جامعة آل البيت في العراق 1924ـ 1930 (5/5)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ساطع الحصري: موقفه وانتقاداته
من المعروف لدى الجميع وقبل ان يصدر ساطع الحصري مذكراته، وما كتبه فيها عن جامعة آل البيت انه كان وراء افشال مشروع الجامعة ! ويبدو انه كان على خلاف شخصي مع فهمي المدرس الذي نصب رئيسا لها.. ومع اساتذة اخرين. ونجد من خلال دراستنا لما كتبه المدرس في بيانه واوراقه الرسمية انه لم يتعرض بالاسم للحصري شخصيا وكان الحصري وقت ذاك يحتل منصب (مدير المعارف العام في العراق) للفترة 1923ـ 1927 وكان مسؤولا عن وضع مناهج التربية والتعليم للمدارس العراقية. جاء في مذكراته التي نشرها عام 1967 وفي معرض حديثه عن جامعة ال البيت مسجلا انتقاداته القوية لها والتي تعكس موقفه منها ومن مؤسسيها قائلا : " ولكن الاستاذ فهمي المدرس الذي ترأس هذه اللجنة (= لجنة خبراء وضع نظام الكلية الدينية)، استهان بالكلية الدينية، فعمل على وضع مشروع نظام عام لجامعة ال البيت، تشمل احكامه جميع الكليات التي ستنشأ في المستقبل ايضا. وقد اتمت اللجنة عملها في 11 شباط / فبراير 1924. ومشروع نظام جامعة ال البيت قدم الى مجلس الوزراء والمجلس قرر احالته الى لجنة وزارية تتألف من وزراء الاوقاف والمعارف والعدلية والاشغال. وعندما وصل المشروع الى وزارة المعارف درسته باهتمام واستغراب: كان يتألف من 81 مادة و 4 مواد ملحقة. وكان 14 منها فقط تختص بالشعبة الدينية، واما بقية المواد - وعددها يربو على السبعين - فكانت تتضمن احكاما تشمل جميع شعب (أي: كليات) الجامعة، وهذه المواد كانت بعيدة عن مقتضيات الروح العلمية، فضلا عن الروح الجامعية، وكانت تنم عن اهتمام كبير بالمظاهر، وعن رغبة شديدة في تضخيم الامور " (1).
هكذا، يختار الحصري بعض الامثلة من المواد في النظام لينتقدها انتقادا مريرا، ومنها - مثلا - كثرة التواقيع التي ستزدحم بها الشهادات الممنوحة! ومنها ايضا تشكيلات المجلس العام للجامعة التي ستجمع جميع المدرسين ورؤساء الكليات برئاسة امين الجامعة! في حين يستوجب الامر اجتماع ممثلين عن الكليات من اجل تساوي الاصوات ! ومنها -ايضا - عقد مؤتمر سنوي يدعى اليه ممثلين عن الوزارات وبعض وجهاء الالوية والاختصاصيين للنظر فيما يتعلق بنجاح الجامعة! ومنها - ايضا - مواد تعطي للمتخرجين حق الرجحان في تقلد بعض الوظائف حسب درجات شهاداتهم ومنها: القضاء من الدرجة الاولى والقضاء من الدرجة الثانية ورئاسة محكمة التمييز الشرعي! ثم يتابع الحصري تعليقاته قائلا: " واعتقد ان هذه الامثلة تكفي لاعطاء فكرة واضحة عن العقلية التي كانت املت " مشروع نظام جامعة ال البيت "! ثم يذكر الحصري بأنه كتب مذكرة صريحة عن المشروع الذي - يذكر - بأن ما احتواه من احكام تتعلق بالجامعة كلها اكثر من التي تتعلق بشعبة العلوم الدينية نفسها.... ويتابع بالقول:" انني لا ارى من الموافق التسرع في وضع نظام مفصل للجامعة كلها من الان ". وتولى الحصري بنفسه انتقاد المشروع في اللجنة الوزارية بعد دعوته الاشتراك فيها.. وسجل اعتراضاته على مبدئين اساسيين: الاول، عدم التسرع في وضع نظام عام للجامعة الان. والثاني، عدم الاستعجال في منح الجامعة سلطات واسعة.. اذ يرى بأن ذلك يؤدي الى الجمود ويمنع التطور والتقدم.. مشددا على نقطة اساسية تكمن في سلطة الجامعة بتعيين المدرسين واناطتها لذلك من قبل المدرسين السابقين!
وعارض ساطع الحصري فهمي المدرس بقوله انه كان يريد ان يلحق الى الجامعة فورا: دار المعلمين العالية، ومدرسة الهندسة، ومدرسة الحقوق! يذكر الحصري بأنه نجح في استبعاد فكرة الحاق دار المعلمين العالية بالجامعة.. اما رأيه بمدرستي الهندسة والحقوق، فهو يذكر بان طلبة الاولى لا تتجاوز دراستهم حدود التعليم الابتدائي! واما طلبة الحقوق، فكانوا جميعهم موظفين في دوائر الحكومة.. والمادة 46 تقول: لا يجتمع التدريس مع وظيفة في دوائر الحكومة!!
ويسوق ساطع الحصري في مذكراته جملة من المكاتبات التي جرت بين فهمي المدرس (ويسميه بـ " الاستاذ " تهكما) وبين وزارة الاوقاف وبين الرجل ومدرسة الحقوق.. اعترض في بعضها على انتقادات الحصري وان الاخير هو المخالف الوحيد لمشروع النظام في مذكرته الاعتراضية! ويستغرب ساطع الحصري معلقا بقوله: " لأني لم اكن المخالف الوحيد للمشروع. فان المستر سميث - مفتش المعارف العام - ايضا كان مخالفا له. وكان دّون رأيه في مذكرة مؤرخة 11/4/1924، انهاها بالعبارات الشديدة التالية: " اني ارى انه يكون كارثة عظمى للعراق، تأسيس اول جامعة للقطر تحت تأثير قانون سيىء التصور، وسيىء الكتابة، وملىء بالسخافات، مثل القانون الذي عرض على مجلس الوزراء "! ثم وصف الحصري فهمي المدرس بالاستهتار، وكتب مذكرة طويلة الى الوزارة لترفعها الى مجلس الوزراء الذي تأخر في اتخاذ قرار حاسم(2) .. يتابع قوله ان المدرس اراد ان ينقل القضية الى ميدان الصحافة، اذ كتب مقالة بعنوان " جامعة ال البيت وساطع بك الحصري "(3) ، يوضح فيها عوامل قيام الجامعة ودور مؤسسيها وحاجة ابناء العراق اليها.. وذيوع صيتها والمكانة التي احتلتها في القلوب، والعثرات التي حالت دون تقدمها من خلال المشاكل التي وضعت في طريقها! ويرد المدرس على اعتراضات الحصري " بسلسلة طويلة من المغالطات " - كما يقول الاخير -. ويستنتج المدرس بقوله: " ان السبب هو ساطع الحصري، لأنه لا يروق له تشكيل الجامعة ما لم يكن هو امينا لها، وربما لأنه يريد ان يوجه الشبان العراقيين الى الجامعة الامريكية.. ".
لقد رّد ساطع الحصري على فهمي المدرس بمقالة في نفس الجريدة (= العالم العربي)(4) اوضح فيها رأيه في "المشروع " برمته.. وكيف اخذ المسؤولون برأيه في ان تبقى مدرستي الهندسة والحقوق تحتفظان باستقلاليتهما بعيدا عن مشروع جامعة ال البيت في خطته التي لم تكن عملية، نظرا للمشاكل المالية والقانونية وازمة النقل.. وابقاء علاقة الجامعة بوزارة الاوقاف فقط بعيدا عن وزارة المعارف.. وحصر علاقة امينها العام بادارة الشعبة الدينية فقط!
كان لذلك كله ردود فعل واسعة النطاق لدى العراقيين الذين كانوا يتابعون نهاية ذلك الحلم الذي انتظروا تحقيقه.. وتابعوا فصول تجربته المريرة والمشاكل الصعبة التي احاطت به منذ يوم ولادته وحتى انقضاء اجله. وقد تألم لذلك ملك البلاد فيصل الاول والنخبة المثقفة، وتحولت البناية الاساسية للجامعة وما حولها بعد غلق الجامعة الى مبنى للمجلس النيابي العراقي.. وفي هذا الصدد، يذكر رجل القانون المعروف الاستاذ ناجي القشطيني في ديوان شعره الموسوم بـ " اللهفات" وعلى هامش قصيدة يمتدح فيها مكانة فهمي المدرس وجهوده وبقاء " عدوه الشيطانا معلقا على ذلك بقوله: " اشارة الى شخصية مريبة (= ساطع الحصري) وقفت ضد جامعة ال البيت التي اقترح تأسيسها فهمي المدرس وبتحريضات شيطانية، الغيت الجامعة !! وجعلت بنايتها مقرا للمجلس النيابي الذي ابرم معاهدة سنة 1930 (العراقية ـ البريطانية)، وضاعت الفكرة السامية التي اسست من اجلها الشعبة الدينية (اهم فروع جامعة ال البيت)(5) .
استنتاجات تاريخية:
يمكننا ان نتوقف عند المزيد من الاستنتاجات التاريخية بعد محاولتنا دراسة مشروع جامعة ال البيت في العراق سواء من خلال تأسيسها او تجربتها العلمية وما حاق بها من ملابسات وتناقضات وصولا الى تداعياتها وفشلها ؛ وذلك من خلال متابعتنا وتوقفنا على المزيد من الوثائق والمراسلات والكتابات والاراء والمقالات والمذكرات.. اقول:
1)لم يكن مشروع تأسيس جامعة علمية كالذي وجدنا نموذجه يتمثل بالمؤسسة التي تشكلت باسم " جامعة ال البيت " في عهد الملك فيصل الاول.. فلقد كان هناك مشروع اخر من قبله اقترحه السيد هبة الله الشهرستاني واطلق عليه " جامعة الاشبال "! اذ كان فيصل الاول قد اهتم بتأسيس جامعة عراقية منذ ان حلّ على ارض العراق بعد المناداة به على عرش العراق. وكان وزير المعارف السيد هبة الله الشهرستاني قد قّدم مشروعا بعنوان " جامعة الاشبال " بناء على طلب الملك نفسه، وكان المشروع محاولة اولية ولكنها بسيطة وساذجة لتحسين الجانب النوعي للمعارف العراقية.. ولكن ساطع الحصري انتقد المشروع من اساسه واقنع الملك بعدم جدواه، مؤكدا له انه ليس من مصلحة العراق القومية والوطنية والاجتماعية تأسيس مثل هذه الجامعة (= المدرسة) ففشلت المحاولة الاولى! وعاد فيصل فابدى فكرة انشاء جامعة او كلية دينية باسم (جامعة ال البيت) التي شهدنا تجربة تأسيسها وتعثر مسيرتها انتهاء بفشلها الذريع! ويبدو للمؤرخ، ان الملك فيصل الاول كان يرنو الى معالجة واقع اجتماعي عراقي مضطرب ويهدف الى بناء مؤسسة علمية رصينة باستطاعتها اذابة التناقضات والتوفيق بين الاطراف المنقسمة وخلق تفكير جديد للعراقيين وذهنية تخلو منها كل الترسبات والتراكيب والموروثات السقيمة.. ويبدو ان الواقع الاجتماعي والثقافي كان اكثر تعقيدا وصعوبة سواء على مستوى الانتماءات او على مستوى الانقسامات، او على مستوى العلاقات بين الطبقات او بين الجهويات او بين المستويات ! وقد نبّه فيصل الاول منذ وضعه الحجر الاساس للجامعة الى اهمية قوة التأسيس ومكانة العمل. كان الرجل يتابع عن كثب ما يدور بين جميع الاطراف ازاء مشروع الجامعة.. وقد ترك الجميع من ذوي العلاقة في ازمة من اجل ان يجدوا للمعضلة حلا بانفسهم دون ان يتدخل لصالح أي طرف على حساب الطرف الاخر، خصوصا وان الامر يختص بمؤسسة علمية هي الاولى في البلاد كان يطمح ان تكون جامعة ممتازة. ولكن يبدو انه وقف بين تيارين اثنين: تيار مندفع اشد الاندفاع ازاء جامعة ليس من السهولة ابدا تطويرها في ظل واقع مالي مرير وواقع علمي ضعيف وواقع اجتماعي قاس! وتيار يقف في الضد من "المشروع" لاسباب متنوعة سياسية ودينية ومذهبية واستعمارية ليس من السهولة ابدا افشال مشروع الجامعة في ظل الدعوة الى الحاجة الماسة اليها من قبل الدولة والمجتمع معا.. ولم يتدخل فيصل حتى النهاية وهو يراقب ويرى احد ابرز واهم منجزاته يصيبه الاخفاق!
2)يمكننا القول، ان تأسيس (جامعة) كمؤسسة علمية عليا ليس امرا هينا، ولا قضية طارئة يمكنها ان تبدأ كي تنتظر نهاية له، وانها - كذلك - ليست كاي مؤسسة حكومية اخرى لها قوالبها وروتينها وعناصرها المعتادة.. فالجامعة ليست كذلك ابدا، فهي بحاجة الى رجالاتها وضوابطها وتعليماتها وعناصرها وتجديداتها واموالها واستقلاليتها ومنتجاتها العلمية واجهزتها ومرافقها... الخ ناهيكم عن بيئتها! صحيح ان العراق كان مركزا حضاريا وثقافيا له مدارسه وجامعاته ورجالاته من العلماء والادباء والمثقفين في سالف الايام.. لكنه وجد نفسه وقد نفض عنه تركة تاريخية صعبة عند بدايات القرن العشرين، وهو يؤسس الدولة والمجتمع المعاصرين كان يعيش مخاضا صعبا على جميع المستويات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وهو في ظل الانتداب.. فليس من الهين ابدا على المثقفين المخلصين والعلماء الحقيقيين تأسيس مشروع علمي متطور في ظل اوضاع صعبة للغاية، لكي نشهد تجربتهم سواء في تشييد الابنية او تنفيذ التدريسات او خلق المرافق والتجهيزات او تأمين الاساتذة للمحاضرات؟؟
3)لقد اطلعتنا المصادر والتوثيقات ان خطة جامعة ال البيت في العراق كانت طموحة جدا ومنذ عشرينيات القرن العشرين، وخصوصا الخطط والمناهج التدريسية، فضلا عن كونها متطلعة لخلق جيل جديد متسلح بالعلوم المدنية التي تساعده في فهم العلوم الدينية.. فقد اقرت دروس الفلسفة والفكر وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم مقارنة الاديان، وكلها علوم تغسل الاذهان من الاوصاب والمركبات وتعمل على خلق تفكير حديث خصوصا اذا علمنا ان علم الاجتماع -مثلا - كان في تلك الايام علما جديدا جدا.. فالمشكلة لم تكمن في من يدرّس هكذا علم جديد في جامعة عراقية فتية ؟ وهي مشكلة اكاديمية بحد ذاتها! ولكن السؤال: ماذا عكس ذلك كله من مشاكل على مستوى فهم الاخرين من المسؤولين في الدولة من صناع القرار او في المجتمع من الاعيان والمشايخ؟؟
4)ثمة اخطاء جسام ولدت مع المشروع منذ تأسيسه ! لم تؤسس جامعة ال البيت في العراق مؤسسة علمية مستقلة تتمتع ليس باستقلاليتها الادارية بل بارادتها العلمية. لقد ربطت - مع الاسف - بوزارة الاوقاف، ثم دخلت في طور صعب من العلاقة مع وزارات اخرى، ثم مع مجلس الوزراء ! وعندما نعلم بأن وزراء ومسؤولين وموظفين مسلكيين هم جميعا من نتاج العهد العثماني ولم يتمتع أي واحد منهم بحمل شهادة علمية عليا او حتى يتمتع بثقافة موسوعية حديثة. معنى ذلك: ان مواجهة غير متكافئة ستحصل بين صاحب القرار وصاحب المشروع! ولم يقف الامر عند هذا الحد فقط، فقلد انتقلت الجداليات في المشروع وفي اعماله وفي خططه ومناهجه واهدافه الى الشيوخ والاعيان والنواب والى علماء الدين ورجاله والى الوجهاء وذوي المصالح الذين هم جميعا ابعد ما يكونوا عن العلوم المعاصرة والمناهج الجامعية.. فهذا يطلب ان تصبح " الجامعة" مدرسة ثانوية عالية ! والاخر يدعو في البرلمان ان تتحول الجامعة الى " ثانوية ليلية "! ويقترح احد الوجهاء جعل بناية الجامعة اوتيلا للاوربيين من الدرجة الاولى تكتسب منه وزارة الاوقاف! ولم يقتصر الامر على هؤلاء، فقد تناوله الصحافيون الذين وجدوا في موضوع ومشروع "الجامعة " مادة دسمة للاستلاب من هذا على حساب ذاك.. ونشر الاخبار بين الناس الذين بدأوا يراقبون مشروع الجامعة بحساسية مفرطة وليس بمعزل عن انتماءاتهم الاجتماعية والدينية والطائفية والتي كانت تحرك البعض للنيل من مشروع الجامعة في الصميم والوقوف حيال تقدمه وتطويره.. ونادى البعض بمسألة " اصلاح جامعة ال البيت " ولم يمض على تأسيسها سنة واحدة فقط!!
5)ثمة عوامل خارجية لا يمكن اغفالها ابدا، ذلك ان موضوع تأسيس جامعة علمية على مستوى من الرقي في العراق لا يمكن ان ترضي عدة اطراف خارجية خصوصا وان اسمها اقترن بـ (ال البيت) وعلى الرغم من بيان اهداف الجامعة النزيهة واغراضها الواضحة في خلق كوادر اساسية داخلية تحتاجها الدولة العراقية.. وعلى الرغم من الغايات المشروعة للعراقيين في خلق مستويات عليا من المثقفين الذين بامكانهم حمل مؤهلات ومهارات ووسائل وادوات.. يمكنهم من خلالها تطوير المجتمع والتوفيق بين اتجاهاته والتخفيف من تناقضاته، فان ذلك كله لم يرض بعض الاطراف الخارجية.. علما بأن جامعة ال البيت العراقية لم تكن مشروعا سياسيا للدولة العراقية.. كما انها لم تكن مشروعا ايديولوجيا قوميا او دينيا !
6) لابد من وقفة من الاستنتاجات عند ابرز اسم اقترن بمشروع جامعة ال البيت في العراق، انه الاستاذ فهمي المدرس الذي تولى ادارة الجامعة. ويتوضح لنا من خلال كتاباته ومراسلاته واخباره انه كان عالما قديرا ويتمتع بمستوى عال من الثقافة والاستنارة والاطلاع.. كان شابا معمما عندما هجر العراق والعمامة معا الى استانبول اثر المشاكل التي صادفته مع العلماء المعممين ببغداد نتيجة بعض ارائه الجريئة.. وبقي في استانبول (15) سنة كان خلالها استاذا محاضرا في كلية دار الفنون، وساح في اوروبا الغربية على مدى سنة ونصف.. ورجع الى العراق عندما تأسست دولته على يد الملك فيصل الاول وغدا امينا للبلاط الملكي.. ثم نصب امينا لجامعة ال البيت التي كان وراء مشروعها وتنميته وتطويره من خلال ارسائه للمناهج المعتمدة. لقد كان المدرس عالما قديرا ولكن يبدو انه كان مديرا فاشلا، اذ لم يمتلك اساليب المناورة ولا اساليب الحركة والالتفاف للسيطرة على المشاكل التي احاطت بمشروع (الجامعة) من كل حدب وصوب.. وخصوصا في الوقوف والقضاء على اعتراضات خصمه ساطع الحصري الذي لم يكن رجلا اكاديميا مطلقا، بل كان رجلا تربويا في تأسيس المدارس لا الجامعات ! كان المنتظر من الاثنين ان يعالجا اختلافاتهما بصدد بعض الاساسيات لا الثانويات من اجل خدمة المشروع.. لقد كان فهمي المدرس طموحا جدا في تأسيس جامعة متكاملة بوقت سريع دون أي امكانات او حّد ادنى من المقومات! وكان ساطع الحصري متقاعس جدا في تأسيس جامعة صغرى يمكنها ان تتكامل في يوم من الايام..!! ولكنني لا اعتقد ابدا ان تأسيس جامعة ال البيت في العراق يوم ذاك كان كارثة عظمى للعراق كما اتى لنا الحصري بذلك وهو يشارك المستر سميث مفتش المعارف العام في العراق قوله!
7)انني اعتقد بأن مشروع جامعة آل البيت في العراق والذي ترافق تأسيسه مع تأسيس الدولة كان مشروعا حضاريا مستقبليا سيعزز فرص التلاقي والتفكير المشترك بين العراقيين، وعلى اسس علمية راسخة. ويبدو ان الطموح كان فوق الواقع، فاذا ما تعمقّنا في اسباب فشله وجدنا ان ثمة ادوات خفية لعبت لعبتها في اسكاته والى الابد.. خصوصا وان " المشروع " سوف يهدّد وجودها في المستقبل اذا ما زرع وعي جديد لدى العراقيين، فضلا عن دور المشروع في تحويل التفكير من الاحاديات المذهبية والطائفية الى الشراكة الوطنية.. ومن التعّصب للرأي الواحد الى مزاولة طرح الاراء المتعددة في ظل تعاليم أكاديمية جديدة.. واستطيع القول بأن هذا " المشروع " في الحقيقة كان قد سبق زمنه، اذ لم يرق أي مشروع عليه خصوصا اذا ما علمنا انه يجمع بين النقائض وانه يجمع بين دراسات الدين والدنيا، وانه يجمع العراقيين في ظل قاعة واحدة لتدارس قضايا متنوعة يختلفون حولها.. ويبدو ان هذا الاخفاق الذي اصاب هذا " المشروع " قد أّثر تأثيرا سيئا في عقل فيصل ووجدانه.. فلقد بدأ متطلّعا لتأسيس تاريخ جديد بطموح فائق النظير، فخرج منه يائسا على غرار مشروعات اخرى لم يساعده الزمن ولا الواقع ولا من كان حوله في الانتصار على تناقضات الحياة العراقية التي بقيت تذكى من حين الى آخر منذ تلك الايام وحتى يومنا هذا!
8)واخيرا، وبرغم فشل تأسيس أول جامعة في العراق منذ تاريخ مبكر من القرن العشرين، الا ان العراق طور كلياته ومعاهده كثيرا وخصوصا تلك التي تتركز ببغداد سواء الحقوق والهندسة والطب ودار المعلمين العالية ومعهد الفنون الجميلة.. ثم تلتها جميعا تأسيس كلية الاداب والعلوم وكلية الملكة عالية وكلية التجارة التي جمعتها بعدئذ جامعة بغداد التي تأسست عند نهاية العهد الملكي.. وكلها كليات عريقة كانت لها أدوارها العلمية والفكرية والثقافية في العراق على امتداد خمسين سنة 1908- 1958م، خصوصا وانها ضمّت أفضل الاساتذة الاكاديميين الذين تخرجت على ايديهم نخب من المثقفين العراقيين من اقسامها المختلفة، وكان العراق سباقا في تأسيس بعض الاقسام العلمية الجديدة في منطقة الشرق الاوسط لاول مرة مثل الفلسفة والاجتماع والانثربولوجي والموسيقى الغربية وغيرها كما وكان لتلك الكليات على امتداد مراحل الحياة العراقية المعاصرة ادوارها السياسية القوية، ومشاركة طلبتها واساتذتها في الميادين الوطنية والقومية.. ان ابرز ما يمكن ان نختم به موضوع التأسيس الاكاديمي في العراق هو نجاحه لاحقا على درجة من السمو والتجلة والابداع.. صحيح ان التجربة الاولى في تأسيس جامعة دينية عراقية قد فشلت، الا أن تطور الكليات والمعاهد والدور العلمية العراقية لم يكن قد أتى من فراغ، ذلك لأنها كانت مبنية على أسس قوية كمدارس علمية راقية، فلا غرابة ان يبرز أفضل رجال القانون من خريجي كلية الحقوق العراقية، وان يبدع عدد من المتميزين في معهد الفنون الجميلة ويصلوا الى العالمية، وأن يتخرج في أروقة دار المعلمين العالية خيرة مثقفي العراق، تلك الدار التي لم تكن تضاهيها أي كلية في المنطقة، وهي التي تخرج في اروقتها عدد من الشعراء اللامعين والعلماء المتخصصين، وهكذا الامر بالنسبة للكليات العلمية العراقية بالنسبة للطب والهندسة والصيدلة وغيرها.. فضلا عن تميز خريجي كلية الاداب والعلوم والتي انفصلت اقسامها بعدئذ في كليتين منفصلتين: الاداب والعلوم. وكانت قد تأسست بعض الكليات لاحقا في كل من الموصل والبصرة والتي انفصلت لاحقا اثر تأسيس جامعتين في كل من الموصل والبصرة.
وقفة تاريخية: تحليل الاستنتاجات
1. أهمية الموضوع ومدى مصداقيته التاريخية
قد يستغرب البعض كثيرا بعد قراءة هذا الموضوع ويتساءل: لماذا احتار الباحث ان يقف لكي يبحث تفصيلات هذا " الموضوع "؟ وماذا تشكل هذه " الجزئية " من تاريخ العراق من أهمية ليس في تاريخه الثقافي والفكري حسب، بل في تاريخه الاجتماعي والسياسي ايضا؟ والحق كل الحق في مثل هذه التساؤلات التي يمكن للقارىء الكريم ان يفترضها (وخصوصا اذا كان من العراقيين)! ودعوني ان احلل مقارنا من خلال أجوبتي بعض ما غاب او نسي او شوه من تاريخ العراق على ايدي بعض الاخوة من الكتاب السياسيين خصوصا بعد ان خاضوا في معالجة قضايا خطيرة في تاريخ العراق المعاصر بعيدا عن المعرفة والحيادية والموضوعية، ولقد جاءت بعض كتاباتهم المنشورة مؤخرا في السنوات الاخيرة وقد انبعثت لاسباب سياسية او ايديولوجية او خلافية مستخدمة تاريخ العراق المعاصر ومسائله وشؤونه بعيدا عن فهم العناصر والشخوص والاليات، كما وغاب عن فهمهم قوة التنوعات وفهم التطورات في حياة البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على امتداد الاجيال الثلاثة التي ساهمت فيها.. وأيضا عدم توغلهم في قراءة النصوص والاحداث والوقائع والقرائن بتفصيلاتها، ناهيكم عن عدم سيطرتهم على المصادر التاريخية الوثائقية، فجاءت بعض الاعمال ـ مع الاسف ـ مغيبة للتوثيقات والاسناد المتعارف عليه في المنهج التاريخي.
2. الموقف الحقيقي للملك فيصل الاول:
لو لم يكن فيصل الاول يؤمن بالاساس بتأسيس جامعة عراقية منذ السنوات المبكرة من حياة العراق المعاصر، لما كان في الاساس قد دعا اليها من اجل مصلحة العراق والعراقيين في قلب العاصمة بغداد. ولو لم يكن يدرك حاجة العراق الاجتماعية والدينية والفكرية على وجه الخصوص اليها لكي تكون منبرا فقهيا وتجديديا تجتمع في ظلها كل المذاهب الاسلامية من اجل التآلف والشراكة والاجتماع على كلمة سواء لما كان قد غامر بمثل هذا المشروع الخطير، وكان هو نفسه صاحب القرار الاول والاخير في مسألة التأسيس، فلا الانكليز ولا غيرهم كانوا وراء ذلك. أما التنفيذ، فقد حصر أمره بالنخبة المفكرة في العراق. وعليه، فان الملك فيصل الاول هنا يعطينا الدلالة القاطعة على انه فعلا كان يحمل نزعة تجديدية ليس في القومية او العروبة، بل في الدين والبناء الحضاري ايضا كونه وجد ان من مصلحة العراق ان تؤسس فيه جامعة اسلامية هدفها واضح المعالم لكل ذي عينين، فالعراق بحاجة الى تجديد علومه الاسلامية من اجل مصلحته الاجتماعية والسياسية وتشكيل قاعدة فقهية عليا يمكن ان تنطلق في المستقبل لتطوير مستقبل العالم الاسلامي قاطبة وفي بيئة تعد من اصعب البيئات العربية والاسلامية بتنوعها المذهبي والطائفي.. ويكفي ان اشترك في التدريسات أحد ابرز العلماء النهضويين من ذوي النزعة التجديدية الاسلامية في الجامعة، الا وهو الشيخ عبد العزيز الثعالبي الى جانب الاستاذ فهمي المدرس وهو المعروف بنزعته التجديدية الاسلامية لا النزعة القومية العربية. أما وقد فشل المشروع فانني اعتقد بأن فيصلا لم يكن ابدا وراء ذلك لأنه أراد ان يشترك الجميع في تنفيذه.. واعتقد بأنه لم يقحم نفسه في الملابسات والمشاكل التي حدثت وكانت تلك المشاكل وراء فشل المشروع لسبب واضح ذلك انه لم يكن على دراية وتخصص في مثل هذه الامور.
3. نقد الموقف الايديولوجي لساطع الحصري:
صحيح ان ساطع الحصري المنظر العربي الشهير للقومية العربية كان وراء فشل المشروع، والاسباب التي طرحها الحصري لا يمكن الاقتناع بها، لأن الرجل كما يعرف الجميع كان يحمل نزعة علمانية علنية الى جانب نزعته القومية الصارخة، وانا واثق بأن الرجل ما كان يطيق ان تؤسس جامعة اسلامية ليس في العراق وحده، بل في أي بلد عربي آخر، الا أن العراقيين من المتنفذين انفسهم قد اعطوا الحجة والذريعة للحصري كي يهاجم المشروع. وبرغم الخلاف الحاد الذي حدث بين كل من فهمي المدرس وساطع الحصري، الا ان المدرس اعترف ضمنا بهزال اصول التدريسات التي كان يقدمها بعض الاساتذة الذين كانوا يحملون تقاليد الكتاتيب الملائين في وسط علمي يراد منه ان تأسيس قاعدة اجتهادية تجديدية في العلوم الاسلامية.. كما ان وقوفنا على جزئيات المشكلات الاجرائية الصعبة التي حاقت بالمشروع لم يكن وراءها لا الملك ولا الانكليز ولا الحصري، بقدر ما كانت من قبل اولئك الذين يتسنمون مواقع وزارية وادارية في الحكومة العراقية، وخصوصا بين وزارة الاوقاف وبقية الوزارات الاخرى.. كما تعلمنا قرائن المشروع الذي انبثق مبكرا جدا، وحالة البلاد الاقتصادية صعبة للغاية، لم تمكن لا الملك ولا الحكومة من الصرف المالي على مشروع استراتيجي كهذا الذي اراده فيصل الاول بنية صادقة، ودافع عنه فهمي المدرس باستماتة بالغة.
4. امكانات العراق الفعلية:
ان المسؤولية يتحملها الجميع، اذا اعترفنا بأهمية المشروع وريادته في المنطقة من اجل ان يغدو العراق بؤرة في تجديد الفكر الاسلامي ويحي كما صرح فيصل الاول نفسه امجاد مدارس العراق الفقهية والحضارية في تاريخ الاسلام، أقول بأن فيصلا الاول أراد ان تتشكل الجامعة شيئا فشيئا وان تتطور على مهل بدءا بالكلية الدينية وصولا الى استكمال بقية الكليات المختصة بمختلف العلوم والاداب والفنون.. في حين أرادها الاستاذ فهمي المدرس جامعة متكاملة من جميع الوجوه وبسرعة خارقة، ونحن ندرك بأن مصر عندما أسست جامعة فؤاد الاول بالقاهرة كانت هناك مدارس ومعاهد عليا قديمة قد تأسست منذ عهد محمد علي باشا الذي شجع هو وخلفاؤه الخديوات من بعده على البعثات للشباب المصريين الكفوئين الى جامعات اوربية، وعندما تأسست أول جامعة مصرية كان هناك كادرا تدريسيا مؤهلا لم يحظ العراق بمثله أبدا في عشرينيات القرن العشرين، ناهيكم عن بقاء الجامعة المصرية تستضيف العديد من الاساتذة والمستشرقين في فترة ما بين الحربين العظميين، فضلا عن التقاليد الجامعية التي كسبتها مصر على ايدي عشرات الاساتذة.. كما ان امكانات مصر المالية وانفاقاتها على الجامعة واساتذتها ومبعوثيها لا يمكن ان تقارن أبدا باوضاع العراق من جميع هذه النواحي، ولم يكن قد مضى على تأسيس الدولة العراقية خمس سنوات! وعليه، يمكننا القول بأن الحصري كان مصيبا من هذه الناحية، ولكن كان عليه ان يؤيد الملك في تأسيس المشروع، ثم تطويره رويدا رويدا.. ولكن لدي القناعة الكاملة بأن الحصري لم يؤمن بالفكرة اصلا ولأسباب سياسية وفكرية وايديولوجية واضحة المعالم!
5. القومية والعلمانية في العراق قبل الحصري:
بعيدا عن ساطع الحصري وقوميته التي استعارها من الالمان خصوصا، وبعيدا عن ساطع الحصري وعلمانيته التي استعارها عن الفرنسيين.. فلابد ان يدرك البعض من الكتاب والمؤرخين العراقيين والعرب والاجانب، بأن فكرة العروبة اولا، وفكرة القومية ثانيا، وفكرة العلمانية ثالثا لم يزرعها ساطع الحصري نفسه في العراق الذي وصل العراق بعد ان تأسست الدولة عام 1921. ذلك ان العراقيين وخصوصا عند النخبة المثقفة من ابنائهم الذين جايلوا النخب العربية والتركية والايرانية المستنيرة على امتداد ثلاثين سنة سبقت تأسيس الدولة العراقية للفترة 1989- 1919 كانت تلك النخبة قد تشربت بالافكار الدستورية والعلمانية والقومية قبل ان يعرف الناس ساطع الحصري وقبل أن يسمعوا باسمه.. ويكفي ما عرفناه من اسماء عراقيين نهضويين وتجديديين ودستوريين علمانيين قبل 1908 او بعدها وكانوا من المثقفين المدنيين اساسا كجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي ود. داود الجلبي واحمد عزت الاعظمي وعلي الجميل وثابت عبد النور وخير الدين العمري ويونان عبو اليونان وسليمان فيضي ود. حنا خياط وتوفيق السويدي وفاروق الدملوجي ومحمد مهدي الجواهري وفرنسيس جبران ويوسف رجيب وعبد الله فائق وابراهيم صالح شكر وغيرهم. ومن يقرأ كتب او مقالات هؤلاء بتمعن ودقة سيجد ان افكارهم كانت علمانية ومتقدمة على عصرهم، وان مسائل عدة اتهم بها فيصل وطاقمه والانكليز انهم كانوا وراءها. والحقيقة ان مسائل كسفور المرأة وعلمانية الدولة وفكرة القومية ومحاولة تغيير الحروف باستخدام اللاتينية والانفتاح على الاوربيين.. والتزيي بالازياء الاوربية بدل العراقية الشعبية او العثمانية المميزة كلها كانت موجودة عند النخبة العراقية المثقفة وبالتحديد منذ عام 1908، أي ليس قبل الملك فيصل الاول وساطع الحصري، بل وحتى قبل مصطفى كمال أتاتورك نفسه!
6. ماذا يحتاج العراق باطيافه المتعددة والوانه المتنوعة؟
ولقد دافع بعض الدارسين والباحثين من العرب والعراقيين بالذات ليس عن ساطع الحصري نفسه، بل عن منهجه وتفكيره وخططه وخصوصا ما يتعلق منها بالمعارف العراقية (= التربية والتعليم)، اذ وجدوا في الاسس التربوية التي اسسها الحصري في العراق (وخصوصا منهاج القراءة الخلدونية) كانت ولم تزل ناجحة وميسورة ومنفتحة وهي صالحة للمجتمع العراقي الذي تتنوع فيه المذاهب والطوائف والاديان والاعراق. وان مجرد محاولة العزف على أي واحد من هذه العناصر، او أي اسلوب تربوي يميز بين الاضداد.. سيحّول المجتمع ـ لا سمح الله ـ الى كتلة من الكراهية والصراعات. وهذا ما كان يتخوف منه الملك فيصل الاول ويحاول القضاء عليه باعلاء شأن المواطنة والولاء للعراق فقط بعيدا عن كل الانتماءات الاخرى. وعليه، فسنجد بأن اول وزارة عراقية في عهده ضمت: نقيب اشراف بغداد واحد السادة الاعرجية العراقيين واحد رجالات المال من اليهود العراقيين وطبيب مشهور من الاطباء المسيحيين العراقيين. وهذه مسألة مهمة جدا ليس في تقييم ما كان جرى فعلا في العراق، بل في عملية ما جرى فعلا برغم كل الخلافات والاختلافات. وأجد من باب الموضوعية ان يبعد المؤرخ نفسه في ان يكون جزءا من طرف على حساب طرف اخر، او أطراف اخرى. فضلا عن أن كل ما جرى في العراق ابان القرن العشرين قد فات عهده ومضى زمنه اذا اراد العراقيون اليوم فتح صفحة تاريخية جديدة يمكنهم الاستفادة من تجارب الصفحات القاسية الماضية، ولكن ضمن تفكير جديد لابد ان تنتفي منه كل عوامل الانقسام او حتى محاولة اذكاء أي نعرة على حساب المستقبل وبناء الاجيال القادمة.. اذ يكفي ما صنع العراقيون بأنفسهم على امتداد قرن كامل من الزمن.
7. عراقية المشروع بعيدا عن أية ايديولوجية:
لابد لنا من القول أيضا، بأن هذا " المشروع " الذي حمل أسباب فشله منذ البداية، كي تكون مبررا لساطع الحصري في الاجهاز عليه، لم يكن قد انطلق من مرجعية سياسية او ايديولوجية او اصلاحية او سلفية، فكل الدلائل التاريخية والمعلومات التي تتضمنها النصوص الوثائقية تشير الى ان المشروع كان عراقيا بذاته وكان حريا به أن يعيش من اجل مصلحة العراق وكل من العالمين العربي والاسلامي، ولكن اخفاقه حال دون ان يطّور الاليات والافكار والمواقف ليس لاستيعابه وفهم فلسفته حسب، بل لدعمه ماديا ومعنويا مهما كان الثمن.. وهنا لابد لي أن أقول بأن مثل هذه التجربة الوليدة في المعرفة العربية الاسلامية ما كانت تتخذ من أفكار راجت في ذلك الوقت مرجعية أو مستندا لها أبدا، اذ كان المشروع من البعد بمكان عن افكار اصلاحية كتلك التي طرحها السيد جمال الدين الافغاني او الشيخ محمد عبده أو المصلح عبد الرحمن الكواكبي او غيرهم.. اذ يكفي ان هناك في العراق رجالات من المصلحين من غير المختصين والعلماء والمجتهدين غير الاكاديميين الذين كانت لهم فلسفاتهم وافكارهم ومناهجهم وأساليبهم التي تختلف جدا عن كل ذاك الذي طرحه المصلحون العرب في مصر خصوصا.. كما أن المشروع لم يكن سياسيا ينبثق عن ايديولوجية معينة، فلو كان الملك فيصل الاول قد رسم له ايديولوجية هاشمية معينة في الحكم، فمن المحتمل ان هكذا مشروع سيغدو واحدا من ابرز ادواتها الفكرية والثقافية في المنطقة، ولكن فيصل نفسه لم يرسم له ولحكمه في العراق أي أدلجة كالتي كان معاصروه قد استحدث كل واحد منهم ايديولوجية لنفسه في بلاده، وخصوصا كل من زعيمي تركيا وايران: مصطفى كمال أتاتورك ورضا شاه بهلوي، فكانت هناك الكمالية في تركيا التي لم تزل حية ترزق حتى يومنا هذا، في حين قضي على البهلوية التي اجتاحتها الثورة الايرانية عام 1979.
8. طبيعة التأسيس العراقي المعاصر:
ان من يدقق في جزئيات تاريخنا العراقي المعاصر، سيكتشف لا محالة ان أوتي من النباهة والفهم واتساع الافق بأن ليس كما أشاع البعض وما زال يشيعه البعض الاخر حتى يومنا هذا بأن ليس هناك أية ثوابت دينية او مدنية للمفكرين العراقيين الاوائل، وليس هناك كما يدعي البعض أي كلمة نافذة لهم في ما يريدون قوله والنقاش فيه من اجل تحقيقه من عدمه! كما وينفي البعض عن العراقيين (او الوافدين العرب) مساهمتهم في تأسيس بعض مرافق الدولة واجهزتها، ويرجعون الفضل كله للانكليز، وهذا حيف كبير بحق تاريخ ابناء العراق.. ان مجرد التدقيق في الذي جرى بمشروع تأسيس أول جامعة في العراق بالرغم من فشل تجربتها المريرة، يعطينا الحق بأن نقول بأن الظروف الداخلية الصعبة التي كانت تحيق بالعراق عند تأسيسه كدولة ومجتمع كافية لأن نشيد بالتجربة برغم فشلها وبالمؤسسين الاوائل بالرغم من امكاناتهم وقدراتهم.. وليس الامر محصورا فقط في هكذا تجربة علمية رائدة، فيكفي ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ التعمق في المناقشات والمداولات التي جرت بين المفكرين والساسة العراقيين من أجل اصدار الدستور الدائم للدولة عام 1925 تكفي لرفع الشبهات التي يتبرع البعض بتوزيعها من دون دراسة او توثيق او تعمق في الموضوع وكافة نصوصه وقرائنه، وهي شبهات مازال يلوكها البعض من الكتاب العراقيين وغيرهم بعيدا عن منهج البحث التاريخي في دراسة تاريخ العراق المعاصر.. وعليه، فان معظم المنجزات والتجارب والاجراءات والقرارات والقوانين العراقية التأسيسية التي حدثت سواء بنجاحها او بفشلها لم تكن تخط او توضع او تطبق على مستوى التنفيذ بارادة ملكية، او ضمن مشروع جاهز، او باسلوب اعتباطي.. كما ولم يكن تاريخ العراق المعاصر في صفحاته الخطيرة مستعارا وهجينا، كما وأنه لم يكن مثاليا وغاية في الرقي، فانه كان ـ كما اعتقد ـ قويا في تأسيسه برغم كل الخلل والاضطراب الذي حل في الكثير من مرافقه ولأسباب داخلية لابد لكل الباحثين والمؤرخين المقتدرين في المستقبل من التعمق فيها واصدار الاحكام العلمية عنها.
وأخيرا: الجذور القوية للاكاديمية العراقية
حظي العراق بمدارس وكليات عليا رصينة في النصف الأول من القرن العشرين، ساهمت كثيراً في رفد المجتمع بالثقافات الجديدة، وعملت على إخصاب المقومات الأساسية له، فزخرت الفئات الشابة بالمزيد من التطلعات الفكرية والقومية، وتخلصت النخبة المفكرة من انتلجينسيا العراق من بقايا الذهنية المركبة التي كانت تتقولب بها الأجيال القديمة، ويعود الفضل في ذلك إلى عهد الملك فيصل الأول وزخارة المرحلة التأسيسية، وبتشجيع منه، فقد جلب العديد من المدرسين والمدرسات من الخارج.ولعب ساطع الحصري دوراً بارزاً في إثراء شؤون المعارف العراقية إذ قام بوضع مرتكزات تربوية / بيداغوجية حديثة لتربية الجيل الجديد، ومن حسن الحظ أن نخبة ممتازة من أبناء العروبة قد ساهموا في هذه المعركة بحماس واندفاع، فقدموا إلى العراق، حيث كان مأوى الأحرار وملجأ المجاهدين، لقد أثرت كل من كلية الحقوق ودار المعلمين العالية كثيراً في الحياة السياسية والفكرية والثقافية العراقية على مدى نصف قرن كامل 1908-1958. وذلك بتكوين جيلين في الثقافة السياسية العراقية: جيل ليبرالي من الحقوقيين العراقيين إبان عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، وجيل راديكالي من التربويين والمعلمين ابان عقدي الخمسينيات والستينيات. اما مرحلة عقدي السبعينيات والثمانينيات، فلقد اصطبغ الجيل بصبغة السلطة والحزب والثورة البعثية.. وعاشت الاكاديمية العراقية على تقاليدها القديمة التي بدأت تهترئ شيئا فشيئا بفعل سياسات السلطة ابان الحرب العراقية ـ الايرانية وتداعيات غزو الكويت وحرب عاصفة الصحراء فجاءت هجرة الاساتذة العراقيين بكفاءاتهم العلمية هروبا الى خارج البلاد ابان عقد التسعينيات خصوصا.. وافرغت الجامعات من مضامينها الاكاديمية بمنح درجات وشهادات عليا لعناصر غير كفوءة ابدا بدأت تسيطر على مقاليد الامور، فانهارت الحياة العلمية في العراق ابان تسعينيات القرن العشرين خصوصا عندما ضرب الحصار الدولي حياة العراق.. وتلاحقت الضربات الماحقة على الحياة العلمية والاكاديمية في العراق حتى يومنا هذا سواء قبل 2003 ام بعد هذا التاريخ.
هوامش:
1- ساطع الحصري، المرجع السابق، ج 1، ص 435ـ436.
2- المرجع نفسه، ج 1، ص 440ـ 447.
3- راجع المقالة في جريدة العالم العربي، العدد (124) السنة (1)، بغداد بتاريخ 19 آب 1924 م الموافق 17 محرم الحرام 1343 للهجرة (على الصفحة الاولى).
4- انظر مقالة الحصري في جريدة العالم العربي، العدد (128)، السنة (1)، بغداد بتاريخ 22 آب 1924 م الموافق 20 محرم الحرام 1343 للهجرة.
5- راجع: محمد ناجي القشطيني، اللهفات (ديوان شعر ونثر)، ط 1، (بغداد: مطبعة شفيق، 1968)، ص 147 م (2).