كتَّاب إيلاف

متى يبدأ التحديث والتغيير الحضاري؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ثمة أسئلة خطيرة طرحتها في مقال لي نشر في صحف عدة 18 نوفمبر 2002 بعنوان: " حقيقة مشروع " تغيير العالم ": متى يفهمها العرب دولا ومجتمعات؟ "، واعيد اليوم اثارتها من جديد نظرا لما شهدته وتشهده منطقتنا من الاحتقانات والاحتلالات والمتغيرات العنيفة والانتكاسات المريرة التي تصيب بنيتنا الفكرية وشرائحنا الاجتماعية وفئاتنا السياسية وكل القوى السلطوية في دول المنطقة.. وهل ستبقى الافكار عن " الاصلاح والتغيير " غير مدركة ولا يتم الوعي بها على درجة من اللقانة والنضوج؟ هل سيبقى الناس يعتقدون بأن التغيير هو مجرد انقلاب عسكري او احتلال اجنبي او رجس من عمل الشيطان؟ انها اسئلة لابد أن يسألها عدد كبير من معشر المثقفين الذين ربما اختلفوا في رؤاهم عن معاشر السياسيين حيال ما يخبأه المستقبل لهذه المنطقة التي لم تؤسس حتى يومنا هذا طريقها نحو المستقبل لا على مستوى المبادئ والدساتير ولا على مستوى المؤسسات والمجتمعات ولا مستوى التفكير وتنمية الذهنيات! ثمة أسئلة تنتظر أجوبة وافية عليها من دون أي التواءات ولا أي تبريرات ولا إيجاد أي منافذ للهروب، خصوصا، وأننا نعيش في عصر تتسابق فيه المصالح الدولية وتتزايد فيه التحديات العولمية وتتنافر فيه البشاعات وتختلط فيه الرؤى، وتتباين فيه الاتجاهات وتزّيف فيه المعلومات من خلال الإعلاميات الإلكترونية والميدية المتنوعة والأجهزة الخفية المتسّعة والمضادة!

الى متى تبقى " الامة في احلك ظروفها "؟
لقد كنت ولم أزل اسمع -على امتداد حياتي - عبارة مهمة وخطيرة تقول بأن " امتنا تمر في أحلك ظروفها " إذ لاكتها عدة أجيال مّنا سواء كانت تتضمنها خطب الأجداد قبل قرن من الزمن، أو في كتابات الآباء قبل نصف قرن منه، أو في أقوال الرصفاء قبل ربع قرن! وها نحن اجتزنا الزمن وتخضرمنا بين قرنين اثنين، ولما نزل نسمع ونردد " العبارة " نفسها! وستبقى الأجيال القادمة ترددها نفسها وتلوكها وكأنها غدت مستهلكة لا قيمة لها أبدا، هي والمصطلحات التي ترافقها، مثل: المخاطر والتحديات والأزمات والمشكلات والمعضلات.. الخ إنها وايم الله كلها صحيحة ما دامت المنطقة التي تحتل قلب العالم وان ابناءها وابناء عالم الجنوب والعالم الاسلامي كله لم يستجيبوا حتى يومنا هذا لتلك التحديات بتأسيسهم تاريخ من نوع جديد، ولم يعيدوا منهج العقل وتنمية العقل والتفكير معا.. كما وانهم لم يجدوا لهم حتى اليوم علاجات جذرية واقية وحدود دنيا من الحلول العملية التي ربما يعرفها الجميع ويتداولها أولئك الذين يفكرون بالمصير التاريخي الذي ينتظرنا جميعا! ان عملية الاستجداء الحضاري من جانب وعملية النفخ في قربة مقطوعة سوف لن تنفع عالم الجنوب ابدا ما دام سيبقى رهين التقوقع والتمزق امام قوى التكتلات الجبارة التي باستطاعتها ان تسحقنا كل يوم من كل النواحي. ان أي مشروع استراتيجي دفاعي ينبغي ان يكون ملكا لكل المنطقة لا ان يكون حكرا على دولة واحدة ليس لها الا التهديد وتصدير الكراهية وبث الفرقة.. ان المصالح العليا لكل منطقتنا ينبغي ان تكون في سلة واحدة بعيدا عن المنازعات والمناورات واساليب الثارات والمطامع والاستحواذ على الثروات.
ان الخديعة لابد ان يلغيها التفكير في منطقتنا، فليس كل من بنى سلاحا جديدا او اطلق صاروخا عابرا او اسس جيشا عرمرما انه نجح في التغيير والاصلاح والمشروع الحضاري! ان تجارب منطقتنا في هذا الامر تنبؤنا ان الاعلام يضخم الاشياء ويخدع الناس، بل وان الاعلام العالمي يلعب بمصائر الدول والشعوب اذ يحسب هؤلاء انهم قادرون على المجابهة وفجأة يجدون انفسهم يجلسون على حوافي العصور الوسطى وقد سحقوا سحقا! ان التطوير في التسلح لا يمكن ان يتم بمعزل عن تطوير في الحياة وتنمية للمجتمع وصناعة للقوى البشرية الفوقية والتنظيم والديمقراطية في الحياة وتوفير مستلزمات الحياة الحرة الكريمة.. والا نكون قد مررنا بتجارب دول معروفة سقطت منذ اللحظات التاريخية الاولى.. والمشكلة فقدان الثقة بالمشروعات الاقليمية المدمرة التي تسحب الاخرين للمرور بها والاحتراق معها.. انني لا يمكنني ان اتّخيل بدا ينسحق ابناء شعبه يوميا والسلطة فيه تبني مشروعات نووية قاتلة وتدخل نفسها في مواجهة مع الاقليم والعالم والنتائج معروفة سلفا!

انتحار الارادات واعادة إنتاج المستهلكات
ربما يقول البعض بأن الأسئلة معروفة لا حاجة إلى أن نكررها مرات ومرات! وربما يتنادى الجميع بأن الحلول جاهزة لا حاجة للعرب ولمن يشاركهم المصير في هذه المنطقة.. او مع أولئك الذين يعايشونهم في المنطقة بأن يطرحوا البدائل! ولكن دعوني أتوقف عند هامش صغير ومتواضع لابد من التفكير فيه خصوصا وان البعض يطمح اليوم أن تتلاقى كل الاتجاهات والتيارات مع بعضها البعض من دون رصد مسبق كي تنبثق إرادة حضارية جديدة كتلك الإرادة الوطنية والقومية التي شهدت بتاريخها الحافل جملة من الأحداث التاريخية المريرة طوال عقود القرن العشرين بكل انتصاراتها وهزائمها، بل وكانت منطلقا للعديد من الحركات الفكرية والسياسية الساخنة، وكانت مواطنها بؤرا راسخة لعدد لا يحصى من التجمعات والمنتديات والأحزاب السياسية والنخب الثقافية سواء الليبرالية أم الراديكالية والتي لم تنجح ويا للأسف إلا في ترسيخ الحكومات العسكرية والأنظمة الشمولية والدكتاتوريات المنغلقة تحت مسميات وشعارات لا أول لها ولا آخر..
لقد كانت ولما تزل تعيد إنتاج نفسها بنفس الحماس والحيوية والقوة ولكن ليس باتجاه الأنشطة السياسية والفكرية الحضارية الذكية، بل ضمن اتجاهات متخلفة أو أصولية مكفهرة وتيارات ماضوية منغلقة وما ورائية بعيدا عن كل قيم التقدم والحرية في الحياة. كما وأنها لم تبق أبدا صامدة بوجه التحديات القاسية التي مرت عليها ولم تتجاوزها مطلقا على غرار بقية المجتمعات الأخرى (وخصوصا مجتمعات المعسكر الاشتراكي الذي عاش في النصف الثاني من القرن العشرين) التي وجدت في مشروع " تغيير العالم " الفرصة الذهبية من اجل تبديل الأنظمة إن لم تكن السياسية نظرا لخطورتها، فالاقتصادية والاجتماعية والثقافية على اقل تقدير وحفلت مجموعة تغييراتها بكل جدارة وقوة.. ولكن خانتها ارادة الغرب بحيث لم تنقذها من حالات القهر الاقتصادي الداخلي ومن تبلور المافيات ومن غلاء الاسعار ومن الفقر وكل ما يسببه هذا وذاك من الانتكاسات الاجتماعية وهذا ما تمر به اغلب دول خرجت عن مسار العالم الاشتراكي اليوم! ان منطقتنا ليست بحاجة الى ان تمر بطرق يرسمها لها الاخر لندخل في ازقة ليس باستطاعتنا الخروج منها، بل نحن بامس الحاجة الى مفاهيم جديدة يخرج عن مألوف ما يذاع ويقال ويكرره هذا وذاك..

الاهتراء يصيب كل المنطقة:
هكذا كان لدى العرب دولا ومجتمعات اكثر من مشروع مستلب من الاخر، فكان عرضة للتهلكة بسبب قبوله نحر الارادات العملية والإنتاجية والإبداعية ومستعد دوما لاعادة إنتاج المستهلكات وبقايا المورثات العقيمة التي لا نفع فيها اليوم مطلقا كما يحدث اليوم في مجتمعات عربية واسلامية والتي كان لابد لها من عمليات جراحية تحديثية واصلاحية على غرار البيروسترويكا والغلاسنوست (= الانفتاح والشفافية واعادة الإصلاح)! كان على الحكومات في كل منطقتنا المعاصرة أن تدرك سرعة التحولات وقوتها في العالم كله. كان عليها أن تفعل شيئا ما بخصوص ممارسة أية أنواع من التغييرات من اجل ما حصل في العالم أجمع وفي كل الاتجاهات ولكن ذلك لم يحدث - مع الأسف -، بل حصل العكس وساد تكريس للسلطة وتوزيع للادوار واستشراء التطرف وتكريس التجزئة ومحاربة الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان وتخصيب النزعة الما ورائية والإنشائيات الإعلامية والخطابات الفضفاضة الفارغة.. بل ووصلت الاوضاع الكلية في بلدان عربية معينة الى حالات جدا مرعبة من الشظف والفاقة والتشرد والتهرؤ والتفكك والتردي وهي التي يعاني منها سكان اغلب البلدان العربية.. ومن دون أي محاولة للاصلاح الذي كان لوم يزل ينادي به اغلب المفكرين العرب المتنورين على الساحة منذ اكثر من عشر سنوات!

التحديات والصعاب لا نواجهها الا بالانقسامات والتناقضات!!
لابد أن نلقي بعدة تساؤلات مهمة في سياق الطرح في أعلاه:
هل ستكون هذه الأقوال كسابقاتها من التصريحات العربية (او غير العربية)؟ هل أنها ستكون مجرد اجتماع رأي للصفوة العليا من المفكرين العرب والمسلمين الذين يعلنون ما يريدون قوله من دون أي دراسة ولا تفعيل ولا توظيف ولا متابعة؟ هل ستكون وجهات نظر تلك الصفوة معبرة عما تريده دول المنطقة أم أنها ستزيد من هوة التناقضات بين ما يطمح إليه المفكرون المستنيرون والحكماء العقلانيون وبين ما يعلنه الشارع السياسي الذي لا يعرف المسكين ماذا يفعل إلا الرجوع والاستكانة بعد هيجانه وقد غدا صوته مبحوحا ومجروحا او مسحوقا؟ وهل تطمح الصفوة أن تجد حلولا سريعة واعلانية وشعاراتية وتكتيكية أم أنها تسعى لأن تؤسس ثوابت استراتيجية من اجل تاريخ جديد لكل المنطقة؟
هل ستوفر دول المنطقة غطاء لنفسها بتأسيس لغة خطاب مشتركة والعمل على ايجاد سياسات غير مضّرة بعضها بالبعض الاخر؟ هل يمكنها ان تتفق سرا على استراتيجية معينة تتوافق فيها على ان لا تعلن واحدتها الحرب على الاخرى؟ هل يمكنها ان تؤسس لاستراتيجية اصلاح شاملة بعيدا عن التنافر الايديولوجي والعقائدي والطائفي وحتى السياسي من اجل درء الاخطار عن المنطقة؟ هل استوعبت بعض دول المنطقة تجارب من سبقها في التسلح والى اين سيقود المنطقة ذلك في خضم احداث عاتية تجتاح منطقتنا التي دمرتها التدخلات الخارجية؟ هل يعي بعض زعماء المنطقة ان التنافر السياسي بين دول المنطقة والتدخلات الاقليمية لا يجدي نفعا للجميع. ولابد من استعادة العقل ولو لمرة واحدة في تكييف حياة المنطقة لمخاطر المستقبل؟ هل تخلصت بعض دول المنطقة من عوامل الكراهية والاحقاد والاطماع التي تكمن في احشائها ازاء مجتمعات الاقليم كله؟ هل تقف المنطقة من محن تصيب مجتمعات المنطقة وشعوبها.. خصوصا اذا ما علمنا بأن التشرذم بدأ يصيب البلد الواحد، فكيف بالمنطقة اجمع؟

دور المؤسسات المدنية والاهلية
وعليه، هل تقبل حكوماتنا كلها بأي دور للمؤسسات المدنية والأهلية لكي تفعل ما تريد في إطار القانون؟ اعتقد إن الوقت قد فات اليوم، إذ غدت التدخلات الخارجية (والأمريكية خصوصا) سافرة بحيث لا يمكن لأي حكومة في العالم اليوم إلا ورعاية مصالحها الحيوية إزاء هذا القادم الجديد الذي افتتح القرن الواحد والعشرين بكل قوة واندفاع وشراسة، ومن المحزن جدا أن هناك من نبّه إلى مثل هذه التحديات قبل حلولها ومنذ سنوات خلت ومن بين صفوتنا العربية والاسلامية المفكرة.. ولكن يا للأسف الشديد لم تلتفت الحكومات العربية ولا مجتمعاتنا إليهم وإيجاد حلول عملية ونوعية للحياة المشتركة، ففات القطار سريعا على الجميع وعبر ولن يتوقف عند جميع المحطات وبسواقه وبكل من فيه من الركاب.. فأين سيصطدم.. الله وحده يعلم!
ولكن السؤال: هل سيتعلم العرب من جملة التجارب القاسية التي مرت بهم في القرن العشرين ولم تزل تمر بهم؟ أبدا، وكأن الله قد كتب على هذه المنطقة أنها لم تعرف الا التصادم والتفكك الجغرافي والسياسي وان هذه الامة العربية لا تدرك من التاريخ إلا داعس والغبراء! اليوم يمر عالمنا في مخاض صعب جدا من التغييرات الإستراتيجية الكبرى التي ستؤثر في مفاصله كلها، خصوصا عندما نعلم بأن سطوة الدولة القوية قد ازدادت وتفاقمت جدا بحكم قوة إمكاناتها وتضخم أرصدتها وتطور كل مرافقها ومؤسساتها وآلياتها ومنتجاتها واقتصادياتها التي شاركها فيه المجتمع جنبا إلى جنب في كل العمليات. فهل ثمة استعدادات حقيقية للاتي من الايام؟ هل انتصرنا للافكار الجديدة في حسن استخدامها؟ هل سينجح مشروع الديمقراطية في مجتمعاتنا اذا ما استغل طائفيا ودينيا وعرقيا وثقافيا وطفيليا وسلطويا وعسكريا.. في دولنا التعيسة؟

تاريخ جديد للعالم سيبدأ العام 2009!
كل هذا وذاك يعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك أن تاريخا جديدا قد بدأ وسيبدأ فعلا - في نظري- عام 2009 أي اثر الاقتراب من نهاية العقد الأول من هذا القرن الجديد إذ سنلحظ اختلافا مباشرا عما ألفناه في القرن العشرين من التجارب والأحداث والتفاعلات والآثار.. إنني أجد بأن إرادة الدولة غدت أقوى بكثير من تطلعات المجتمع الذي لم يزل يعتقد بأن صوته له تأثيره وفاعلياته في الحياة السياسية، وهو على خطأ كبير في التقدير وخصوصا بعد مرور القرن العشرين الذي عاش مختلف البدائل التاريخية بولادة وظهور وقوة وموت العديد من الأيديولوجيات والعقائد السياسية التي كنستها اليوم عمليات ما اسمي بـ " تغيير العالم ". وحتى ان بقيت بقايا وترسبات تلك الايديولوجيات، فانها قد اختلفت عن ينابيعها الاولى وتطلعات اصحابها قبل خمسين سنة.. إذ غدا هذا " المشروع " هو المهيمن على هذا العالم لا يسمع فيه إلا صوته ولا يعمل إلا من خلال ما يفرضه على الآخرين من التوجهات والأساليب والمناهج والخطط والعمليات.
لقد بدا واضحا أن كل ما تعبت عليه ومن شأنه دول ومنظومات وتكوينات سياسية وعسكرية وأجيال ممثلة بأحزاب ومنظمات وكتل وجيوش وجماعات ونقابات ونخب وهيئات.. فضلا عما تربت عليه الشعوب من قيم ومبادئ وطنية وقومية ودينية واعراف وظيفية ونقابية ومهنية.. ناهيكم عن أعراف وقوانين ومؤسسات ومنظومات وأجهزة.. كلها لا نفع أبدا فيها، كما أنها لا قيمة لها ولا تتمتع بأي نوع من السيادة والكبرياء وشرف المواطنة وعمل فعل شيء.. لأنها غدت جزءا من تقاليد الماضي التي تعتبرها ظاهرة العولمة اليوم بمثابة موروثات مركبة وتالفة لا دور لها ولا نفع منها اليوم في ظل تغيير العالم المعاصر. وغدت مجموعة القيم والأفكار السياسية والعقائدية لها من الخصوصية التي لا يرى العولميون الجدد إن الشعوب بحاجة إليها.. باستثناء العادات والتقاليد الاجتماعية والفلكلورية فهي جديرة بالانتشار إذا ما رغبت فيها شعوب أخرى. ان شعوب المنطقة مهما كانوا من الغلاة والمتعصبين لمواريثهم، فهم في النهاية اسرى مستهلكين لما تنتجه هذه العولمة الشرسة التي اصابت العالم كله وهزته من اعماقة منذ عشر سنوات.. وستصيب العالم كله متغيرات جذرية عميقة ان لم ندرك مخاطرها وعند ذاك لا ينفع الندم!

سطوة التاريخ وسقوط المستقبل
إنني ادع نفسي كل يوم لوحدها قليلا ليس من اجل مناجاة السماء روحيا فقط، بل من اجل التفكير في الأرض ومصيرها تاريخيا! أفكر قليلا لأدع قرائي الأعزاء يفكرون مليا خصوصا عندما نسترجع ما كنا قد تربينا عليه نحن في القرن العشرين من القيم والثوابت والمبادئ والأصول.. أفكر اليوم كم أصبحت كلها هشة قابلة للانكسار والتفتت في أية لحظة من زمن جائر وعلى أيدينا انفسنا! كيف كانت فكرة الوطن والسيادة وعلم البلاد والنشيد الوطني وجيش البلاد وحرمة الشبر من الأرض والمقدسات والشهادة والجيرة والتعايش والضمير ومصطلحات كالمجد والماضي التليد والزحف المقدس وتحرير الوطن من الغاصب الخ.. اذكر معلمنا كيف كان يقول والوردة البيضاء معلقة على صدره: الوطن كالثوب الأبيض الناصع علينا أن نحافظ على نظافته كيلا تصبه أي بقعة حمراء أو لطخة سوداء لا يمكن أن تمحى عنه أبدا، فنكون قد سجلنا نقطة مشوهة في تاريخنا أمام كل العالم وستحاسبنا الأجيال على ذلك! كنا نسأله ويجيبنا ونحن من اليافعين كيف نحافظ على أسوار الوطن وأسراره من العاديات؟ وكيف نكون أذكياء ويقظين ومنتبهين، فلابد أن نختبئ قليلا عندما تهب علينا العواصف الهوجاء.. وعلينا أن نتحاشى شراسة الخناجر والسكاكين كيلا نتضرج بدمائنا ونفتقد هيبتنا في العالمين!
وعلينا أن نتعامل مع الآخرين بكل مهارة وحذق في الأسواق الفاحمة المزدحمة من اجل النفع العام والصالح العام بعيدا عن دكاكين البارود في ساحات الهرج والمرج، ثم نخرج من تلك الأماكن والثوب ابيض كالقرطاس! وإذا وجدنا أنفسنا والأوحال من حولنا؟ فلابد أن نحذر ونرفع الثوب الناصع إلى الأعلى ونجد طريقا ملتويا قصيرا بعيدا عن كل الأقذار. أما لو تعرض الثوب للتمزق ووهج الحرائق؟ فلابد من اتقاء النار بأي ثمن كان.. فمن سيقي حرماتنا وأجسادنا وجلودنا..؟؟ رحم الله معلمنا كم كان شريفا يقدس الوطن والقيم العليا والصالح العام!

مشروع التجديد والتغيير لا يقترن بأي مشروع امريكي
وأخيرا، متى يدرك زعماؤنا بأن مشروع تغيير العالم لا يمكنهم أبدا مناطحته ومقاومته بمثل أوضاعهم المفككة الراهنة، فلابد من الشروع بمشروعات تغيير وتحولات في تكويناتهم وبنيوياتهم وأفكارهم وأنشطتهم ومؤسساتهم وأجهزتهم.. ولينظروا إلى ما يجري في كل العالم من تغييرات، وآخرها ما حدث قبل أيام في الصين من تحولات جوهرية! وعلى كل انسان واع ومدرك لاتون الحاضر ومخاطر المستقبل ان يتوقف عن الردح ليعالج الامر بمنتهى الحكمة والصبر واحترام الرأي الاخر.. لقد شهدنا منذ خمس سنوات واكثر بأن كل من يدلي بفكرة الاصلاح يتهم انه يمالئ امريكا وخططها في المنطقة.. وانني اعرف بعض الاخوة من المفكرين العرب من يحجم الان على طرح موضوع الاصلاح كيلا يتهم انه مشروع امريكا في المنطقة.. ان مصيبتنا لم تزل رهينة بايدي المتخلفين والمتعصبين لافكارهم الجامدة وتقاليدهم القديمة التي تجاوزها الزمن وما زالوا يتعبدون في اروقتها ليل نهار.. والاهم هنا التأكيد على تساؤل يقول: متى سينفصل في الذهن العربي والاسلامي اقتران مشروع الاصلاح والتجديد والتغيير بأي مشروع امريكي او غربي؟ ان الخروج من سجن هذه الفكرة المقيتة ستحرر الانسان وستطلقه كي يتعامل مع كل العالم ويتعلم من كل تجارب العالم لبناء المستقبل بمعزل عن فكرة الهيمنة وبمعزل عن فكرة أي مشروع امريكي او غير امريكي.

وأخيرا: ما القول.. ما العمل؟
وهنا ماذا يمكنني قوله في نهاية المطاف؟
انني استطيع ان اعيد ما قلته في آخر مقال لي عن تغيير العالم نحو الافضل (البيان، 1 نوفمبر 2006).. قلت: " إن العالم بالرغم من إيمانه بالديمقراطية كأسلوب حياة وتعامل وتربية وأصول وثقافة واسلوب حياة، فان تجاربها السياسية تكاد تكون فاشلة في أجزاء متنوعة من عالم الجنوب، ليس لما تحمله من مبادئ ولكن لسوء الخطاب الذي يسوقّها سريعا في مجتمعاتنا أولا، ولسوء أساليب استلابها وتطبيقاتها بشروط طائفية أو عرقية أو مذهبية أو عشائرية أو طفيلية بدائية ثانيا.. مما افقد الناس الثقة بها خصوصا وأنهم لم يتربوا على أية مبادئ ديمقراطية كالذي عاشته الشعوب الأخرى منذ قرنين. إن من أولوياتنا أن نقّرب حجم الهوة بين عالمي الشمال والجنوب، إذ لا يمكن ان يبقى عالم الجنوب يستهلك المصنوعات ويحرق الزمن ويتنكر للواقع ويهمش الأذكياء ويتلذذ بالماضي ويعشق الذات ويمقت القراءة ويكره الموضوع ويهجر الأوطان ويعبد الانوية ويتلبسه اللاوعي وتفزعه النقدات وتفككه الانقسامات وتشرذمه الطوائف وتستبيحه التناقضات.. وبنفس الوقت على عالم الشمال أن يراعي الحقوق ويساعد الآخر ويتفهم المآسي ويسمح بالانسجام ويكف عن التعبئة والاعلام المضاد ويتوقف عن الغطرسة ويتخّلص من المافيات ويكبت الشرور وينفي الكراهية ويثق بالعالم ويتقاسم المصالح ويراعي فقراء العالم ويبعث الشراكة ويتوقف عن الانتقام ويحترم المشاعر.. إن العالم لا يسير في تغييره نحو الأفضل إلا بعد توظيف خطاب العقل والكف عن غوغائية الضياع.. فهل سترضي كلماتي هذا العالم؟ انه يزداد ضراوة من اجل مستقبل مجهول سيعج بالانهيارات الخطيرة ". وعليه، فان المنطقة بحاجة ماسة الى الاصلاح لمواجهة المتغيرات العالمية.. فهل سيحدث العرب ومن يعايشهم في هذه المنطقة شيئا من هذا القبيل؟ إنني اشك في ذلك!!


www.sayyaraljamil.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف