كتَّاب إيلاف

الحرب الأهلية في فرنسا (3/3)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مما مر في الحلقتين السابقين عن كتاب جاك مارسيل نرى ما يلي:

1 - تلخيص
يرى المؤلف أن التاريخ الفرنسي سلسلة من حروب أهلية بأشكال مختلفة وليس العنف الدموي وحده بالضرورة. ومن الملاحظ أن المؤلف اختار ست شخصيات من قادة وحكام

الأولى

الثانية

ففرنسا بوصفهم حولوا الحروب الأهلية أو استخدموها من أجل التقدم وحل المعضلات الشائكة في كل عهد. هؤلاء الستة ليسوا قادة ثورات، بل حكام ما بين ملوك وإمبراطورين ورئيس جمهورية كديغول. الأخير وحده يمكن وصفه بقائد حركة مسلحة هي المقاومة ضد الاحتلال النازي خلال الحرب الدولية الثانية. أما كل من الملوك شارل الخامس وهنري الرابع ولويس الرابع عشر، فكانوا من العائلات الحاكمة، وكذلك نابليون الثالث، في حين خرج نابليون الأول بعد الثورة الفرنسية الكبرى وما تبعها من حروب أهلية ليضمن الأمن والاستقرار مع إيمانه بأهداف الثورة ومبادئها، وكما رأينا، فقد كان يربط العدالة بالأمن والاستقرار. وبصدد لويس الرابع عشر، الذي لم يسمح المجال لنا بالتوقف لديه، نقول إن من النقاط الهامة والجديدة للمؤلف نفيه نفيا قاطعا أن هذا الملك كان يقول " أنا الدولة والدولة أنا."
إن جميع الحكام الستة جاءوا بعد سنوات طوال من الاضطرابات والثورات أو الاحتلال الأجنبي وانهيار الدولة، فاستطاعوا الإمساك بالحلقات المركزية التي يجب التعامل الفوري معها كسبيل وحيد للتغيير نحو أمام وتطمين حاجات الشعب.
إن معايير التقدم والتجديد لكل عهد كانت تختلف عن غيرها ولا يمكن اعتبار الملوك والإمبراطورين نابليون ديمقراطيين بالمعنى الحديث، ولكنهم كانوا مجددين وقادة أقوياء ولكل دوره التقدمي المناسب لزمانه.
إن المؤلف يُدخِل في تعريفه للحروب الأهلية مثلا، قيام الملك شارل الخامس بوضع حد للامتيازات المفرطة للأمراء، وهنري الرابع عالج الحروب الدينية وعمل على وضع الدين في مجاله الروحي البحت. إن جميع من مر ذكرهم من حكام ضمنوا العدالة لهذا الحد أو ذاك وحققوا درجة من التقدم العام، رغم أن أكثرهم لم يكونوا ديمقراطيين بالمعنى المعاصر؛ غير أن نابليون الثالث جاء للسلطة باستفتاء شعبي، وأما ديغول فحالته مختلفة لأنه حكم أول مرة بعد الحرب في إطار جمهورية مؤسسات وانتخابات، ولكن هذه الجمهورية الثالثة لما بعد الحرب كانت تتخبط، والبرلمان في حالة صراع داخلي دائم. وعندما عاد ديغول للحكم ثانية عام 1958 دعا للنظام الرئاسي عبر استفتاء شعبي ففاز، ولولا ذلك لما استطاع حل مشاكل الكولونيالية والجزائر. وديغول نفسه انسحب من الميدان بعد فشله في استفتاء جديد بعد سنوات. إن ديغول وبالعكس من جمال عبد الناصر، لم يلغ مؤسسات وحريات قائمة وعريقة لحد ما، فتحقيق "العدالة الاجتماعية" عند الرئيس المصري الراحل كان يبرر التضييق على الصحافة وحرية الفكر والنشر، وتزييف الحياة النقابية، وحل الأحزاب، وفرض نظام الحزب الواحد، وتعذيب المخالفين في السجون. إذن لا مجال للمقارنة مع ما حدث في فرنسا إن راعينا العصر والمبادئ التي كانت تسود للحكم ومبادئ اليوم.
هكذا نجد قاسما مشتركا بين تلك العهود كلها وهو أهمية الأمن والاستقرار ووضع حد للفوضى والصراعات العنفية الداخلية كخطوات ضرورية وشرط للتقدم وتحقيق الإصلاحات الضرورية للبلاد. فهل في هذه التجارب ما يفيدنا في الوضع العراقي الراهن؟ برغم شكي في أن تبرز عندنا قيادة وطنية قوية وفعالة ومستقلة حزبيا قادرة على وضع حد للمذابح والفوضى الراهنة وحل المليشيات وتوجيه ضربات محكمة للإرهاب الصدامي - القاعدي؟

