مشاهدات: جولة في دمشق العثمانيين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
القسم الأول:
عبْرَ الأحياء القديمة
" إن الشارع المستقيم، في الوقت الحاضر، سوقٌ مغطاة. شاهدتُ فيه سبيلَ ماء تستند إلى دعامة ضخمة. ويُزعم أنّ في هذا المكان قام حَنانيا بتعميد بولس، وفيه إرتد إليه بصره أيضاً. تسمى هذه الدعامة بـ " العمود العتيق "، ويقال أن حنانيا دفن تحت قاعدتها أو بمحاذاتها " (1). هكذا كتبَ رحالة فرنسيّ، من القرن السابع عشر، في تذكرته البديعة عن رحلته الشآمية. إنّ ما دعاهُ، آنفاً، بـ " السوق المغطاة "، ليسَ سوى سوق مدحت باشا؛ الذي تقمّص إسم المصلح العثماني، الشهير. كان مدحت باشا هذا، الملقبُ بـ " أبي الدستور " قد تولى ولاية دمشق في أواخر القرن التاسع عشر، وخلف فيها آثاراً جليلة. وإذا تجاوزنا إسم ذلك المصلح، فيمكنُ القول أنّ نصيب حاضرة الأمويين كان ضئيلاً لجهة ولاتها العثمانيين، المنشغلين بعمارتها ورفاهية أهليها. وكما لاحظ أحد الكتاب المعاصرين، فإن إهتمام عدد من الولاة الأتراك بالبناء وأعمال الخير، كان الكثير منها يبرر، في نظر أنفسهم، قسوتهم وظلمهم. (2)
جولتنا، إذاً، ستتأثرُ خطى رحالتنا الفرنسيّ. نتناهضُ من هذه المحلة، مجتازين إياها نحوَ المدينة القديمة، المشطورة بذاك السيف الرومانيّ، الذي لا يقلّ قِدَماً؛ سيف " الشارع المستقيم ". طنفاً طنفاً، وإفريزة إفريزة، نجتاسُ المحلة التجارية؛ المكناة بإسم المصلح العثمانيّ، مدحت باشا، والموصلة باب الجابية بشقيقه، الباب الشرقي. ها هنا تضيعُ خطانا في غمرة زحمة الأسواق، المسقوفة جميعاً : هذه المبنية غالباً من أجزاء حجرية، ذات قناطر معقودة بإحكام؛ يتخللها كوىً تسمحُ لضوء النهار، الفضوليّ، بالتسلل داخلاً إلى حيث العجائب؛ من نفائس المنسوجات والأشياء الأخرى، المتنوعة الإستعمال. إنها أسواقٌ، من الكثرة والإزدهار في عصرنا الراهن، أننا سنصدّق إبن عبد الهادي، الذي أكد في كناشه " نزهة الرفاق في شرح حال الأسواق "، وجود مائة وأربعين سوقاً في عصره الأيوبيّ ـ المملوكيّ. فيما أنّ الحركة التجارية لاحقاً، في عهد آل عثمان، هيمنَ عليها الجمودُ والفوضى. وخاصة ً حينما كانت المعارك تشتعل بين أصناف الجند، فيمتد لهيبها إلى الأسواق ويأتي على الكثير منها دماراً وسلباً ونهباً. وهذا الشيخ البديري، الذي كان معاصراً لذلك الرحالة الفرنسي، سالف الذكر، ينقل لنا مشهداً من صراع صنفيْن متنافسَيْن من العسكر الكردي الدمشقي : " وقعت فتنة في المدينة بين " الدالاتية "، التي يقودها المتسلم إبراهيم تمر آغا، وبين " لاوند الأكراد ".. وقتل من الفريقين جماعة وكان يوم جمعة، حتى بطلت صلاة الجمعة في كثير من الجوامع ". (3)
من الأسواق التجارية، تتهادى جولتنا عبرَ الأحياء السكنية، العتيقة. يتقدمنا دليلنا؛ الشارعُ المستقيم، الذي يشق له ولنا طريقاً في منتصف الأحياء تلك. هيَ ذي حارات " الكفار "، متجاورة مع جارتها؛ حارة " الرافضة "؛ بحسب تعبير ذلك العصر العثمانيّ، المتزمّت بحق : نصارى ويهود وشيعة، تقاسموا أفانينَ المكان وإشكاله؛ فكانت ناصيته الشمالية للأولين، المُعترف بهم في سماحة عقيدتنا كـ " أهل كتاب "، فيما الآخرون " الهراطقة "، في عُرْفنا غير المتسامح، قد إستأثروا زاويته الجنوبية. ربما أنّ ظاهرة تجمع الطوائف، الموسومة، في بؤر مستقلة، متطرفة، إستهلت في عصر أسبق. بيدَ أنّ مأثرة الفتح العثمانيّ، رسّخ ذلك الإنفصال المذهبي، في مدينتنا؛ بصفته كحام للدين الحنيف بإشتقاقه السنيّ المهيمن، منذئذٍ، على مركزها، وخصوصاً في محيط المسجد الأمويّ. علاوة على التدهور الإجتماعيّ، تجدُكَ واجداً أنّ لعمائرَ دمشق، أيضاً، حصتها من تلك العقلية، المتخلقة، المجلوبة على أسنة الرماح، الهمايونية. أضحى أصحابُ البلد، والحالة تلك، متعوسين أكثر من أيّ وقت مضى، من تاريخهم السحيق. تكدست جموعهم على بعضها البعض، كثمار تالفة في صناديقها الضيقة. دورٌ متلاصقة على مضض، ولكنها متآلفة، رغم كل شيء؛ دورٌ، تجمعُ وجَلها وقلقها حاراتٌ مقفلٌ عليها بأبواب مترّسة. حاراتٌ، كثيراً ما أضحتْ مداخلها متاريسَ حامية، في ساعات الوقائع الأهلية، المهولة. إلا أنّ هذه الصورة الكئيبة، الكالحة، كانت تتلاشى رويداً، كلما تتوغل الخطى الصديقة في عمق الحارة الشامية. فللدور دواخلها، أيضاً : إنها مبنية غالباً من الحجر الصلد، المُعَشِق واجهاتها الخارجية. أما الغرف، فلا بأس عليها بمادة الدك أو اللبن، المستجلبة عبرهما دفئاً ورطوبة معاكستيْن للجوّ المعلوم، خارجاً. وإذ توحي تلك الدور بالخصاصة والرثاثة، في مناظرها المطلة على الزقاق؛ فالآية تكون معكوسة، أيضاً، ما أن يجتاز المرءُ عتباتها : " فإنّ شققها كبيرة وحسنة الترتيب، وهي نظيفة ومفروشة بشكل جيد. كما أنّ جدرانها ملبّسة ومزخرفة ومزينة بالرسوم وفق الطابع المميز للبلد، بكميات غير يسيرة من الذهب واللازورد. ويندر أن تجد هنا منزلاً دون منهل ( بحرة )، يعمل على تزيينه وتوفير رفاهيته ". (4)
ربما يتبادر للمرء التساؤل، عن المغزى في كون دور قاطني دمشق، الموسرين، قبيحة ً من الخارج، فيما هيَ دررٌ فنية، في حقيقتها : والجواب، كما أفاد أكثر من مصدر تاريخيّ، هوَ رغبة ساكنيها أولئك في إبعاد " شبهة " الغنى عنهم؛ تجنباً لجشع أهل السلطة وإبتزازهم. لكأنما الزمن يُعيد، أحياناً، دورته. فنقلبُ صفحات الماضي على منقلبها الحاضر، الأكثرَ قباحة وتشوهاً؛ والمتمثل في تسلط فئةٍ من أهل البلد على مقدراته؛ فئة طائفية / ريفية، لا تقل جشعاً وإستبداداً عن العثمانيين، المندثرين. فلا غروَ، إذاً، أن تدفع دمشق القديمة اليوم، وقبل أيّ كان، ثمناً باهظاً لهذا المقدور، المتسلط : ويفيدنا أهل المعرفة، في مثال صغير، على أنه من أصل ستة آلاف منزل دمشقي قديم، عريق، وجدوا لحظة إستيلاء العسكر على السلطة في بداية الستينات من القرن العشرين، المنصرم؛ فقد أضحتِ المدينة القديمة خالية ً من معظمها. علاوة على أنّ أهلُ السلطة هؤلاء، من المستوطنين الجدد، إستولوا على الكثير من البيوتات الدمشقية، المتبقية، وبمختلف الذرائع؛ محولين إياها إلى مطاعم ومنتديات ومشاغل فنية.. وغير ذلك من المشاريع الإستثمارية التجارية. وعودة إلى ما إنقطع من تاريخ المدينة، العثمانيّ، لنتابع في ما أسلفنا من قوله، عن تماهي البيوت الشامية بمسحة من الرثاثة. وإستطراداً، فغنيّ عن التأكيد أنّ أهلُ السلطة، العثمانية، زمنئذٍ، ما كانوا بحاجة لمثل ذلك التمويه : ها هيَ دورهم وقصورهم، تتراءى للناظر من وراء الأسوار الحجرية وبواباتها المرخمة. لقد كان الولاة العثمانيون أسوة ً حسنة، في هذا المقام؛ بما غالوا به من مظاهر البذخ والإسراف، مستهترين بمشاعر الرعية الفقيرة. إسترعتْ قصور أولئك الولاة والموظفين الكبار، العثمانيين، إنتباه الرحالة الأجانب، ممن سجلوا في تذكراتهم إنطباعاتهم عنها. لا ريبَ أنّ قصر العظم، كان وما فتا أشهر تلك العمائر الشامية. إنه السكن الفاره، الباذخ، الذي كان منذوراً للوالي المهيب أسعد باشا العظم؛ فلم يتورع في سبيل إنشائه، عن قلع أعمدة حجرية من مدرسة الملك الناصر الأيوبي، بحسب إفادة شيخنا البديري؛ الإخباري الدمشقي من القرن الثامن عشر (5). بدورهم، ما كان سليلو ملكنا الأيوبي؛ من أرستقراطيي دمشق، الكرد، بأقل ترفاً من زملائهم، الترك. إن دور الأولين، المتناثرة في أحياء المدينة القديمة، يُشهد لها أيضاً بالفخامة والوجاهة والنيافة؛ كقصر الكنج يوسف باشا الكردي ( توفيَ في 1814 )، وقصر الزعيم سعيد باشا شمدين ( توفيّ في 1896 ).
إختتمتْ جولتي هذه، عبرَ دمشق القديمة، بصدفةٍ سعيدة. إذ علمتُ وقتئذٍ من إحدى قريباتي، بعمل شقيقة زوجها في ترميم القصر " الشمديني "، آنف الذكر. هذه التحفة المعمارية، تم تحويل صفتها من سكن أرستقراطيّ إلى متحف للعموم؛ بإسم " البيت الشامي ". توجهتُ إليه، في يوم خريفيّ، جهم. وبما أنّ القصرَ من ذخائر حيّ " سوق ساروجة "، النبيل، رأيتني أتدرجُ إليه راجلاً بعيدَ خروجي من إحدى زيارتي اليومية، الرتيبة، لمكتبة " الظاهرية ". يبدو أنّ النعتَ المستجدّ لذاك الأثر، ( أيْ " البيت الشامي " )، أسهمَ في سوء تقديري له. إذ إعتقدتُ أنه مجرد منزل جميل، يخصّ أحد الموظفين العثمانيين، الأثرياء. إلا أنني بوغتُ لحظة دلفي للمدخل المودي للمكان الموصوف، بمشهدَ قصر منيف، متكون من دوريْن للحرملك والسلاملك. ضافرَ تصوري للصفة هذه، ما كان من إحداقي لبوابته العظيمة، المفتوحة على باحةٍ مبلطة بالرخام المعرّق. أعمالُ الترميم، كانت في نهاياتها؛ مما شجعني على طرح الأسئلة على بعض منفذيها، من مهندسين وفنيين. كان القصرُ، كما نوهنا آنفاً، من ممتلكات الوجيه الكرديّ، سعيد باشا شمدين، عميد الأسرة الدقورية الدمشقية؛ الذي شغل مناصب رفيعة في الدولة الهمايونية، كان آخرها إنتدابه لعضوية مجلس المبعوثان في الآستانة. ثم أضحى المسكن ميراثاً لسبط الباشا؛ عبد الرحمن بك اليوسف، عميد الأسرة الزركلية. الأرجح أنّ هذا الأخير، قد إمتلك القصرَ في ذات الفترة تقريباً، ( 1885 )، التي ورث فيها جدّه ذاك، في منصب الإمارة الشامية للحجّ، والتي منحَ فيها أيضاً رتبة الباشوية (6). تنقلتُ من مجال النظرية إلى مجال النظر، شاملاً المكانَ بإلماحة من بصري، المبهور : البركة الكبيرة، ذات الشكل الهندسيّ، البيضويّ، كانت أول الموجودات الملفتة إنتباهي؛ بمياهها النقية المتدفقة من النافورة، وأصصها الفخارية، الملونة، الضاجة بتلاوين أزاهيرها؛ إلى ما يحيطها من أشجار الحمضيات، المزدهرة، الوارفة الظلال والعَبقة بالمشام، العذب. في صدر الدار، ثمة إيوان باذخ، شاهق علوّ السقف، يتوسط قاعتيْن كبيرتيْن؛ وهما بدورهما، يشكلان الجزء الأساس من القسم المعروف بـ " السلاملك "؛ أو المكان المخصص للضيوف، المذكري الجنس. أما الأنوثة، فلها مكانها المترفل في الطابق الثاني، المحجوب؛ والمنعوت بـ " الحرملك ". كل ما في القصر من إيوان وحجرات، مختلفة الإستعمال، ذاخرٌ بالرسوم والنقوش والزخارف واللوحات الحجرية، الموشاة بآيات قرآنية أو أبيات شعرية. الجصّ، من المواد الأثيرة، في المعمار الشامي. إنه هنا، كتشكيل زخرفيّ متعدد الوجوه، وخصوصاً في القوس الحجريّ للإيوان. يلاحظ المرءُ، كذلك، الصفة الاخرى، المميزة لتلك العمارة؛ وهيَ طريقة " العجمي "، لتزيين الأسقف بالنقوش الرائعة : فما كان غريباً، والحالة هذه، أن تحظى الطريقة بإشتقاق لغويّ، مستعيد لصفة السجادة العجمية. ها هنا، تحت سقف الأيوان وفي ظل قوسه، أتأملُ مثوى الأسلاف وأثالهم : أتأملُ شبحَ الباشا، الكرديّ، وهوَ يشنف سمعه، مزهواً، لشاعره الخاص؛ الشيخ محمد الهلالي الحموي، الذي إعتاد إنشاده قصائدَ معصومة في المناسبات، السعيدة. على مقربة من هذا المكان، وفي مناسبة اخرى، جدّ حزينة، تنتمي للقرن اللاحق، كان كردُ دمشق يؤبنون أميرهم جلادت بدرخان ( توفي في 1951 ). هذا الأميرُ العلامة، الذي كان صديقاً وفياً للإقطاعي المعروف حسين بك الإيبش، صاحب القصر المجاور، ومن كان قد أصرّعلى أن يحتفي في ربوع باحته الفسيحة، المرخمة، بذكراه السنوية الأولى.
هوامش القسم الأول
1 ـ الفارس دارفيو، وصف دمشق في القرن السابع عشر ـ الطبعة العربية في دمشق 1982، ص 39 2 ـ جمال الغيطاني، قاهريات ـ القاهرة 1984، ص 22
3 ـ الشيخ البديري، حوادث دمشق اليومية ـ تحقيق وطبع في القاهرة 1959، ص 26
4 ـ الفارس دارفيو، مصدر مذكور، ص 37
5 ـ الشيخ البديري، مصدر مذكور، ص 155
6 ـ يوسف الحكيم، سورية والعهد العثماني ـ بيروت 1980، ص 58
*****
القسم الثاني
عبْرَ الحيّ الكرديّ
"وبالقرب من المكان السابق، توجد قرية تسمى (الصالحية)، تقبع على منحدر هضبة، حيث ينبسط من هناك مشهد الريف كله، وكم هو جميل وغنيّ ومتنوّع. وفي الصالحية هذه، يمتلك غالبية أعيان دمشق بيوتاً للنزهة، وهي جميلة ولطيفة جداً، سواء للمشهد الذي تطل عليه، أو للحدائق التي تجاورها، ناهيك عن المياه العذبة الرقراقة الجارية في جميع أنحاء الهضبة " (1). هكذا يلخصُ الرحالة الفرنسي، دارفيو، مشاهداته في الصالحية. وبغض الطرف عن مبلغ إعجابه بمناظر تلك الضاحية الدمشقية، الجميلة، تستوقفنا هنا ملاحظة هامة: وهيَ أنّ الصالحية، في زمن رحالتنا هذا، ما كانت أكثر من " قرية "؛ ملاحظة ٌ تلخصُ، بدورها، ما طرأ على أحوال ضاحيتنا، إثرَ مرور قرن واحدٍ حسب، على الإحتلال العثماني لسورية. لنتذكرَ وصفَ إبن بطوطة، الرحالة المغربيّ من القرن الخامس عشر، لأرباض دمشق؛ وفيه قوله عن الصالحية، بأنها: " مدينة عظيمة، لها سوق لا نظير لحسنه " (2)، كيما نقدّر ما ألحقه الأتراكُ من مضرة فادحة بهذه الحاضرة الأيوبية، العريقة. هذا، دونما إغفال حقيقة اخرى؛ وهيَ أنه في زمن بني عثمان هؤلاء، تحديداً، أضحَتْ الصالحية هيَ النواة الاولى للحيّ الكرديّ، " ركن الدين "، الواقع في الحدّ الشرقيّ منها.
ساحة " شمدين آغا "، هيَ بطنُ الأم الاولى؛ الصالحية، الذي حملَ جنين حيّنا. من هذا المكان، تتنوّق جولتنا الشارعَ المعروف في محكيتنا بـ " الطريق السلطاني ". لربما تقمّصَ الشارعُ نعتَ السلطان الأيوبيّ، الناصر؛ بما أنه ما فتأ يحملُ إسمَ عمّه الكبير " أسد الدين شيركوه ". وعلى كل حال، لا بدّ من العودة إلى عصر أكثر تأخراً، ما دامتْ خطانا تتنقلُ رخية ً، مطمئنة، عبرَ حيّنا الكرديّ هذا. قلنا أنّ ساحة شمدين آغا، في طرف الحيّ الغربيّ، القصيّ، كانت موئلَ جولتنا. فلنغذ السيرَ، إذاً، خلل الطريق السلطانيّ المتناثرة على جانبيه ظلالُ المحلات المتنوعة؛ من دكاكين ومتاجر ومطاعم ومكاتب.. وغيرها. هدوءٌ من المنازلُ القديمة، الوادعة؛ بشرفاته ومشربياته وأشجاره وتعريشاته، يتراءى من خلف تلك المحلات الضاجّة بصخب حركتها، التجارية. ثمة عمارتان، عملاقتان في نسبة عمارتنا المحلية، يرخي كل منهما أناقته، وعجرفته ربما، على ما يحيطه من مبان سكنية. في أصل هذا المكان، تتجذرُ ذكريات بيت عريق، دمشقيّ، عجلتْ بنهايته، المحزنة، عشوائية التخطيط السكنيّ، الحكوميّ، المتحالف مع جشع الإنسان: ها هنا طيفٌ من شمدين آغا؛ الزعيمُ الكرديّ، الذائع الصيت في تذكرات التواريخ العثمانيّ لمدينتنا؛ طيفُ منزل، لا أكثر. أتذكرُ رهبة طفولتنا، في مرورها بهذا المكان. كان البيتُ آنئذٍ شبه مهجور، يسدلُ على أسراره الحجرية بجدران عالية، صمّاء، ذات عيون ملغزة لشبابيكه الرثة، المتشابكة قضبانها الحديدية، والمطروقة رؤووسها كأسنة الرماح. يبدو أنّ شكلَ البيت قد توائمَ أكثر من مرة، مع قدَره. ففي إحدى جولات منشئه، التاريخية، كاد أن يغيب في إندثار كامل إثرَ حريق أتى على معظمه. حصل ذلك في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، حينما غزا دمشقَ الفاتحُ المصريّ إبراهيم باشا، فإنصاع لإرادته العامّة والخاصة: وحدهُ، شمدين آغا، من تحدى ذلك الفاتح، خضوعاً لإرادة الباب العالي (3). إلا أنّ تعويل َ الآغا الكرديّ على مقام سلطانه في الآستانة، كان فيه كثير من سوء التقدير. المهم، أنّ منزل شمدين آغا هوَ الذي دفع ثمن عصيان صاحبه، الغائب، الملتجيء لحمى العثمانيين. بيدَ أنّ الأمر سويّ بين المتخاصمَيْن، بوساطة ما. ليتناهض من ثمّ المنزلُ " الشمدينيّ "، من ركام إندثاره إلى تمام أثاله وإزدهاره: وبلغ في ذلك شأواً متشامخاً، أنّ قاعته الرئيسة، المزخرفة، كانت هدية شخصية من الفاتح المصريّ، الذي أمر ببنائها كنسخة مطابقة لمثيلتها في قصره، القاهريّ؛ حتى أنّ المسؤولين عن آثار دمشق، إرتأوا في مستهل سبعينات القرن المنصرم، نقلها إلى المدينة القديمة؛ لتعرف الآن بإسم " القاعة الشامية ". (4)
ثمة دور عديدة، في حيّنا، لم تقلّ رفعة عن منزل شمدين آغا؛ كبيت محمود باشا بوظو، أمير الحجّ الشاميّ، وبيت علي زلفو آغا، الوجيه المعروف. الأول، ما زال قائماً حتى اليوم، وقنطرته المميزة هيَ بمثابة مدخل للزقاق الصاعد إلى الساحة الشمدينية تلك. يخيّل للمتأمل عمارة البناء، أنه بإزاء قلعة حصينة؛ بما يطالعه من واجهته العالية، الكامدة، وأجزائه المتعددة المطل بعضها على كرم كثيف للصبار، المحدقُ بدوره بضفة نهر يزيد: كانت مدرسة " ستّ الشام "، (الحاملة إسم شقيقة صلاح الدين)، متركنة في أحد أجزاء بيت بوظو هذا؛ المدرسة الإبتدائية، الأولى في الحيّ، الأثيرة ذكرياتها لجيل أمهاتنا. هنا، في غربتنا السويدية، تستعيدُ والدتي مشهدَ أحد العصاري، حينما أصرّت صديقتها، الحميمة، ملك زلفو، على أن تصطحبها إلى دارها، الواقع في جادة " بكَاري ". تنزلق وزميلتها هذه من سيارة العائلة، الخاصة، بمعونة من السائق الأسمر البشرة، ثمّ تدلف إلى حرمة المنزل، المنيف، الذي تطأه للمرة الأولى من عمر صداقتها لإبنته. ثمة، في الباحة المرخمة، كان علي زلفو آغا في إستقبالهما وهوَ متكأ على حافة البحرة الكبيرة، المتراقصة الأمواه. وهناك أيضاً، إجتاح أمي إحراجٌ متماهٍ بخجل ماحق لسنوات عمرها الست أو السبع، فيما كانت تتلقى أسئلة الآغا، المجاملة، دونما ان تجرؤ على التطلع إلى هيئته المتسمة بالهيبة والصرامة. تدور الحياة في دورتها، المعتادة، وأجدني بعدئذٍ في نفس عمر أمي الطفوليّ، تقريباً: ألجُ المنزل نفسه، الذي كانت الدولة قد إستأجرته من أصحابه وحوّلته إلى مدرسة إبتدائية، حملت إسم " محي الدين إبن عربي "؛ قطب الصوفيّة. المنزل يقومُ على دورَيْن، علوي؛ ويصعد إليه بوساطة درج حجريّ، ضيّق، يؤدي إلى عدد من الحجرات، التي كانت مختصة على ما يبدو برهن " الحريم " لعزلة شبه مطلقة. أما الدور الأرضيّ، فهوَ يستقبل الداخل إلى الدار بباحته الصغيرة، المرخمة بحجر المرمر الناصع. تكاد هذه الباحة لا تحوي سوى غرفة لا تقل صغراً عنها؛ شُغلت في زمن سنتي الإبتدائية، الأولى، كمقر للإدارة: ذلك المكان الغريب، الموحش، غيرَ الممكن لي نسيانه، والذي شهدَ مدافعتي لأبي على بابه، فيما كنتُ باكياً ملتاعاً مروّعاً، أستعطفه إعادتي إلى طمأنينة بيتنا. إنه نفسُ المكان، المقدّر لي إثرئذٍ أن أخلد فيه إلى الهدوء المُطمْئِن نوعاً، إثرَ ملاطفة من المدير، الأستاذ عز الدين ملا، صديق والدي. ومن رهبة الخطوة الأولى، إلى ما تلاها من خطىً أكثرَ ثقة، فيما كنت يومئذٍ أتنقل من باحة المدرسة الصغرى، هابطاً الدرجات العريضة، إلى باحتها الكبرى، التي كانت على الترخيم، الفخم، ذاته: بحيرة بيضوية، على جانب من السعة، تتوسط تلك الباحة، وتقابل الإيوان الفسيح، المسقوف، والفاصل بقوسه الخشبيّ بين حجرتيْن كبيرتيْن. ثمة حجرات اخرى، أقل شأناً، في محيط المكان؛ ربما إستعملت في زمن الآغا، السعيد، كغرف للمطبخ والخدم والمؤونة. دورة المياه، القذرة دوماً، يفضي بابها الخلفيّ إلى جنة الدار؛ الحديقة الغناء، المنقسمة إلى جزئين. كان الجزءُ العلويّ، على شكل مصطبة مستطيلة، متربة، معدة لألعابنا الرياضية. أما الجزء السفليّ، فمترع حتى حافة ثمالته، بالأنواع المختلفة من الشجر المثمر؛ كالتين واللوز والأكيدنيا والتوت والحمضيات والتفاحيات، علاوة على الخمائل والعرائش المترامية حتى أحضان ضفة نهر يزيد: لم يبق أثرٌ لذلك الجمال، جميعاً؛ لا الدار ولا دررها. حلتْ علبُ الإسمنت المسلح، بمَحل المنزل الدمشقيّ هذا، الأثريّ؛ وغطتْ فظاظتها، أيضاً، على آثار طفولتنا.
مشاهدٌ اخرى، منذورة للحنين، هيَ ذي؛ منبجسة ٌ من الضباب المهيمن على الذاكرة. هكذا رأيتني، أعودُ بأجنحة عقدَيْن من الأعوام، التائهة، لأحلق في سماء مسقط رأسي، حاطاً من ثمّ على هضبة حيّنا، الأعلى، المحتضنة تربة " النقشبندي ". ثمة، بين الأضرحة الرخامية والحجرية والإسمنتية والترابية؛ هناك، بين ألوانها الموزعة بمساواة على تدرجات الأبيض والأخضر، كانت خطى جولتي متسامقة نحو المقام الأكثر بروزاً وهيبة وجلالاً: مقام قطب النقشبندية؛ الشيخ خالد الشهرزوري الكردي (توفي عام 1826). قبته الخضراء، تتشامخ على ما يحيطها من خلاء؛ قبة ٌ، كرأس أبي هول، حجريّ، يحرسُ موتانا. " يا أيها الزائر الكريم، إقرع الباب ": جملة ٌ مستحدثة، مدهونة بخط أسود، قبيح، تستقبلكَ قدام باب المقام. أقرعُ إذاً ذلك الباب الحديديّ، المقوّس، ذي الصبغة البنيّة، ليفجأني ظهورُ رجل بمقتبل العمر، أناقته لا تنتمي بصلة لعالم المتصوفة، وكان يحفّ به موكبٌ من الأطفال: " يا الله، يا الله !..، إفتحوا الطريق ! "، يوجهُ رجلنا نداءه إلى من في الداخل، من الحريم، قبل أن يفسح ليَ موطئاً للدخول إلى حرمة المقام. طريقة النداء ولهجته الدمشقية، المعتقة، أوحتا إليّ بأنّ الدار مقطونة من عائلة أو أكثر؛ من سلالة النقشبنديّ، ربما، أو من أخلافه المعينين على شؤون وقفه. صراخ الأطفال من حولي، أيقظ في ذاكرتي صراخاً مماثلاً، إلا أنه أشدّ لوعة ومرارة. كنتُ بعمر أصغر أولئك الصبيَة، حينما تناوبتْ كلا عمتيّ على إصطحابي إلى المقام المقدّس، الأثير لدى الأهلين بشفاعة شيخه، قدّس سرّه. لم أفقه وقتئذٍ سبباً لذلك البحران النائح، من لدن هذه العمة أو شقيقتها، المستصرخ روحَ الحضرة: فيما بعد، حينما طوت التربة نفسها جسدَ الواحدة منهما تلوَ الآخر، جازَ لعلمي الإحاطة بمأساة عائلية، متكررة في كلّ مرةٍ، كلعنة.
أتجاوز على أيّ حال، المدخلَ. تلوحُ لي بركة مستطيلة الهيئة، يبدو من وسع حجمها أنها إستعملتْ كميضئة، فيما مضى. ويعزز هذا الإعتقادُ كونَ التكية، تاريخياً، بصفة المسجد المقتصر إرتياده على المريدين؛ أولئك الدراويش المجذوبين، ذوي الأسمال المهلهلة، المخصص لإقامتهم مقصورات مناسبة. بيدَ إننا للحقيقة، لا نعلمُ متى أقفر المقام من دراويشه، فكفتْ من ثمّ أناشيدُهم الشجية، الغامضة، عن التناهي إلى الأزقة والحواري، المشمولة بالعتمة. ولكننا على علم بالتواريخ، على الأقل، والمفيدة بأنه سبق للسلطان عبد المجيد الثاني أن تكرم على رعيته من أتباع الطريقة ببناء هذا المقام في عام 1847 (5)؛ الطريقة النقشبندية، التي كانت زمنئذٍ واسعة الإنتشار في عموم السلطنة، حتى ويقالُ أنّ الباب العالي نفسه، كان من مريديها. وفي هذا المقام، يمكن التأكيد بأن النموذج العثماني لبناء التكية، على شيء من التأثر بما سبقه من النموذج الأيوبي / المملوكي. إنّ خلوَ ذلك المقام من الزخارف والعقود، علاوة على المادة الخشبية للقبة المرتكزة على قاعتها الحجرية؛ كل ذلك يشي بتدهور المستوى المعماري في دولة بني أيوب. إلا أننا سنكون على حذر، لدى إطلاق أحكام تعميمية. يسترعي كذلك إنتباهنا هنا، أنه في هذه الدولة، الهمايونية، قد أستعيض بالتكايا عن المدارس، المميّزة للعصر الأيوبي / المملوكي. مع أنه تبقت بعض المدارس من زمن العثمانيين، إنشيء معظمها في عهد ولاة أسرة " العظم "، المعروفة (القرن الثامن عشر). ومن تلك المدارس، ما كان منها في سوق ساروجة، الحيّ الأرستقراطيّ؛ كمدرسة المرادية، وكان شيخها يُدعى أبو قميص الكردي. وفي المدينة القديمة، مدرسة الشيخ عبد الرحمن الكردي، في محلة القباقيبية (6). هذا مع الجزم بأن التكايا، (أو " الخانقاهات "، بلفظ ذلك العصر)، المخصصة للطرق الصوفية، ليست إبتداعاً عثمانياً. ولدينا شهادة الرحالة الأندلسي، إبن جبير، الذي سبقت جولته جولتنا هذه بأكثر من ثمانية قرون. ها هوَ يتنعّم برؤية دمشق، في زمن صلاح الدين، وينوّه بفضل السلطان على الصوفيين، حدّ المبالغة بالقول أنهم: " الملوك بهذه البلاد، لأنهم قد كفاهم الله مؤن الدنيا وفضولها.. وأسكنهم في قصور تذكرهم قصور الجنان " (7). ومفردة " خانقاه "، التي تأخذ بالعربية معنى التكية، محرفة من الكردية " خانكَه "؛ وتعني زاوية، رباط. وكانت الخانقاهات شائعة في زمن بني أيوب، كزوايا للدراويش؛ ومنها الخاتونية والناصرية، في حيّ الصالحية. غير أنه تبقى الحقيقة، المفصحة عن كون هذا النمط من المعمار الإسلاميّ، أضحى سمة لما نعرفه عن المنشأة الدينية، العثمانية: ولنتذكر أنّ التكية السليمانية، المشهورة في دمشق، هيَ نسخة مطابقة بهذه الدرجة أو تلك، للتكية السنانية في إستانبول؛ بقبابها المتعددة، الرقيقة، ومآذنها النحيلة. ولا يمكن للحديث عن العمارة العثمانية، أن يكون بمعزل عن تقليد بناء نزل التجار (أو " الخانات "، بلفظ ذلك الزمن)، المزدهر زمنئذٍ: ومن الذين إهتموا بعمارتها، كان الوالي أسعد باشا العظم، الذي يحمل إسمَه الخانُ الكبير في محلة البزورية. جدير بالذكر، أنّ لامارتين، الشاعر الرومنتيكي الفرنسي، كتب بإعجاب عن هذا الخان، اثناء رحلته المشرقية، بحدود العام 1760. (8)
وكما تنتهي الأجسادُ الإنسية، الفانية، في ملكوت الموت؛ هاهيَ جولتنا بدورها، تتناهى إلى خاتمتها على طريق اليقين هذا: أجدني في محيط المقام، النقشبندي، أين تتناثر بكثافةٍ مشهودة، مشاهدُ وأضرحة " كراد الحارَة "، وتغطي التلّ العملاق، المترامي الأطراف. تجلبُ الإنتباهَ أضرحة خلفاء مولانا خالد، النقشبنديين، الملتصق بعضها بجدران مقامه. وعلى بعد أمتار قليلة، يثوي جدث بدرخان باشا (توفي عام 1868)، أمير " بوطان " الشهير، الذي أماد الجبال الكردية تحت أقدام السلطنة العثمانية. حفيداً إثرَ الآخر، إنضمّ جلادت بك وزوجه، روشن خانم، إلى رقدة جدهم الكبير هذا. كذلك يحدقُ بالضريح نفسه، قبورُ بعض صانعي النهضة الكردية، التي شهدتها دمشق في النصف الأول من القرن العشرين؛ قبورٌ، شاءت وصايا قاطنيها، في حياتهم، أن تحمل شواهدها كتابة وقصائد، كردية، مرقشة بأحرف لاتينية. مقام مولانا، إذاً، ذاكرة لأكثر من عصر. فما فتأت إحدى حجراته الرطبة، الضيقة، تأتلفُ بآثار " نالي " (توفي عام 1857)؛ أكبر شعراء الكرد الكلاسيكيين، المتغنين باللهجة السورانية؛ ومن كان مجاوراً في المقام لسنين ثلاث، قبيْل إرتحاله، الأخير، إلى الآستانة. وبعكس تلك الرحلة، شاءَ قدَرُ الأمير جلادت بدرخان (توفي عام 1951)، أن تكون ولادته في الآستانة نفسها؛ في قصر عمّه الباشا، المتنفذ في البلاط، ليلتجيء من ثم ّ في شبابه إلى الشام، وبعد حياة حافلة يغمض عينيه أبداً، تحت سمائها. ثمة في المكان المخضوضر، على ضفة يزيد، جذورٌ متبقية من ذكرى أميرنا هذا، متواشجة مع جذور أشجار دار زلفو آغا؛ أين قضى الأول في ضيافتها، الأشهر الأولى من إقامته بدمشق.
هوامش القسم الثاني:
1 ـ الفارس دارفيو، وصف دمشق في القرن السابع عشر ـ الطبعة العربية في دمشق 1982، ص 52 2 ـ رحلة إبن بطوطة، تحقيق وطبع ـ القاهرة 1967، ص 61 ج 1
3 ـ يوسف جميل نعيسة، مجتمع مدينة دمشق ـ دمشق 1986، ص 480 ج 2
4 ـ عز الدين ملا، حيّ الأكراد في مدينة دمشق ـ بيروت 1998، ص 59
5 ـ الشيخ الشطي، أعيان دمشق في القرن الثالث عشر ـ تحقيق وطبع في دمشق 1973، ص 291
6 ـ الشيخ البديري، حوادث دمشق اليومية ـ تحقيق وطبع في القاهرة 1959، ص 144
7 ـ رحلة إبن جبير، تحقيق وطبع ـ بيروت 1964، ص 256
8 ـ يوسف جميل نعيسة، مصدر مذكور، ص 184 ج 1