البرلمان العراقي وحرية الصحافة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
هل يتعاون البرلمان العراقي مع "قطعان الملثمين" لوئد الحريات الصحفية؟
طالبت هيئة رئاسة البرلمان العراقي في بيان أصدرته بتاريخ 16/10/2006 الحكومة العراقية باتخاذ إجراءات قانونية رادعة بحق صحيفة الزمان وقناة الشرقية العراقيتين (الصحيفة والقناة يملكهما ناشر واحد)، بسبب تغطيتهما لجلسة البرلمان التي شهدت تمرير قانون الأقاليم.
وكانت صحيفة الزمان قد انتقدت بشدة القانون المذكور، وقالت في مانشيت تصدر صفحتها الأولى:"شكوك في قانون يمهد لانهيار العراق". وفي نفس الصفحة الأولى من العدد نفسه، نشرت الصحيفة خبرا صاغته في كادر مميز، يشي على التحريض، ووضعت فيه مسؤولية اتخاذ القانون المذكور على عاتق أربعة نواب من القائمة العراقية هم، حميد مجيد موسى ومفيد الجزائري ومهدي الحافظ وسهيلة التميمي، واصفة هولاء النواب بالأربعة الذين غيروا تاريخ العراق.
وذكرت هيئة رئاسة البرلمان في بيانها الذي وجهته للحكومة العراقية بان الصحيفة والقناة المذكورتين "زعمتا في تغطيتهما إن القانون المذكور يؤدي إلى تقسيم العراق وإغراقه في حرب أهلية مدعيتان وجود أربعة من أعضاء مجلس النواب عن القائمة العراقية قد ساهموا في تمرير هذا المشروع". وذكر البيان أن هيئة مجلس النواب أعربت "عن امتعاضها وغضبها الشديدين من الكيفية التي جرى فيها تناول الخبر والتي تدل على توجهات بعيدة كل البعد عن المهنية والموضوعية والحيادية وبأسلوب مريب يثير الفتنة ويشيع التوتر في الشارع العراقي دون أدنى مراعاة لحساسية المرحلة والظروف التي يمر بها بلدنا العزيز".
شخصيا، لا أشارك صحيفة الزمان وقناة الشرقية الكثير من أرائهما ومواقفهما، خصوصا فيما يخص تناولهما لبعض القضايا السياسية. لكن هذا التباين في وجهات النظر يجب أن لا يمنحني الحق، كفرد عراقي، ولأي سبب من الأسباب، في المطالبة بإغلاق هذين المنبرين الإعلاميين، أو أي منبر إعلامي أخر. والمسؤولية التي يتحملها الأفراد تصبح مضاعفة ألف مرة، إذا تعلق الأمر بمجلس نيابي يفترض أن أعضائه يمثلون عموم أفراد المجتمع،بكل تباين وتناقض وجهات نظرهم ومواقفهم، في ميادين الحياة كلها.
إن الخطورة في بيان مجلس النواب، الذي طالب الحكومة باتخاذ إجراءات قانونية ضد صحيفة الزمان وقناة الشرقية، تكمن، بالضبط، في أن البيان صادر من مجلس النواب بالذات. ولو كان الطلب صادرا من أحدى هيئات المجتمع المدني، أو حتى من السلطة التنفيذية، مثلا، لهان الأمر.
يستند بيان المجلس على مطالبته الحكومة باتخاذ إجراءات قانونية ضد الزمان والشرقية، ب"الكيفية التي جرى فيها تناول الخبر والتي تدل على توجهات بعيدة كل البعد عن المهنية والموضوعية والحيادية".
والسؤال هو، ماهي "حدود" المهنية والموضوعية والحياد ؟ وهل أن صلاحية "تحديد" هذه المعايير هي، من اختصاص هيئة مجلس النواب أو هذا النائب أو ذاك، أم هي من صلاحية القضاء العراقي ومعه نقابة الصحفيين ؟
ثم، لماذا لم تصدر رئاسة البرلمان بيانا مماثلا بحق رؤساء بعض الكتل البرلمانية الذين وصفوا القانون المذكور بأنه "خطوة في اتجاه تقسيم العراق" ؟
إن ما نشرته صحيفة الزمان، بغض النظر عن رأينا فيه، يدخل في صميم "المهنية والموضوعية والحياد"، هذا إذا أتففنا أن المهنية الصحافية معناها نقل الخبر بأمانة، وإن الموضوعية لا تعني انعدام الموقف ، وان الحياد يعني أن تنقل جميع وجهات النظر، وليست وجهة نظر واحدة. فقانون الأقاليم، ومرة ثانية مهما كان رأينا فيه، لم يحظ، خلال التصويت عليه، إلا بأكثرية بسيطة جدا (النصف زائد واحد). أي، أن نصف نواب الشعب، تقريبا، لم يكونوا معه. وقد وصفه بعض رؤوساء الكتل، كما قلنا توا، بأنه خطوة في اتجاه تقسيم البلاد. لكن هذه الكتل المعترضة لم تهدد باستخدام القوة المسلحة لإلغائه، وإنما هددت باستخدام قوة القانون، وقالت أنها ستلجأ للمحكمة الدستورية. وهذا من حقها تماما، مثلما من حقها أن تستخدم كل الوسائل القانونية المتاحة لتعبئة الرأي العام ضد القانون، وصولا إلى إفشاله. وتصرفها هذا، إذا أقدمت عليه، فإنه ينم عن نضج سياسي، مثلما يعكس احترام هذه الكتل لقرارات البرلمان. وكان رئيس هيئة رئاسة المجلس الدكتور محمود المشهداني قد عبر، هو الأخر، عن نضج سياسي وبرلماني، عندما انسحب من الجلسة تعبيرا عن عدم قبوله للقانون المذكور تمشيا مع موقف الكتلة البرلمانية التي ينتمي إليها، لكن الرئيس المشهداني عبر، بصفته الشخصية، عن "قانونية" القرار المذكور. وقد ألب موقفه هذا عليه بعض من زملاءه من أعضاء الكتلة التي ينتمي إليها، الذين رأوا أن زميلهم المشهداني لم يلتزم مواقف كتلته. وموقف هولاء النواب، هو الأخر، صحيح. هذه هي اللعبة الديمقراطية، وهذه أصولها في كل مكان وزمان.
ومهمة الصحافة، بل وسائل الإعلام بأنواعها، هي رصد هذه المواقف، وتقديمها لعامة الناس. لكن هذه المهمة لا تقف عند حد "النقل"، وإنما تتعداها، فتبدي هذه الوسيلة أو تلك رأيها. وإلا، فان الصحيفة، أي صحيفة، إذا اكتفت بنقل الخبر فقط، فأنها ستتحول إلى "راوي" يروي ما يسمعه أو ما يشاهده ويقرأه، وهي إن فعلت ذلك فأنها تكف أن تكون "سلطة رابعة"، مرادفة للسلطات الثلاث التي حددها مونتيسكيو وهي، السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية.
لقد كان النائب البريطاني إدموند بروك على حق عندما قال: " ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف البرلمان، ولكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة، وهي أهم منكم جميعا".
وعلى امتداد تاريخ الصحافة في العراق، منذ أن صدرت أول صحيفة عراقية عام 1869، فانه ما من فترة أصبحت فيها الصحافة العراقية "سلطة رابعة" حقيقية، مثلما أصبحت في فترة ما بعد سقوط النظام العراقي السابق. فقد كانت منظمة (مراسلون بلا حدود) المعنية بأوضاع الصحافيين في العالم، قد وضعت العراق في زمن حكم صدام حسين (في تقرير لها عام 2002)، في المرتبة 130 من قائمة ضمت مائة وتسعا وثلاثين دولة، مرتبة حسب احترامها لحرية الصحافة.
ولو أن الصحافة العراقية، هذه الأيام، لا تريد أن تكون سلطة رابعة حقيقية، لما سقط هذا العدد من الصحافيين العراقيين، قتلى ومهجرين ومتخفين وخائفين. وإذا منح هذه الأيام وسام رفيع لصحافيين في العالم، فانه يجب أن يمنح للصحافيين العراقيين، إن لم يكن لأي شيء، فلشجاعتهم الفريدة من نوعها.
إن ما يثير الألم في قضية بيان هيئة مجلس النواب هو، انه صدر، أو هكذا بدى الأمر، بتحريض أو بأمر من نواب ينتمون إلى أحزاب وكتل برلمانية عانت أكثر من غيرها، وعلى امتداد تاريخ العراق الحديث، من غياب حرية الصحافة. وأنا أعني هنا النواب حميد مجيد موسى سكرتير الحزب الشيوعي العراقي ورفيقه مفيد الجزائري، والنائب الديمقراطي المستقل مهدي الحافظ، والنائبة سهيلة التيميمي.
يقول الأستاذ حميد مجيد موسى انه ونواب آخرين طلبوا من رئاسة البرلمان اتخاذ إجراءات قانونية ضد صحيفة الزمان وتوفير الحماية له ولعدد من النواب بعد أن نشرت الصحيفة مانشيتها حول إقرار قانون الفيدرالية. وعندما سؤل لماذا لم يلجأ إلى القضاء العراقي بدلا من البرلمان ،قال"ليس لدينا الوقت الكاف لذلك، إنما طلبنا من رئاسة البرلمان اتخاذ ما تراه من إجراءات مناسبة عبر دائرتها القانونية (صحيفة الزمان في 17/10/2206 )".
تمنينا لو أن الأستاذ موسى كان قد قال: "نعم، ألحقت بنا صحيفة الزمان ضررا، وحرضت على قتلنا، لا لشيء سوى أننا عبرنا عن قناعاتنا السياسية، لكننا نرفض أن تتخذ أي إجراءات قانونية بحق هذه الصحيفة وأي صحيفة أخرى، لأننا نرفض أن يكون المساس بنا، مهما كان، معبرا لتكميم الأفواه" والحد من حرية التعبير. ولو فعل، فانه سيسجل سابقة، له شخصيا، ولحزبه الشيوعي، وللقائمة الانتخابية التي يمثلها، ولأنصار الديمقراطية وحرية الرأي في العراق كله.