قطاع التكنولوجيا المتطورة في إسرائيل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حققت إسرائيل منذ نشاتها تقدما اقتصاديا مذهلا حيث يفوق مستوى العيش حسب تقرير التنمية البشرية للعام 2005 ما هو عليه في دول مثل اليونان و كوريا الجنوبية. كما اثبت الاقتصاد الإسرائيلي مرونة كبيرة في التعامل مع آثار الحرب، حيث عاد لمستوى ما قبل انتفاضة عام 2000 بحلول 2003 ، ليحقق بعد ذلك نسبة نمو تزيد عن 4% خلال 2004. و توجد اليوم توقعات بان تكون آثار الحرب الأخيرة محدودة. فما سبب هذا؟ و أين مصدر قوة الاقتصاد الإسرائيلي، علما و انه يشكو من عدة نقاط ضعف من بيروقراطية خانقة و قطاع عام غير مجدي؟
يركز المقال على قطاع التكنولوجيا المتقدمة التي هي لب المعجزة الاقتصادية الإسرائيلية. فخلافا للقطاعات التقليدية التي تعرف اليوم مزاحمة كبيرة من طرف دول فقيرة مثل الصين و الهند و فيتنام، حيث يعمل العامل في بعض هذه الدول اكثر من 55 ساعة في الأسبوع و بأقل من 100 دولار في الشهر، يمتاز قطاع التكنولوجيا المتقدمة بمنافسة اقل، وهو بذلك ذي قيمة مضافة عالية -أي فائض الأموال الذي تخصصه الشركة لدفع الرواتب و خدمة الدين و توزيع ما تبقى كأرباح-.
يمثل قطاع التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل 15 % من الناتج الإجمالي و 30% من الصادرات. و حصل هذا نتيجة استقطاب الدولة لكبرى الشركات العالمية منها : "انتال" الأمريكية (التي تشغل 7 آلاف عامل في مراكز الأبحاث و التطوير و تقوم حاليا ببناء مصنع جديد لرقائق الكومبيوتر بتكلفة 4 مليار دولار)، شركة "موتور ولا" التي تستثمر في عديد الشركات الإسرائيلية المتواجدة، شركة "هولت-باكارد" (التي تشغل 3 آلاف عامل)، شركة "سيسكو-سيستامز" التي قامت بالاستحواذ على أربعة شركات إسرائيلية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة و دخلت في شراكة في راس مال شركات إسرائيلية جديدة، و شركة "آي-بي-آم" التي تمتلك مخبرا للأبحاث بمدينة حيفا و لها شراكات مع ما يسمى بشركات راس المال المغامر"Venture capital companies".
يتمتع القطاع بسمعة طيبة في الخارج حيث أن اكثر من 75 شركة من اصل 100 شركة إسرائيلية تعرض أسهمها في سوق "وول سترييت" بنيويورك تنتمي لفئة التكنولوجيا المتقدمة، مما يوفر لها قدرة كبيرة على التوسع في راس المال. كما أثبتت الحرب الأخيرة أن شركات التكنولوجيا المتقدمة هي آخر من يتأثر بآثارها، مما يعطي قدرة للاقتصاد بصفة عامة للصمود أمام الأزمات.
ورد في تحقيق لصحيفة وول ستريت في شهر أغسطس الماضي، أن كبرى مراكز و مختبرات الشركات العالمية -انتال و مايكروسوفت- في مدينة حيفا واصلت عملها بانتضام بالرغم من تعرض المدينة للقصف المستمر لصواريخ حزب الله، حيث أن خبراء هذه الشركات واصلوا عملهم بواسطة أجهزة الكمبيوتر المحمول و قاموا بإمداد المركز الرئيسي للشركة بالمعلومات عن طريق الإنترنت، كما قامت عديد الشركات بتوزيع الموظفين على مراكز تابعة لها، بعيدة عن القصف. بينما قامت شركة ثالثة بإنشاء مخيم صيفي في مكان آمن ساعد الموظفين على استقدام عائلاتهم و من ثم العمل في ظروف مناسبة! و استطاعت شركة "آي - فيو" التي تصنع أجهزة كاميرا صغيرة تقوم بمتابعة التنفس عند المرضى من إقامة خط وقتي للإنتاج بمركزها الرئيسي لتعويض الإمدادات التي كانت تأتيها في السابق من شركة عل الحدود الشمالية، أغلقت أبوابها نتيجة الحرب، مما ساعدها على مواصلة الإنتاج و تلبية كافة التزاماتها السابقة...
و لعل سنوات الانتفاضة 2000-2004 خير شاهد على مرونة هذا القطاع و قدرته على التأقلم مع الظروف، حيث لم تمنع الاضطرابات حوالي 36 شركة عالمية من فتح فروع لها في إسرائيل.
استطاع الاقتصاد الإسرائيلي تحقيق هذه النتائج بفضل المستوى التعليمي الراقي، حيث جاء ترتيب الدولة في الالوبياد العالمي الأخير لمادة الرياضيات في مرتبة متقدمة مقارنة بدول مثل إيطاليا و النرويج (النتائج منشورة على موقع: http://timss.bc.edu).
و يبلغ عدد العاملين في التطوير التكنولوجي و التنمية 1570 باحثا لكل مليون مواطن في إسرائيل، مقابل 294 في ماليزيا، لكن اقل من كوريا الجنوبية (2979 باحثا).
تجعل التكنولوجيا المتقدمة الدولة في مأمن من المزاحمة في قطاعات تقليدية مثل النسيج و الملبوسات، كما حصل مؤخرا نتيجة إلغاء نظام الكوتا السابق الذي أدى لغزو أسواق الدول المتقدمة بالبضاعة الصينية و مثل تهديدا كبيرا للدول العربية. كما تعطي هذه الأنشطة المتطورة حافزا قويا للدراسات العليا في الاختصاصات العلمية و التقفية، مما يساعد على النهوض بمستوى الجامعات و يحسن من ملاءمة خريجيها لمتطلبات سوق العمل. و هذه دروس هامة للدول العربية التي يتوجب عليها إعداد استراتيجيات و برامج وطنية للنهوض بهذا القطاع الحيوي، الذي يمثل أساس مجتمع المعرفة الذي نطمح إليه. و يتم ذلك بإنشاء مناطق حرة متخصصة مثل "واحة دبي للسيليكون" و الترويج لها لدى كبرى الشركات العالمية العاملة في هذا المجال، بالإضافة لتوفير الحوافز لرجال الأعمال العرب للدخول إلى هذا النشاط مع تقديم المساعدة اللازمة لهم من خلال "حاضنات المشاريع" (Incubator Centers)، التي يعمل بها مهنيون ذوي خبرة يتابعون كافة مراحل المشروع حتى بلوغه سن الرشد، أي عندما ينجح في مرحلة الإنتاج و التصدير. و يبقى كل هذا مجرد أضغاث أحلام ما لم تقم النخب في الدول العربية و الإسلامية بما يشبه ثورة ثقافية أساسها نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني المعيقة للتقدم، و إصلاح التعليم التي يغلب عليه في الوقت الحاضر النقل لمناهج متخلفة بكل المقاييس الدولية و مقارنة حتى بدول اكثر فقرا مثل الهند.
كاتب المقال باحث أكاديمي في اقتصاديات التنمية و خبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن
Abuk1010@hotmail.com