كتَّاب إيلاف

انتفاضة المتحرشين وسط القاهرة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

مشاهد حفلات التحرش الجماعي التي جرت وسط القاهرة أيام العيد، لو وردت في سياق رواية لنصبنا لكاتبها المشانق، واتهمته السلطات بالإساءة لسمعة مصر، التي لا يمكن أن ينحدر شبابها إلى هذا الدرك الأسفل من الانحطاط الخلقي، بحيث يسيرون في جماعات تتجاوز المائة، للتحرش الفظ بأي أنثى شاءت لها الأقدار أن تكون حينئذ وسط المدينة، بل ويصل الأمر إلى حد انتزاع ملابسها، والإمساك عنوة بمواضع العفة في جسدها، دون تمييز بين شابة وأخرى في عمر أمهاتهم، أو بين محجبة ومتحررة.
لكن للأسف حدث هذا وسط القاهرة، وكنت قد قرأت عنه بعدة مدونات إليكترونية، ولم أصدق، وبتعبير أدق لم أكن راغباً بتصديق هذه الممارسات التي لم تعرفها مصر إلا في عصور الانحطاط كآخر أيام المماليك.
من هنا كان لزاماً أن أتحقق من صحة الأنباء بنفسي، وتوكلت على الله قاصداً "وسط البلد"، التي كانت ذات زمن مضى نزهة الفقراء والأغنياء على السواء، حتى أصبح مجرد السير فيها الآن مغامرة غير مأمونة العواقب، وهناك شاهدت أعداداً غفيرة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة حتى الثلاثين، يسيرون جماعات كالقطعان، وبدا واضحاً أن روح القطيع استحوذت عليهم، وكانوا يهتفون بعبارات قبيحة لايمكن نشرها، ووسط هذا الهدير هناك صوت نسائي يصرخ مستغيثاً، ليتحول الشارع إلى ساحة "سعار جنسي"، بينما المارة يتمتمون بعبارات إبراء الذمة من طراز "لا حول ولا قوة"، أو حتى يشبعون فضولهم بمتابعة هذا المشهد العبثي الشرير.
وتضعنا ناشطة اسمها "رضوى" في قلب الأحداث عبر شهادتها التي نشرتها بمدونتها الإليكترونية: "ظللت لفتره مذهولة ومرعوبة، فهاتفت (مالك) وأخبرته بما يحدث وظل الاتوبيس واقفا لفترة، وأخذت اراقب الموقف، فوجدت أطفالاً ربما في العاشرة أو الحادية عشر، يشجعون بعضهم على الانضمام "يللا يا واد ندخل معاهم"، وينضمون بسرعه رهيبة للحشود، واخذت أتامل ملامح الذعر على وجه أم ممسكة بحرص شديد على أيدي بناتها الثلاث كأنها تحاول إعادتهم لرحمها، وامتد الذعر إلى الرجال الذين يخرجون صحبة بنات، فأخذوا ينكمشون أو يهرولون بسرعه لم استطع رؤية وجوه الضحايا، لكنني كنت استمع للصرخات وأرى الجموع الغفيره وهي تجري مسرعة، "ياااه أعداد ضخمة جدا، أكثر بكثير من أكبر مظاهرة".
شهادة أخرى من المنصورة تضمنتها مدونة "مالك" جاء فيها: "أرسلت لي صديقة من المنصورة رسالة ترجوني محادثتها تليفونيا، واتصلت بها لتسترسل في الحكي والكلام على لسان الصديقة: خرجت ثاني أيام العيد بوسط البلد في المنصورة ضايقني المعاكسات الشديدة من الشباب، وهذا أمر عادي يحدث يوميا لكل فتاة تقريبا لكنه راح يتطور للملامسة بالايدي، لكن ما حدث لي فلم أكن أتصور على الاطلاق أن يحدث مع أي فتاة، خاصة في الشارع، فأثناء رجوعي للمنزل ومعي صديقتي بعد أن زهقنا من المعاكسات المستمرة بالالفاظ النابية، كنا نسير في شارع جانبي، وظهر أمامنا شاب في العشرينات، وعندما أقترب منا فوجئنا به يفتح (سوستة بنطلونه) ويُخرج (...)، فصرخت أنا وصديقتي وجرينا", ولما سألتها ليه ما قولتوش لحد من الشارع علشان يجروا وراه قالت: "كنا خايفين، أحسن نروح القسم ونشهد وهيكون شكلنا ساعتها وحش قدام البيت والأهل".
وفضلاً عما تضمنته المدونات الإليكترونية، فهناك شهادات سمعتها، إذ حرصت شخصياً كصحفي، على التحدث مع الباعة الجائلين وأصحاب المحلات وجنود المرور وغيرهم، وبدا لي أنهم جميعاً مصابون بصدمة مما حدث، خاصة وأن الأمر لم يتوقف عند حدود واقعة وحيدة، بل تكرر على مدى يومين على الأقل، بنفس المجموعات الشبابية الرعناء التي لا يدري المرء إن كانت قد تشكلت عفوياً، أو أن هناك من هيأ لها الأمر، تمضي كالقطعان وسط القاهرة، وتهتف بعبارات قبيحة، وتتحرش بالإناث بوقاحة منقطعة النظير وسط سلبية رسمية وشعبية كأن شيئاً لم يكن، مما يعني أن خللاً يضرب روح هذه الأمة، وأن هذه السلوكيات ليست إلا إرهاصات أولية لقادم أسوأ، وهو باختصار ودون التفاف "سيناريو الفوضى"، سواء جاء في صورة "ثورة جياع" أو "انتفاضة حرامية" أو شعبية لا تهم المسميات، المهم أن هذه الوقائع فتحت جرحاً ظل كثيرون ينكرونه، بل ويستنكرون مجرد الإشارة إليه، وهو أن ظاهرة "الهوس الديني" المتفشية في شتى أنحاء مصر الآن، ليست سوى أكذوبة كبيرة، تواطئت عدة أطراف في ترسيخها، بين سلطة سبق لها ولجأت لأساليب مماثلة مع محتجين سلمياً أمام نقابة الصحفيين، وشعب يتفرج على المشهد وهو يلعن الجميع، و"دعاة جدد" استغرقتهم شهرة لم ينلها كبار العلماء وقد زعموا أنهم أفلحوا في إعادة الشباب للمساجد، لكن من دون أي مردود أخلاقي، يمكن للمرء أن يلحظه في سلوك هؤلاء، رغم انتشار مظاهر التدين التي لا تخلو من شبهة ادعاء مثل "الزبيبة" و"الإسدال" وغيرها من الشكليات، التي لم تفلح في بناء ضمائر هؤلاء الشباب فتضع أيديهم على جوهر السلوك القويم ممثلاً بأبسط معاني الأخلاق الإنسانية.
لكن الأمر أكبر من مجرد اختزاله برؤية أخلاقية فقط، إذ أن هذا "السعار الجماعي" ليس أكثر من جرس إنذار مبكر لسيناريو فوضى، ربما ينفلت معه الجائعون والمحبطون والمأزومون في ممارسات أخطر من التحرش بالإناث، كاقتحام البنوك والمحال وتحطيم السيارات والمرافق، والمخيف أن خيارات التعاطي مع هذا السيناريو المرعب لا قدر الله حدوثه، ستنحصر في خيارين لا ثالث لهما: إما أن يقفز التيار الانتهازي المتلفع بالدين للسطو على مقدرات البلاد والعباد، أو أن يتدخل الجيش لضبط الأوضاع، وهذا هو الأرجح، ولكن هذا أيضاً سيجهض أي بارقة أمل بإمكانية إجراء إصلاح ديمقراطي في أطر سلمية.
المطلوب الآن باختصار هو تقصي حقيقة ما حدث بموضوعية وشفافية، ولنواجه أنفسنا بالحقائق تمهيداً لبحث سبل التعامل مع الأمر، ليس من أجل منع تكراره فحسب، بل حتى لا يتفاقم ويؤدي لما هو أسوأ.
Nabil@elaph.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف