كتَّاب إيلاف

الفلسطينيون وخياراتهم الكارثية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أما وقد وصلت الأحوال إلى ما هي عليه الآن، سواء داخل الأراضي الفلسطينية، أو في جوارها الذي تمتد إليه النيران المستعرة فيها، فلابد مما ليس منه بد، من اقتحام المسكوت عنه، أو ما لا يتم تناوله إلا همساً في الغرف المغلقة، ومتى خرجنا إلى العلن كان لنا خطاب آخر، غالباً ما يتسم به المزايدة والنفاق، وفي أحسن الأحوال التحسب والمداراة، لنجني على مر السنين المزيد والمزيد من المرارات والنكبات، نتشارك جميعاً فيها ولو بنسب متفاوتة، فيما يكون للشعب الفلسطيني منها نصيب الأسد.
بالقطع مدخلنا لتناول ما نعتبره طابو مقدس ليس مدخلاً عدائياً للشعب الفلسطيني، بل هو مراجعة ونقد ذاتي، هدفه الصلاح والإصلاح، حتى لو بدا للبعض قاسياً ومفتقداً للرحمة والتعاطف، فالقسوة والحزم مع الذات أو الصديق حين يكون ضرورياً، يفتح آفاقاً لفجر جديد نستدعيه ونشق الطريق إليه، عوضاً عن اليأس أو انتظار أن تمطر السماء ذهباً وفضة وحلولاً لمشاكل حياتنا المستحيلة.
ننوه بداية إلى أنه لا يغيب عنا تجاوز الدقة في التحليل العلمي للظواهر السياسية والاجتماعية، حين ننسب للجماهير مواقف وتوجهات الأقلية من الحكام والصفوة، أو نحمل الأخيرين تبعات خيارات الجماهير، خاصة وأن كلا الطرفين أدمن إلقاء اللوم على الآخر، ومع ذلك فإن التوحيد بين الجانبين لا يخلو من أساس منطقي يستند إليه، فالحكام والصفوة هم إنتاج الجماهير وأبناؤها، وهم ثمرة ثقافتها وقيمها، ومن ثم فلا يحق الجماهير التبرؤ من جريرة ممارساتهم وتوجهاتهم تمام التبرؤ، وبذات القدر لا يحق للحكام والصفوة لوم الجماهير، ماداموا قد قبلوا التصدي لمهام الحكم والريادة الفكرية،، فدورهم هو البحث عن السبل لقيادة الجماهير لتحقيق مصالحها، بما يتضمن إنقاذ الجماهير من نفسها إذا اقتضى الأمر.
أيضاً ليس مدخلنا هنا من منطلق التأييد لإسرائيل، رغم أن التعاطف مع شعبها وكل شعوب المنطقة فريضة إنسانية، وجزء لا يتجزأ من الصالح العام للجميع، فزرع إسرائيل بالمنطقة كان بالأساس خطأ استراتيجياً من الذين قاموا بزرعها، فقد زرعوا اليهود الهاربين من جحيم العنصرية الأوروبية المعادية للسامية، في منطقة أشد تعصباً ورفضاً لقبول اليهود، وكان من الأكثر صواباً لو تم اختيار بديل آخر، من البدائل التي كانت معروضة آنذاك، وغض النظر عن الاعتبارات الدينية والتاريخية، والتركيز على مناسبة الجغرافيا من حيث الاتساع وكثافة السكان الأصليين والقادمين، وعلى مناسبة الثقافة السائدة من حيث الاستعداد لقبول توطين الآخر، واليهودي بالتحديد.
نأتي إلى ما يشي به عنوان المقال، خيارات الشعب الفلسطيني منذ البداية، والتي تبدو كما لو كانت تتعمد الخيار الخطأ، بداية من اختيار الفلسطينيين بيع أراضيهم للقادمين بالأثمان المغرية التي عرضت عليهم، واختيار الزراع المأجورين الرحيل، بعد أن باعت العائلات المالكة للأرض والمهاجرة من الأساس، في حين أن خيار البقاء والتفاهم مع الملاك الجدد كان وارداً، مهما قيل عن إرهاب العصابات الصهيونية، فخيار التشبث بالأرض حتى الموت كان أجدر بالتثمين من خيار الهروب لحياة عمادها التسول والصراخ والعويل، مع كامل التوقير للآلاف من الفلسطينيين الذين خرجوا، ليس لمخيمات اللاجئين، لكن إلى العالم الواسع، يشقون بالكدح طريقهم، محققين نجاحات جديرة بالاحترام، لكن الفلسطينيون اختاروا بدلاً من التبشير بثقافة التشبث بأرض الأجداد، أن يبالغوا في وصف ممارسات العصابات الصهيونية، بغية تأليب الرأي العام عليها، لتأتي النتائج عكسية، إذ انتشر الرعب بين الأهالي، وسارعوا بمغادرة قراهم، ولمن لا يستنكف اقتحام المسكوت عنه، أن يبحث فيما سمي مذبحة دير ياسين، والتي لم تحدث إلا في مخيلة من قرروا خوض المواجهة باصطناع الصراخ والعويل، لتفاجأ القوات الإسرائيلية ذاتها برحيل الآلاف من الفلسطينيين من قراهم، هروباً من المذابح التي خلقها في أذهانهم قادتهم من أشاوس الصراخ والاستنجاد!!
محطة أخرى أثناء الحرب العالمية، اختار فيها الحاج أمين الحسيني أن يستقل قطار الندامة، حين وقف في صف النازية، التي لابد وقد رآها أقرب للتعبير عن ثقافته وميوله، ليبوء وشعبه بالخسران، مع خسارة النازي أمام العالم الحر، فهل توقف الخلف بعد ذلك عن هواية اختيار الجانب الخاسر؟!
خلال حرب 1948 اختار الآلاف من الفلسطينيين هجرة قراهم، استجابة لدعوة إفساح الميدان للجيوش العربية المظفرة لاجتياح كل ما أمامها، على أمل العودة بعد استئصال شأفة اليهود، ليكتشفوا بعد فوات الأوان أن خيارهم كان الأسوأ، وأن من بقوا بمواقعهم يعيشون الآن داخل دولة إسرائيل، ويتظلمون من تفرقة عنصرية تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية أو حتى الأخيرة، لكنهم يتمتعون بحياة وحقوق مدنية وسياسية، لا يكاد يجرؤ على الحلم بها علانية من يعيشون تحت حكم أشاوس العروبة وشيوخها في سائر أقطار المشرق والمغرب!!
وحين شكل الفلسطينيون منظمات تحرير مسلحة، وأصبح لديهم الآن بندقية (كما تغنت فيروز)، اختاروا أن يؤجروا البندقية لمن يدفع أكثر، ليصيروا ألعوبة بيد الجميع، يسخرونهم لأغراضهم ومناوراتهم الخاصة، فكان أن فسدت تلك المنظمات وأفسدت، ليبوء الشعب الفلسطيني بالمزيد من الخسران ومعه سائر المنطقة، وحين اختارت المنظمات المتمركزة في الأردن ثم في لبنان أن تمارس البلطجة ومحاولات السيطرة على الدول المضيفة وقهر أنظمتها وشعوبها، بدلاً من التوجه لتحرير أرضها، كان أن تجرعت عار الطرد المشين من عمان وبيروت.
اختارت المنظمات الفلسطينية المسلحة أيضاً بدلاً من النضال الشريف الذي يحترمه العالم - سواء الصديق أو المعادي - أن تمارس الإرهاب وخطف الطائرات واغتيال البعثات الرياضية، على مرأى ومسمع من العالم أجمع في دورة أولمبية مخصصة للتعارف والتنافس الشريف بين الشعوب، أليس هذا إصراراً عجيباً على لعب دور الشرير على المسرح العالمي؟! وهل يدخل هذا في عداد الحماقة أم الجنون أم النفس الأمارة بالسوء؟!
حين يجتاح صدام الكويت ويختار الفلسطينيون الوقوف في صف الطاغية، ويختار البعض من الفلسطينيين الذين وفرت لهم الكويت العمل الشريف والحياة الكريمة أن يكونوا عوناً للغزاة، رغم أن هذا الموقف يتعارض بصورة صارخة مع قضيتهم الأساسية، وهي تحرير أراضيهم من الغزاة الإسرائيليين، أليس هذا إتقاناً ملحوظاً في اختار الموقف الأسوأ؟!!
وحين يرفض الفلسطينيون المشاركة في كامب ديفيد الأولي، والتي استعادت بها مصر كامل أراضيها، ويختارون الجانب الذي قاده الهمام صدام حسين، ليتم محاكمة السادات محرر بلاده في بغداد، والحكم عليه بالخيانة العظمى والإعدام، ثم يرفض القائد التاريخي للمقاومة الفلسطينية في كامب ديفيد الثانية ما كان معروضاً عليه، دولة على 98% من أراضي الضفة الغربية، ويختار الذهاب إلى قذف الأطفال للحجارة، ثم إرسالهم بأحزمة ناسفة لقتل الأبرياء في إسرائيل، ثم يسلم القائد التاريخي ومنظمته العلمانية الساحة الفلسطينية لمنظمات دينية متطرفة، تحول القضية الفلسطينية من صراع من أجل تحرير الوطن - وهو ما يتعاطف معه كل أحرار العالم - إلى صراع ديني مع اليهود أعداء الله، وذلك في عصر لم يعد يقبل أو يسمح بالحروب الدينية، تصوراً ممن فعلوا هذا أنهم بهذا يكتسبون تأييد ودعم العالم الإسلامي، لتكون النتيجة خسارتهم لتأييد واحترام العالم أجمع، بل وتصنيفهم في معسكر الإرهاب، في عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001، وهو اليوم الذي خرج فيه الفلسطينيون يحتفلون بنجاح غزوة نيويورك، في استجلاب عجيب لإدانة العالم، أليس هذا أيضاً نجاحاً في انتقاء أسوأ الخيارات؟!
وحين تتاح للشعب الفلسطيني فرصة نادرة لممارسة ديموقراطية نزيهة بنسبة 100%، للمرة الأولى بالتأكيد في العالم العربي، ثم يختار الشعب الفلسطيني التوجه الأسوأ بالساحة، ليتم بعد ذلك مقاطعته ومحاصرته من العالم أجمع، وبدلاً من أن يكون الشعب الفلسطيني نموذجاً لجدوى الديموقراطية، يصبح برهاناً على عدم صلاحيتها لشعوبنا، أليس هذا إصراراً على الاندفاع نحو كارثة؟!!
ليس غرض تلك السطور إدانة الشعب الفلسطيني، ولا هي من قبيل التبكيت الممجوج على ما مضى، لكنها وقفة صريحة مع الذات، ودعوة لكل شعوبنا - قادة وصفوة وجماهير - لتراجع خياراتها، فلم نعد نحتمل المزيد من الكوارث.
kamghobrial@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف