كتَّاب إيلاف

مع الحروب الأهلية الفرنسية (2/3)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

ليس غرضنا للكتاب الهام للمؤلف الفرنسي جاك مارسيل عرض تفاصيل التاريخ الفرنسي، إذ هذا ليس من اختصاصنا كما ليس غرضنا من التنبيه للكتاب. إن الهدف هو عرض تجارب الحروب الأهلية الفرنسية لعل فيها عبرا لنا في الوضع العراقي المتدهور لأقصى الحدود. ومعلوم أن تاريخ كل شعب من الشعوب يختلف مسارا عن سواهن سواء كان

الحلقة الأولى

ذلك في بلد ديمقراطية عريقة ومتقدمة صناعيا أو في بلدان متخلفة أو خاضعا للاستبداد الطويل.
إن الكتاب يثير إشكاليات عديدة، كالصراع بين التجديد ودعاة بقاء كل شيء على حاله، وبين عواقب استفحال غرائز الشارع وما يتطلب من ضبطها والانتقال بالصعوبات إلى إصلاحات جريئة تلي المصالح العليا للأكثرية والبلاد. كما أنه يثير مسألة تعريف الحرب الأهلية وهو ما قد يفيدنا في تحليل الوضع العراقي وعما إذا كانت هناك حرب أهلية قائمة أو لا.
ففي مقالنا الأول وجدنا صعود ملكيَن فرنسيَين بعد سنوات طويلة من التمرد والصراعات والمشاكل المتفاقمة، ملِكَين أدركا عوامل الضعف ومهمات الساعة لإنقاذ الوضع من الفوضى ومن الحروب الدينية، ولوضع الدين في مكانه المستقل عن الحياة اليومية للمواطنين.
رأينا فيما بعد الثورة الفرنسية الكبرى، التي أنجبت لائحة حقوق الإنسان والإصلاح الزراعي، ولكنها اقترنت بعنف شرس وقطع الرؤوس بالمقصلة؛ ثم حلت محل ثورة 1789 دكتاتورية أقصى اليسار من اليعاقبة عام 1793 التي زادت في العنف تجاه الخصوم والمعارضين، وهاجمت الدين كدين وليس اعتباره مجالا روحيا يجب بقاؤه بعيدا عن السياسية وشؤون الدولة. واستمرت حالة العنف والفوضى وعمليات التمرد، حتى مجيء نابليون الأول، الذي أقام دولة مركزية قوية تؤمن بمبادئ الثورة والحاجة للعدالة. وقد رأينا كيف التف الشعب حوله لأنه كان يريد الخلاص من عهود الفوضى والانفلات الأمني. وفي عام 1848 وقعت ثورة للعمال والمهمشين، ممن عانوا من عواقب التصنيع مع ضعف الضمانات الاجتماعية وقسوة شروط العمل. قمعت الثورة بقسوة شديدة، إلا إنها فرضت مبدأ التصويت العام [ولكن للرجال وحدهم]. وقد دفعت الانتخابات للسلطة بلويس نابليون المعروف بنابليون الثالث الذي استمر في الحكم حتى عزل في 1870 بعد الهزيمة الفرنسية في الحرب مع بروسيا بسمارك. كان نابليون الثالث معروفا للشعب قبل فوزه، وكان قد أصدر قبل ذلك كتابا عام 1846 يرى فيه أنه لتجنب الثورات يجب تلبية حاجات الشعب، وذلك يتطلب دعم التصنيع والتجارة. كان اتجاهه مزيجا من وعي التصنيع وتحديث الاقتصاد والاشتراكية الطوباوية واللبرالية. في عهد نابليون الثالث شهدت فرنسا تطورات عمرانية واقتصاديا كبرى، فجرى تخطيط مدينة باريس كما حالها اليوم بفضل محافظ باريس هوسمان. وفي عهده افتتحت المخازن الكبرى وراجت التجارة وأصلح النظام الضريبي. في كل انتخاب جديد كان نابليون الثالث يعود للسلطة برغم "الوجهاء"، وسلطته في نظر المؤلف تمثل دكتاتورية شعبية، تقرن تطلع الناس للديمقراطية بوجود دولة مركزية قوية. بعد عزله بسنة وقعت انتفاضة باريس المدعوة بالكومونة، التي استمرت شهرين فقط استطاعت خلالهما إجراء إصلاحات كبيرة وخصوصا في خدمة العمال. قمعت الثورة بمنتهى الوحشية والقسوة وسقط آلاف القتلى في شوارع باريس. واستمرت الهزات المختلفة أو الرحب الأهلية وأقيمت جمهورية ضعيفة وبرلمان مهلهل يتصارع فيه نوابه ويعرقلون مشاريع القوانين. ثم نشبت الحرب الدولية الأولى وهزيمة الحرب الثانية أمام الزحف الهتلري ومجيء حكومة فيشي التي عقدت الصلح. ويرى المؤلف وغيره أن أسباب الهزيمة عدم تكيف فرنسا مع مستلزمات العصر وحتى في المجال العسكري حيث ركزوا على بناء الخنادق بدل تصنيع دبابات حديثة. كان ضعف فرنسا في نظره إقامة مؤسسات لا تصلح إلا لمجتمع ليّن العود، وتقديس الوضع كما كان بدل التغيير وذلك خوفا من هز التوازن الاجتماعي، مع تقليص الحقوق الانتخابية، وعرقلة قيام إدارة حكومية كفء وفعالة. كانت التدابير الاجتماعية والضمانات الاجتماعية متخلفة حتى بالنسبة لألمانيا . إن كثيرا من الإصلاحات الاجتماعية التي أدخلت بعد الحرب الدولية الثانية كان اليمين واليسار معا يعرقلون اتخاذها طوال الثلاثينيات حيث هذه التدابير كانت أفضل في ألمانيا والنمسا والدانيمارك وفنلندة وإيطاليا والنرويج وبولونيا وجيكوسلافيا وأسبانيا والمكسيك وبيرو والبرازيل!
في مثل تلك الظروف والأوضاع جاء تشارل ديغول ليفكك النظام الاستعماري، الذي كان اليسار وأقصى اليمن متشبثين بهما، وليوافق على استقلال الجزائر التي كان حتى الاشتراكيون يعتبرونها فرنسية بل وفي عهدهم شنوا الحرب على الشعب الجزائري. وقمع ديغول التمرد المسلح للجنرالات الفرنسيين في الجزائر. وكان اليسار أيضا معاديا للتصنيع مثلما هو اليوم موقف أقصى اليسار الفرنسي باسم رفض العولمة، والذي لا يرى مخرجا غير "ثورة بروليتارية" كاسحة. طلب ديغول عام 1958 إجراء استفتاء على نظام رئاسي لغرض تأسيس حكومة قوية، على أن يخلد البرلمان بعد الإقرار لعطلة تدوم حتى استقرار وتحسن الأوضاع. فاز المشروع بأغلبية عظمى، بينما عارضه اليسار الذي كان قد صوت لصالح بيتان رأس نظام فيشي!
يردد المؤلف، تعقيبا على الإصلاحات الكبرى التي أجراها ديغول ورفضها اليسار، كلمة المفكر الفرنسي ريمون أرون: "عندما لا يختار الرجال فإن الأيام تختار لهم!"

تليها الحلقة الثالثة والأخيرة

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف