سناء أبو المعاطى تجاهد فى أفغانستان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سعيد أبو المعاطى المواطن الديموقراطى (8)
إستمر سعيد فى مخبأه وإستمر فى قراءاته ونجحت الأسرة بما فيهم سلوى الطفلة الصغيرة فى إخفاء حقيقة رجوعه، وكانت هذه بحق معجزة فى قرية مصرية صغيرة، إذا عطس إحد أفرادها داخل منزله فإن معظم أهل القرية سيخرجون من بيوتهم قائلين:"يرحمكم الله"!!
وعانت أسرته الأمرين لتوفير مجرد الطعام، فعملت أمه فى الحقل فى قطعة الأرض التى يستأجرونها، عمدت سعدية إلى المشاركة فى حلب الجاموسة وعمل جبنة قريش لبيعها فى : "سوق التلات" وكانت سعاد تذهب إلى طاحونة القرية لطحن حبوب القمح من محصول العام المنصرم وكانت الأم تقوم بعجن وخبيز الخبز وعاشت الأسرة فترات كثيرة كانت تنام بدون طعام عشاء ولكنهم شعروا بإستقلالية شديدة أثارت إعجاب سعيد أن أسرته رغم الفقر المتقع ورغم إنقطاع دخله البسيط لم تمد يدها للتسول، حتى سلوى "آخر العنقود" كانت تقوم بجمع بيض الفراخ وتعطيه لسعدية لمقايضته مع بقال القرية ببعض الكيروسين اللازم للإنارة وخاصة بعد أن عجزوا عن دفع إستهلاك الكهرباء، أما سناء فقررت رفع شعار "الإستقلال التام أو الموت الزوءام" فقد قررت المضى فى مشروع زواجها رغم معارضة الأسرة المبدئية ولكنها قالت لهم:"أنا أكبر من 21 سنة ومن حقى أن أفعل ما أريد، ومش ممكن حتيجى فرصة تانية للزواج"، ويرد عليها سعيد:" أيوه يابت ياسناء مش معقول حد يتجوز واحد إسمه إبن حلزة، يعنى لما تخلفوا عيل حتسموه إيه (حلزة) مش معقول يعنى، وبعدين ضرورى تكشفى وشك قبل الجواز لأن فيه إحتمال يغير رأيه بعد ما يشوفك " يقولها ضاحكا من العشم وتضربه سناء ضربة قوية على ظهره وتضحك وتقول:" والله لو ما إتعدلش معايا لأخرج دلوقت برة وأفضحك وأقول لأهل البلد إن إنت مستخبى هنا فى البيت بقاللك شهور زى البنات العوانس، وبعدين إنت مالك أتجوز واحد إسمه إبن حلزة، أبو رجل مسلوخة، أنا مبسوطة بيه وهو مبسوط بيي ومبسوط بالنقاب بتاعى، وخلاص حنجوز وحنسافر أفغانستان." ويرد سعيد: "إنت يابت إتخبلتى، ده إنتى عمرك ماسافرت أبعد من رشيد، حتى إسكنرية عمرك ما عتبتيها، أفغانستان دى بلاد وعرة قوى وكلها جبال وحتموتى من البرد."، وكان من رابع المستحيلات إثنائها عن الزواج والرحيل من إبن حلزة، وتم عقد القرآن والزواج "سكيتى" فى فرح أقرب إلى الجنازة منه إلى العرس، وعرفت لأول مرة أن إسم عريسها لم يكن إبن حلزة ولكن كان إسمه فى شهادة الزواج: محمد على النجار. وقضوا"ليلة الدخلة" فى منزل أحد أقارب أبن حلزة فى الإسكنرية، وكانت أجراءات تلك الليلة أشبه بأداء الواجب لم ينظر إليها إبن حلزة حتى بعد أن خلعت نقابها، ولم يقبل أن تخلع ملابسها ولم يقبلها، وشعرت بآلام شديدة أثناء وبعد أن إنتهى إبن حلزة من مهمته الرسمية ولم تتفاعل أو تشعر بأى رغبة من أى نوع، وكادت أن تضحك عندما كان السرير يتحرك بشدة ويحدث أصواتا مضحكة ومزعجة وتذكرت منظر كلب ذكر يقفز على كلب إنثى فى حوارى قريتهم، ولم يأبه إبن حلزة بصوت السرير المزعج ولم يهتم إلا بأداء" وطره" وحاول أن ينهى العملية بأسرع ما يمكن، وبعد الإنتهاء من العملية ردد بعض الأدعية والتى لم تفهم سناء منها شيئا، وقال لها: ضرورى نجهز نفسنا للسفر بكرة على مصر ومن هناك حناخد طيارة ننزل فى باكستان، أنا جبت لك جواز السفر و جوز بطاطين من عمر أفندى عشان هناك الدنيا برد قوى "
- باكستان إيه إنت مش بتقول إننا رايحين أفغانستان.
- ماهى أفغانستان على حدود باكستان، ومن باكستان حنطلع بعربيات لمقابلة الأخوة المجاهدين.
قال هذا بكلمات واثقة وكأنه يقرأ الغيب.
وفى مطار القاهرة تم فحص جوازات سفرهم بشك ولم يمروا من الجوازات إلا بعد تحقيق وسين وجيم مع إبن حلزة والذى قال لهم أنه مسافر باكستان للدراسة فى جامعة لاهور، وبالطبع لم يصدقه ضابط الجوازات ولكنه أخيرا دعه يمر ولم يتم سؤال سناء عن أى شئ وخاصة بعد أن أظهر لهم أبن حلزة وثيقة زواجهم، ولأول مرة سمعت سناء أبن حلزة ينطق بإسمه الحقيقى أمام ضابط الجوازا : "محمد على النجار"، وبدا إبن حلزة واثقا فى إجاباته مع ضابط الجوازات وحاز إعجاب سناء حتى وهو يكذب وتيقنت تماما أن هذا هو رجلها.
وبعد رحلة مضنية وصلوا إلى مطار كراتشى وفى مطار كراتشى مرة أخرى تم التدقيق فى فحص جوازاتهم ولأول مرة أظهر أبن حلزة أوراق من جامعة لاهور تثبت أنه قد قدم فعلا للدراسة، وكان إبن حلزة يتكلم الإنجليزية بشكل أبهر سناء ورغم أنها درست أكثر من ست سنوات للغة الإنجليزية فى المدارس الحكومية إلا أن معرفتها بالإنجليزية لا تتعدى أول عبارة درستها فى السنة الأولى الإعدادية:
I have Two Eyes and I can See
That Is the Door In Front of Me
وخرجوا من باب المطار ووجدوا شخصيا ملتحيا لم ينظر إلى سناء ولكنه أخد أبن حلزة بالإحضان وتكلم بالعربية ولكنها كانت بلكنة غريبة على سناء ولم تفهم كل شئ ولكنها
ولاحظت أن صديق إبن حلزة كان يستخدم تليفونا محمولا ويقول بلغة عربية لشخص ما أنهم سوف يصلون إلى "زيارات" بعد ساعة ونصف وعرفت أن إسمه:"أبو قراعة" وكادت أن تضحك عندما عرفت أسمه وحمدت ربنا على أسم زوجها أبن حلزة، ونامت سناء على مقعدها من آثار تعب الرحلة ومن تأثير رجرجة الأتوبيس وإستيقظت على أبن حلزة يلكزها بكوعة ويقول لها:"قومى ياولية وصلنا خلاص". ولأول مرة فى حياتها يناديها شخص بهذا اللقب:"ولية"، وكادت أن تصرخ فيه وتقول له "أنا ولية يا إبن ال..." ولكنها كتمت فى نفسها ونزلوا من الأتوبيس، ووجدوا شخصا يرتدى ملابس غريبة مثل التى كانت تشاهدها فى أخبار التليفزيون وكانت يرتدى عمامة ضخمة ذكرتها بعمامة النوبيين المصريين، وإن كانت عمامة النوبيين أحلى وأكثر نظافة، وكان يحمل رشاشا على كتفه وتحدث بلغة غريبة مع "أبو قراعة" ولم تفهم سناء أى شئ من حديثهما سوى ترداد كلمة إن شاء الله وكلمة (كندهار)، وشعرت بقلق وكذلك أخذ شعور البرد يزداد وخاصة أنها لم تكن مهيأة لمثل هذا البرد، ثم تحرك الركب إلى سيارة نصف نقل قديمة ماركة نيسان، وركب إبن حلزة وأبو قراعة مع الشخص ذو الملابس الغريبة، وأشار إبن حلزة إلى سناء بلهجة آمرة: "إتشعبطى فى صندوق العربية" ، وبصعوبة تسلقت صندوق السيارة بدون أن يحاول إبن حلزة مساعدتها، ولاحظت أنه يحاول أن يبدو أكثر قسوة معها أمام أصدقائه الجدد، وبدأت السيارة رحلة مضنية وسط جبال وعرة وشاهدت على بعد منظر جميل لجبال عالية تغطيها طبقة ناصة البياض، ولم تكن قد شاهدت جليد فى حياتها، ولم تعرف ما هو والشئ الوحيد والتى شاهدته بهذا البياض فى حياتها كان الدقيق الأبيض التى كانت تعجن به فى قريتها، وتذكرت سعيد وكلامه عن برد تلك البلاد القارص، وغطت نفسها ببطاطين عمر أفندى التى أحضرتها من مصر، ولكن يبدو أن عمر أفندى نفسه لم يتوقع أن يستعمل أى إنسان تلك البطاطين لمقاومة برد جبال أفغانستان، وخبأت إذنيها ولم يبق من جسمها خارج البطاطين سوى عينيها، ولاحظت أن كل الرجال الذين يتجولون فى الجبال والطرقات المتربة يحلمون السلاح على أكتافهم، وبعد مدة حوالى ساعة ونصف وقفت السيارة، فيما يبدو أنه نهاية الطريق.
ثم حضرت مجموعة أخرى من الرجال المدججين بالسلاح والملابس الثقيلة، وتكلم أبو قراعة وأخبرهم أن الطريق يتوقف عند هذا الحد وأن عليهم ركوب البغال والحمير للوصول إلى محطتهم الأخيرة، وكان أبو قراعة يختلس النظرات إلى سناء من حين لآخر، برغم أنه لا يبدو من نقابها سوى عينيها ورغم قبح وجهها إلا أن عينيها الواسعتين السواديين كانتا من الجمال بحيث يمكن لهما أن تخدعا أى ناظر إليهما وله أن يتخيل ما وراء العينين الجميلتين، وكذلك كان قوامها الفارع الرياضى ملفت للنظر والذى إكتسبته من كثرة ما مارست من أعمال منزلية بدنية، ولم ترتح سناء لنظرات أبو قراعة بالرغم أنها سعدت لمجرد أن هناك رجل قد نظر إليها بهذه الطريقة الشهوانية وكانت تبتسم وتقول لنفسها:"آه لو خلعت النقاب، بس بلاش خللى الطابق مستور".
وإمتطوا ظهور البغال والحمير وسمعت أبو قراعة وإبن حلزة يرددان دعاء السفر:"سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له بمقرنين" ورددت هى دعاء إلى الله أن يسلمها وزوجها فى تلك البلاد العجيبة.
...
وبدأ الظلام يحل وتراءت لسناء تلك الجبال وكأنها عفاريت ضخمة تطل عليهم من على بعد ولكنها فى نفس الوقت تبدو قريبة وكأنها على وشك الإنقضاض عليهم.
والشئ المدهش أن الحمير والبغال تعرف الطرق فى تلك الجبال الوعرة بدون إنارة وبدون أى توجيه وذكرها هذا بحمير قريتها حيث كانت تعرف الطريق من الغيط إلى البيت بدون أى توجيه، ووصلوا بعد ساعة إلى مبنى قديم متهدم متهالك تبدو عليه ثقوب عديدة وكأنها ثقوب وآثار غارات جوية وأرضية، ومن خلال الظلام تعرفت سناء على ملامح المبنى وبدا وكأنه مبنى لمدرسة مهجورة، وأشار الرجال إلى غرفة سوف تضم سناء وإبن حلزة، وتحركت سناء "ببقجة هدومها" وبطاطين عمر أفندى وراء إبن حلزة والذى لم يسمح لها أبدا خلال رحلتهما أن تسير بجواره، ودخلت الغرفة ووجدت بها مصباح كيروسين ومرتبتين بدون سرير ومخدات قذرة وكأن لم تغسل منذ سنوات.
ونامت سناء بملابس سفرها وكانت مرهقة إلى حد الموت حتى أنها لم تستطع أن تأكل شيئا من الخبز الناشف المتواجد بجوار السرير، ونام بجوارها إبن حلزة وإلتصق بها طلبا للدفء من ناحية ولكى يأتى "وطره" منها من ناحية أخرى ورغم تعب سناء إلا أنها لم تقاوم لأنها كانت تطلب الدفء من جهة ومن جهة أخرى لم يكن لديها مقدرة على المقاومة، وهذه المرة لم تسمع رجرجة سرير الإسكندرية وصوته العالى والذى طغى على صوت "نهجان" إبن حلزة، وكانت هذه المرة أسرع حتى من مرة الإسكندرية وحمدت ربنا على ذلك ونام الإثنان بسرعة، ولم يدم نومهما طويلا حتى سمعا صوتا عاليا بلغة عربية ركيكة يؤذن لصلاة الفجر ولم تفهم سناء منه سوى قوله:
"الله أكبر... الله أكبر"
.....
وبدأت حياة سناء تستقر فى هذا المكان المختبأ فى حضن الجبل، والذى أشبه بمعسكرات الجيش، وكان إبن حلزة يخرج بعد صلاة الفجر للتدريب مع باقى الرجال والذى يبدو أن عددهم لا يتعدى الثلاثين ومن جنسيات مختلفة وفيهم الأبيض الأشقر وصاحب البشرة السوداء وأصحاب البشرة السمراء ولم يجمعهم سوى الجهاد ضد ما أطلقوا عليهم الكفار والمشركين والصليبيين الجدد، وحاولت سناء أن تستفسر من إبن حلزة عمن يقصد بالكفار:
- أنا إتهيأ لى إن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام قد قضى على الكفار والمشركين بعد فتح مكة، هو فية كفار تانيين من ورانا ياإبن حلزة.
- كل العالم بيكره المسلمين، وكل واحد مش مسلم وعرف عن أن الإسلام هو خاتم الرسالات ولم يسلم يعتبر لدينا كافرا، ولدى كل إنسان على هذه الأرض خيارين إما الإسلام وإما القتل.
- لكن أنا إتعلمت فى المدرسة أنه "لا إكراه فى الدين"، وأن الرسول نفسه قد عفا عن كفار مكة.
- ما إتعملتيش برضه:"وقاتلوهم حيث ثقفتموهم".
وبدت أنها تتكلم مع حائط أصم، ورغم كل شئ تعاطفت معه رغم عدم معرفتها بما يفعلون، وأحيانا كان يغيب عن هذا المعسكر عدة أيام، بدون أن تعرف أين يذهبون، وكانت تدعو له كل مرة أن يعود لها سالما.
وإكتشفت أنها المرأة الوحيدة فى هذا المعسكر، وكان عليها أن تطهو للثلاثين رجل، وكان الطهو لا يتجاوز أكثر من الخبز، وبعض الأرانب البرية، وقليل من الأرز، وكان هؤلاء الرجال بالفعل لا يأكلون كثيرا، وكانوا يجلبون أحيانا مأكولات محفوظة عليها ماركات ولغات عديدة، وكانت تشك أحيانا فى أنهم يسرقون تلك المعلبات.
ومرة لا حظت أنهم يخبئون مواد غريبة بيضاء فى أكياس بلا ستيك وكانت تعتقد فى البداية أنها لبن بودرة، ولكنها إكتشفت أن تلك الأكياس تحوى مخدرات بيضاء وعرفت أن أفغانستان هى أكبر منتج للمخدرات البيضاء فى العالم، ويبدو أن الرجال كانوا يبيعون تلك المخدرات لشراء سلاح وعتاد.
وكثيرا ما تعرضت سناء للتحرش الجنسى من قبل بعض رجال المعسكر وخاصة أبو قراعة ولكنها صدت الرجال بعنف ولكنها لم تجرؤ أن تخبر إبن حلزة خوفا من أن يلومها هى.
...
وتعرفت سناء على اسماء مثل كندهار، وبيشاور، ووزيرستان، وكابول، والقاعدة، وطالبان، ولم يعنيها كل هذا فى أى شئ، ولم تحب هؤلاء الرجال أو تتعاطف معهم، وفى نفس الوقت لم تكرههم، ولكنها حينما كانت تخلو إلى نفسها كانت تبكى بشدة لإفتقادها لأسرتها: تفتقد سعيد ورزالته، وسلوى الصغيرة وسذاجتها، سعاد ونرجستيها وإعجابها بنفسها، سعدية وطيبة قلبها، أمها وكفاحها، وكانت تفتقد كثيرا تماسك اسرتها، ورغم كل شئ إلا أنها لم تندب حظها، وكان ما يسعدها هو عندما يعود إبن حلزة وهو رغم خشونة طباعه أمام الناس إلا أنه كان يحسن معاملتها فى معظم الأحيان وخاصة عندما ينغلق الباب عليهما.
وعانت كثيرا من التعامل مع الجليد ودرجات الحرارة تحت الصفر وتجمد المياه فى أوانى الطهو والشرب، ولكنها تعودت على كل شئ، و يبدو أن الإنسان له قدرة عجيبةعلى التعود على أى وضع، طالما أنه على قيد الحياة.
samybehiri@aol.com