساسيّة ليست في الهجاء وإنّما في طبيعة المهجو نفسه، فقد كان العلاقات الأسريّة متشابكة بين النبيّ وبين سادة قريش، فأبو سفيان هو إبن عمّ النبيّ وأبو لهب خاله، والنضر بن الحارث إبن خالته، وهكذا فإنّ كلّ تعريض بعرض هؤلاء قد يمسّ بشكل أو بآخر أهل النبيّ نفسه. فبعث به النبيّ الى أبي بكر، لعلمه بالأنساب، وقال له "إئت أبا بكر فإنّه أعلم بأنساب القوم منكَ"، فمضى إلى أبي بكر ليقفَ على أنسابهم فكان أبو بكر يقول له "كفّ عن فلانة وفلانة، واذكرْ فلانة وفلانة"، فجعل حسّان يهجوهم. ولمّا بلغ قريشاً شِعرُه اتّهموا أبا بكر قائلين: "إنّ هذا الشّتمَ ما غابَ عنه إبن أبي قحافة". [ الاستيعاب في معرفة ألأصحاب ـ إبن عبد البر ]

الهجاء الإيروتيكيّ
يتهيّأ لنا، من خلال وصيّة أبي بكر لحسّان بن ثابت وإرشاداته، أنّ التركيز في الهجاء سيكون متمركزاً حول نساء القرشيين، لكن قطعاً لن يكون هذا الهجاء محاورةً فكريّة معهنّ ولا دعوةً للبراز بل "تقطيع للأعراض"، على حدّ تعبير إبن الأثير، وما سيمكننا أن نطلق عليه مصطلح "الهجاء الإيروتيكيّ" الذي سيستعرض فيه الشاعر جسد المهجوّة، علاقاتها الجنسيّة، وأنماط الممارسات الجنسيّة التي تقوم بها. فكانت أوّل ضحايا التشهير الجنسيّ هند، زوج أبي سفيان، سيّد قريش وخصم النبيّ اللدود. أمّا المناسبة فكانت هزيمة المسلمين في معركة أحد.
أنشد حسّان في هجو هند بنت عتبة بن ربيعة ثلاث قصائد أسقطها إبن هشام معتذراً بأنه "تركها وأبياتاً أيضاً له على الدّال وأبياتًا أُخَر على الذّال، لأنّه أقذعَ فيها" [ سيرة إبن هشام ]

(المقطوعة الأولى)
لعنَ الإلهُ، وزوجَها معها ـ هندَ الهنودِ، طويلةَ البظرِ
أُخرجتِ مرقصةُ الى أُحُدٍ ـ في القوم مُقتبةً على بكرِ
بكر ثقال، لا حراكَ بهِ ـ لا عن مُعاتبةٍ ولا زَجرِ
وعصاكِ إسْتكِ تتّقين به ـ دقّي العجانةَ، هند، بالفهرِ
قرحتْ عجيزتُها ومَشرجُها ـ من دابها نصّاً على القترِ
ضلّتْ تداويها زميلتُها ـ بالماءِ تنضحهُ وبالسّدرِ
أخرجت ثائرةً مبادرةً ـ بأبيكِ وابنكِ يومَ ذي بَدرِ
وبعمّكِ المسلوب بزّته ـ وأخيكِ مُنعفرين في الجفرِ
ونسيتِ فاحشةً أتيتِ بها ـ يا هند، ويحكِ، سبّة الدّهرِ
فرجعتِ صاغرةً بلا ترةٍ ـ منّا، ظفرتِ به، ولا نصرِ
زعمَ الولائدُ أنّها ولدتْ ـ ولداً صغيراً كان من عُهْرِ

(المقطوعة الثانية)
لمَن الصبيّ بجانب البطحاءِ ـ في التُّرب ملقىً غير ذي مهدِ؟
نجلتْ به بيضاءُ آنسةٌ ـ مِن عبدِ شمسٍ، صلْتةُ الخدِّ
تسعى الى "الصَّياح" معولةً ـ يا هند، إنّك صلبة الحردِ
فإذا تشاءُ دعتْ بمقطرةٍ ـ تذكي لها بالوّة الهندِ
غلبتْ على شبهِ الغلامِ وقد ـ بانَ السوادُ لحالكٍ جعدِ
أشرتْ لكاع وكان عادتها ـ رقّ المشاش بناجذٍ جلدٍ

(المقطوعة الثالثة)
لمَن سواقطُ صبيانٍ منبّذة ـ أتتْ تفحّصُ في بطحاء أجيادِ؟
باتتْ تمخّض ما كانتْ قوابلها ـ إلا الوحوش وإلاّ جنّة الوادي
فيهم صبيٌّ له أمٌّ لها نسبٌ ـ في ذروةٍ من ذرى الأحسابِ أيّادِ
تقولُ وَهْناً، وقد جدَّ المخاضُ لها ـ يا ليتني كنتُ أرعى الشّولَ للغادي
قد غادروهُ لحرِّ الوجهِ مُنعفِراً ـ وخالها وأبوها سيّدا النادي

ويروي الصفديّ أنّ الرسول لمّا سمع هجاءه قال له: "لقد شَفيتَ، يا حسّان، وأشفَيت"!


jamaljuma@yahoo.com
www.jamaljuma.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف