السياسة الأميركية في العراق (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
مرت في السادس من سبتمبر/ أيلول الماضي، الذكرى السنوية الستون على الخطاب الذي ألقاه في مدينة شتوتغارت الألمانية في 6 أيلول 1946، جيمس بيرنز، وزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس هاري ترومان، وعرف فيما بعد، من قبل البعض ب"خطاب الأمل".
وقد حرص الوزير الأميركي، أن يكون خطابه بمثابة رد على التحدي الخارجي التي كانت الولايات المتحدة تواجهه وقتذاك، متمثلا في القوة السوفيتية الصاعدة بعد خروجها منتصرة بعد الحرب الثانية، وكذلك التحدي الداخلي المتمثل، زمنها، في الانقسام الحاد في صفوف المسؤولين الأميركيين، بخصوص سياسية الولايات المتحدة في أوربا، حيث كان الكونغرس الأميركي يشعر بالقلق من جراء التكاليف المرتفعة التي يفرضها الاحتفاظ بوجود عسكري في الخارج.
وقد أعلن الوزير الأميركي في خطابه المذكور عن تصميم بلاده على مواجهة كافة التحديات، فقال: "إننا لن نتهرب من القيام بواجبنا. إننا لن ننسحب. سوف نبقى هنا".
وبعد مرور تسعة أشهر على ألقاء بيرنز لخطابه ذاك، كان وزير الخارجية الأميركي الجديد، جورج مارشال يعلن من جامعة هارفارد (في 5 حزيران 1947 )، عن برنامج إنعاش أوربي تساهم فيه الاستثمارات الأميركية، وهو الذي سمي فيما بعد ب"خطة مارشال.
وقد أصبح معروفا، الآن، الدور الذي لعبته خطة مارشال، سواء في إعادة بناء الاقتصاديات الأوربية، أو في إعادة التأهيل الديمقراطي لبعض الدول الأوربية، وخصوصا ألمانيا. فبعد أن الحق الحلفاء الهزيمة بالنظام الهتلري وتم دحره نهائيا، فان تلك الهزيمة خلقت شروطا واقعية للتحول الديمقراطي الليبرالي في ألمانيا، وتحديدا في المنطقة الغربية من ألمانيا، حيث أنشأت جمهورية ألمانيا الاتحادية. وبعد مرور عامين على إعلان خطة مارشال، تم (في 23 أيار/ مايو 1949) أقرار الدستور الأساسي Basic Law بأشراف مباشر من الحلفاء، وبذلك أصبح التحول الديمقراطي الليبرالي الوليد مواد دستورية، وتفاصيل يومية ملزمة للجميع.
في عام 2003، وبعد مرور نحو ستين عاما، عاد التاريخ فكرر نفسه، وبطريقة فيها الكثير من عناصر التشابه، ولكن هذه المرة في منطقة تبعد، ألاف الأميال عن مكان الحدث الأول، أي العراق. فقد نجحت قوات الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة في إسقاط نظام صدام حسين، وهو نظام شمولي مشابه للنظام الألماني النازي، يعتمد في فلسفته السياسية على سياسة الحزب الواحد، ورفض الديمقراطية الليبرالية والمؤسسات الدستورية الليبرالية.
إما فيما يخص التحديات الخارجية التي أعلن عنها جيمس بيرنز عام 1964 ، فان الولايات المتحدة تواجه في العراق اليوم تقريبا نفس التحديات، ولكن من جهات جديدة مختلفة ومتعددة، أبرزها قوى الإسلام السياسي الأصولي المتطرف، داخل العراق وخارجه، التي تسعى بكل الوسائل لإفشال السياسة الأميركية في العراق، وإلحاق الهزيمة بها، عن طريق إجبار القوات الأميركية على انسحاب مبكر.
وعلى الصعيد الداخلي، فأن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش تواجه انتقادات مستمرة بسبب الخسائر البشرية التي تلحق بالقوات الأميركية المرابطة بالعراق، وبسبب التكلفة المالية، إلى حد أن أصوات أميركية برزت أخيرا، تطالب بانسحاب القوات من هناك.
وفي ما يتعلق بمواجهة هذا التحدي، فان المسؤولين في الإدارة الأميركية، والرئيس بوش على وجه التخصيص، أعلن وما يزال يعلن عن إصرار بلاده على مواجهة جميع التحديات. وما قاله الرئيس بوش( من بين خطابات كثيرة بهذا الصدد): "إننا نواصل هجماتنا على أعداء حرية العراق وهزيمتهم. وسنستمر في العمل مع القياديين العراقيين لإقامة حكومة حرة وديمقراطية (التشديد من عندنا) ومستقلة، وستوفي أميركا بالتزاماتها باستقلال العراق والمحافظة على كرامته الوطنية وكرامة الشعب"، ونبه إلى "عدم توقع ديمقراطية فورية" في العراق".
وفي مستهل ولايته الثانية أعاد الرئيس بوش "التزام الأمة الأميركية ببسط الحرية في الوطن (أميركا) والترويج لها في الخارج (من خطابيه في 15 مايو/أيار 2004 و 26 كانون الثاني 2005 ). وأخر مرة أعلن فيها الرئيس بوش تمسكه بإستراتيجية بقاء قواته في العراق، كانت في 11 تشرين الأول/ اكتو بر 2006 عندما قال: "لا أصغي إلى الذين يقولون لي: أرحلوا قبل إنهاء المهمة"، مؤكدا من جديد على أن "الرهانات كبيرة".
وفيما يخص تطبيق خطة مارشال جديدة، فقد أشارت الولايات المتحدة، في وقت مبكر جدا، وعلى لسان الحاكم المدني الأميركي السابق في العراق، بول بريمر، بتاريخ 12/9/2003 ، إلى حاجة العراق إلى خطة مارشال جديدة، التي قال بريمر أنها "وضعت أوربا على طريق الازدهار والحرية والاستقلال".
الآن، مرت أكثر من ثلاث سنوات على إنجاز الولايات المتحدة لمهمتها الأولى والأساسية، إي إسقاط نظام صدام حسين، فما الذي حدث في الأيام الأولى بعد سقوط النظام، وما الذي يحدث حاليا ؟ ومن يتحمل مسؤولية ما ألت إليه الأوضاع داخل العراق ؟
هل يتحملها المجتمع العراقي، بسبب طبع متأصل فيه، يميل إلى الجهالة والتخلف والاستبداد والعنف وعبادة الشخصية، ورفض أي تطور ديمقراطي ، أم أن هذه المسؤولية تتحملها الولايات المتحدة بسبب سياستها المطبقة في العراق ؟
الذي حدث هو، أن العراقيين رحبوا، في غالبيتهم العظمى، بما في ذلك سكان المناطق الملتهبة الآن، بسقوط نظام صدام حسين، وراودت جميع العراقيين أمال حقيقية بأن بلادهم ستنعم بالرخاء الاقتصادي، وسيتذوقون طعم العدالة والحرية والديمقراطية.
وحالما تم التخلص من النظام السابق، دبت الديناميكية في عروق جسد المجتمع. فعاودت الأحزاب السرية، مهما كان حجمها وتأثيرها الجماهيري، نشاطها العلني. ودب النشاط حتى في صفوف أحزاب ظن العراقيون أنها اندثرت، كالحزب الوطني الديمقراطي الذي كان قد أسسه كامل الجادرجي، أو التيار القاسمي الموالي للزعيم عبد الكريم قاسم، أو تجمعات القوميين العرب. وظهرت عشرات، إن لم نقل مئات، من منظمات المجتمع المدني. وأعيد الاعتبار إلى النشاط النقابي الحقيقي. وظهرت إلى العلن المزيد من المنظمات والجمعيات النسوية.
وحتى في ما يتعلق بالإرث السياسي للنظام السابق، فان الأمور كانت تتجه نحو نسخ التجربة الألمانية بعد سقوط النظام الهتلري. فقد أكتفت القوات الأميركية بإصدار قائمة محددة من رجال العهد السابق، لا يتعدى أسمائها العشرات، على أمل تقديمهم إلى محاكم قانونية عادلة (وهو ما حدث، فعلا)، وفسحت المجال أمام البقية الباقية للاندماج داخل المجتمع والاستفادة من الخبرات المتنوعة التي يملكونها، للمساهمة في إعادة بناء وتعمير البلد، مثلما حدث خلال ولاية المستشار الألماني الأول، كونراد إديناور.
وحالما دبت الروح في النشاط الاقتصادي العراقي وتم رفع أجور الموظفين، فأن الطبقة الوسطى العراقية بدأت في مداواة جراحها، واستعادة الثقة بنفسها. ومع أولى بوادر التحسن الاقتصادي، فأن هذه الطبقة بدأت، ولو على استحياء، في ممارسة دورها التنويري التقليدي. وانعكس هذا النشاط في إصدار المزيد من الصحف، وعادت المقاهي الأدبية، وهي، تاريخيا، رمز نشاط هذه الطبقة في العراق، تأخذ أدوارها الريادية التنويرية، وأصبح مراسلو الإعلام الأجنبي المتواجدون في العاصمة العراقية، لا ينهون تقاريرهم عن الأوضاع الجديدة في العراق، إلا بزيارة هذه المقاهي والتجمعات الثقافية.
باختصار، كانت هناك أمال عريضة بقيام نظام ديمقراطي ينصف العراقيين كلهم دون استثناء، ورخاء اقتصادي يعم كل مناطق العراق. وكانت ترجمة تلك الآمال تنعكس في الحراك اليومي لعامة الناس وللنخب، على السواء. وقد تحولت الساحة التي سقط فيها تمثال صدام حسين إلى "هايد بارك" عراقية.
ومن يراجع الآن ما نشره مراسلو وسائل الإعلام الأجنبية عن الوضع العراقي في تلك الأيام، فأنه سيطلع على مقدار التفاؤل الذي غمر نفوس العراقيين، وكيف بدأ العراقيون باستعادة الثقة بأنفسهم. ويكفي أن نستشهد، هنا، وبطريقة خاطفة، بما كتب من قبل شخصيات ووسائل إعلام أجنبية، وخصوصا من أوساط كانت، أصلا، معارضة أو غير متحمسة للحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق.
فقد زار الروائي البيروني، ومرشح جائزة نوبل، ماريو فارغاس لوسا، وهو أحد الشخصيات العالمية التي كانت قد وقفت ضد الحرب، العراق في 25 حزيران 2003 ، ومكث هناك عشرة أيام زرا خلالها العراق من أدناه إلى أقصاه. ووصف لوسا ما شاهده من نشاط صحافي وثقافي بأنه "أشبه بالجنون الذي لا ينقطع" (نشر فارغاس انطباعاته، أولا، في الصحف الأسبانية، ثم أعادت نشرها بعض كبريات الصحف في العالم).
وفي 16 حزيران 2003 ، نشرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية الواسعة الانتشار والمقربة من الأوساط الفرنسية الحاكمة: "إن المراهنة على نشوب حرب أهلية وتفكك العراق فشلت. إن الوحدة الوطنية لم تكن قوية في يوم من الأيام، مثلما هي قوية في الوقت الحاضر" ولاحظت "إن ما من احد في العراق، ما خلا المسؤولون الكبار السابقون في حزب البعث، لا يقر بان سقوط صدام قد خلق العديد من التغيرات الايجابية في البلد".
ونشرت صحيفة لوموند الفرنسية المستقلة الرصينة، في عددها الصادر بتاريخ 29 أبريل 2003 ، مقالا تحدثت فيه النشاط الحزبي الفوار في العراق. ولاحظت "أن الجميع في العراق، بما في ذلك الجهات الدينية والشيوعية والليبرالية والجمهورية والملكية، متمسكة بالنهج الديمقراطي، ورفض روح التعصب والاستئثار والإقصاء". وأشارت إلى أن كل ما موجود في العراق من نشاط حزبي هذه الأيام، يريد خلاله أن يقول العراقيون "ودعا لحكم الحزب الواحد. وداعا لأيام النشاط السري. وداعا لأيام القمع السياسي".
تلك كانت اللوحة العراقية مباشرة بعد سقوط نظام صدام حسين، فما الذي حدث بعد ذلك ؟
ما حدث بعد ذلك هو، أن الأمور بدأت تنتقل إلى الأسوأ، ثم من الأسوأ إلى الأكثر سوءا، حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه الآن. فأعداد القتلى العراقيين هذه الأيام تتزايد يوما بعد أخر، والقتل وعمليات التهجير أصبحت تتم على الهوية المذهبية. والفوضى بدأت تدب في مناطق كانت تعتبر، إلى زمن قريب، هادئة. والقتال، حتى بين الأجنحة الشيعية الشيعية، والسنية السنية، تزداد ضراوته يوما بعد أخر. والجماعات المسلحة المناهضة للعملية السياسية تزداد عددا وعدة، وتتوسع رقة نشاطها. والأوضاع الاقتصادية تتدهور بشكل مخيف. والخدمات الأساسية تتضاءل تدريجيا، وتكاد تنعدم. وبعض مواد الدستور، خصوصا تلك التي تتحدث عن إقامة نظام ديمقراطي، تتم الاستهانة بها من قبل القوامين على تطبيقها، والحريات العامة والخاصة تقضمها، شيئا فشيئا، مليشيات الأحزاب الدينية المشاركة في العملية السياسية، قبل أن تجهز عليها نهائيا المجموعات التكفيرية الإرهابية. وهذه المجموعات أو المليشيات المسلحةـ في المناطق الشيعية والسنية، حولت السكان المدنيين إلى رهائن، لا حول لهم ولا قوة. أما عدد القتلى في صفوف القوات الأميركية، فأنه لم يتوقف، بل أزداد أكثر من الأيام السابقة.
هذه هي اللوحة العراقية، حاليا: شديدة المأساوية وكالحة السواد. لكن، مع هذا كله، فأن الرئيس الأميركي ما يزال يصر إصرارا على تحقيق "النصر". ففي ذروة تصاعد العنف خلال الأيام الأخيرة، قال الرئيس بوش :
"هدفنا في العراق واضح وغير قابل للتغيير. هدفنا هو تحقيق النصر، وكل ما نجريه من تغيرات يظل في إطار التغيرات التكتيكية التي نستخدمها وصولا إلى تحقيق الهدف. (...إننا سنظل مرنين، وسنقوم بإجراء أي تغيير ضروري من شأنه أن يجعلنا متفوقين في هذا الصراع. (...إن قادة العراق الجدد قد شرعوا باتخاذ الخطوات الصعبة الضرورية لإلحاق الهزيمة بالإرهابيين، وتوحيد بلادهم. (...) إننا سنستمر في مساعدة العراق لكي يصبح من الديمقراطيات القوية وحليف قوي في الحرب ضد الإرهاب. (...) هناك شيء واحد فقط لا نقدم عليه هو، إننا لن نسحب قواتنا من ساحة المعركة، قبل أن نحقق المهمة MISSION" (من كلمته الإذاعية في 21 أكتوبر2006، وبالإمكان مراجعة النص الإنكليزي في موقع البيت الأبيض على شبكة الإنترنيت).
حسنا، ما هي هذه "المهمة" التي يقول الرئيس الأميركي أن قواته لن تنسحب إلا بعد أكمالها ؟ بسؤال أخر، ما الهدف أو الأهداف النهائية الكبرى التي تريد واشنطن تحقيقها داخل العراق ؟
هذا هو السؤال القاتل والخطير والاستراتيجي، والذي استنادا على جوابه ينقطع نزيف الدم وتستقر الأوضاع، أو تتدهور الأمور وتصل إلى حد الخروج عن السيطرة. إنه سؤال يحدد مستقبل هذا البلد، أرضا وشعبا، وتبعا لذلك فأنه يحدد مستقبل منطقة "قوس الأزمات" بأكملها، حيث بؤر الصراعات وأبار النفط، مثلما يحدد مستقبل العلاقات الدولية.
نعم، ما الذي تريده، بالضبط، الولايات المتحدة من سياستها "العراقية" ؟
يتبع