2- "الحرب الأهلية الفرنسية" اليوم
يرى المؤلف أن حربا أهلية فعلية تدور منذ سنوات في فرنسا. إنها حرب لن تتحول إلى ثورات لأن النظام منذ نصف قرن صار حصينا تجاه الثورات. صحيح أن أحداثا تقع تستخدم فيها المفرقعات الصغيرة ولكنها مفرقعات لن تتحول لقنبلة دمار. إن هناك صراعات كثيرة وهي صراعات "الأقليات"، أي الفئات المختلفة وكل منها تريد توسيع رقعتها وفرض الحلول التي تريدها هي. "فلا براميل بارود تتفجر، بل انفجارات صغيرة سرعان ما تخمد بعد اندلاعها المفاجئ؛ فالطموح لتحقيق الذات هو خير حارس للأمن الاجتماعي."
إن هذه الحرب الأهلية الفرنسية الراهنة لا تدور بين طبقتين إحداهما ضد الأخرى؛ ليست بين فقراء في وجه أغنياء، ولكنها تدور في إطار النظام الرأسمالي نفسه. فالعمال المستأجرون لم يعودوا طبقة متجانسة المصالح ولا سيما الفوارق بين قادة النقابات والنقابيين في القطاعات العامة وبين عمال المصانع الخاصة الصغيرة. إن هذه حرب تدور أيضا بين "الشيوخ" من العمال وموظفي المؤسسات العامة [ من مواليد 1925 و1955 ] الذين جمعوا امتيازات وحصانة كبرى وبين الشباب الذين تكثر بينهم البطالة ويسود الخوف الدائم من المستقبل.
إن المخاوف من المستقبل المجهول يسود حتى بين أوساط الكوادر الاختصاصية المنتمية لنقاباتها وعددهم أكثر من 500 ألف في حين أن عدد العمال النقابيين هو 400 ألف. وفي السنة الماضية كان 150 ألف من الكوادر عاطلين أو في الطريق.
في فرنسا "الأنا" تلقى أية محاولة للإصلاح مقاومة ضارية، ولاسيما من اليسار وقيادات النقابات العمالية. هذا مثلا ما وقع في السنة الماضية ضد قانون جزئي جدا لمعالجة البطالة بين الشبان المهمشين ممن لا يملكون شهادة ولا مؤهلات اختصاصية. هذا القانون الذي أقره البرلمان وزكاه المجلس الدستوري الأعلى جرى هزمه أمام المظاهرات والإضرابات وعمليات الاعتصام الصاخبة للعمال والطلبة وحيث استعمل العنف من اعتداء وحرق مكتبات ونهب سجلات جامعية ومنع الطلبة الراغبين في الدراسة من دخول الجامعات والمدارس الثانوية.

إن أكبر العقد والمعضلات الفرنسية اليوم هي:
1 - رفض الإصلاح والتغيير. فاليمين راض بما هو كائن، وأما اليسار والنقابات فإنهم الأشد مقاومة للتجديد والتغيير تحت شعار مقاومة العولمة واللبرالية. وقد ضرب ميتران مثالا يحتذونه لهذا النهج الذي يثرثر عن تغيير المجتمع والنظام مع المراوحة في المكان نفسه، أي الانفصام التام بين القول والشعار وبين العمل.
2 - تصاعد حالة انعدام الأمن وخصوصا في الضواحي من حرق سيارات ونهب وعدوان على البوليس وغير ذلك. إن النهج الفرنسي في التعامل مع الهجرة والمهاجرين برهن على الفشل وذلك لكونه أدى إلى أن يحصر أبناء الهجرة أنفسهم في "غيتوات" اجتماعية وثقافية خاصة مما يبعدهم عن التفاعل مع المجتمع الذي هم فيه ويحملون جواز دولته. كما لم تستطع فرنسا سابقا وقف حد للهجرة غير الشرعية، وعندما يعمل وزير الداخلية اليوم لتنظيم الهجرة ووضع ضوابط صارمة لها يتلقى الحملات من أطراف في اليمين الحاكم نفسه ناهيكم عن قوى اليسار.
3 - عجز النظام التعليمي عن ضمان كل الشروط اللازمة لتوفير الفرص للجميع بتلق السلم الاجتماعي.
إن حرب فرنسا اليوم هي بين من يريدون الصعود ومن يخشون الهبوط؛ بين الشيوخ الرابحين والشباب الخاسر، بين الذين يمارسون العنف وبين ضحاياه.
إن الشباب يواجه البطالة وعليه مع ذلك تسديد الديون الفرنسية المتراكمة [ أكثر من 2800 مليار يورو]، والتي ليس له أي دور في تراكمها، وإنما جاءت لدفع فواتير الامتيازات التي نالها " الشيوخ " على مدى العقود السابقة. والملاحظ أن السخط هو أساسا بين الطبقات الوسطى من هؤلاء الشباب لأنها الأكثر تضررا.
إن 61 بالمائة من الفرنسيين يخافون على مستقبل أولادهم، فضلا عن الخوف من العنف والاعتداء. إن تجاهل اليسار للمشاكل الأمنية هو الذي جعل اليسار كله يخسر انتخابات عام 2002، كما كان المشاكل الأمنية من بين عوامل صعود اليمين المتطرف في الانتخابات. ويقول المؤلف إن قسما كبيرا من الطبقات الشعبية نفسها صوتت للوبين، الذي كان يؤكد على مشاكل الأمن والهجرة.

هل من مخرج سليم من الحرب الأهلية الفرنسية الراهنة؟
يرى صعوبة ذلك لكونه سيلقى مقاومة اليمين واليسار معا. إن المخرج السليم في رأيه هو ما يصفه بـ" قطيعة الوثبات الحيوية"، أي تحقيق إصلاحات جريئة من دون تغيير مفاجئ وجذري يقلب المجتمع والنظام، كما كان يريد ثوار أمس وكما ترطن شعارات اليسار المتطرف اليوم؛ قطيعة تضع فرنسا على أسس جديدة صلبة.
يقول في الختام: "لا يهم لون الذي يحقق ذلك، فكما يذكّر المثل الصيني : [لا يهم أن يكون القط أسود أو أبيض، فالأمر الجوهري أن يصيد الفئران ]."

هذه شذرات عن هذا الكتاب الهام الغني بالمعلومات والعميق في التحليل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف