تركيا: الحسم العسكري الذي طال و...طال!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أنقرة وحزب العمال الكردستاني
مضى أكثر من شهر على قرار وقف إطلاق النار الذي أعلنه حزب العمال الكردستاني تلبية لنداء من زعيمه عبدالله أوجلان، ومن جهات وأطراف اقليمية ودولية منها حكومة اقليم كردستان الجنوبية (كردستان العراق) والولايات المتحدة الأميركية والأتحاد الأوروبي.
الحزب أعلن في مؤتمر صحفي حضره العديد من مراسلي وكالات الأنباء وعٌقد في معقله الجبلي الحصين في منطقة قنديل، عن وقف قواته لإطلاق النار وتعليق كافة خططه وعملياته الهجومية في ولايات كردستان الشمالية. ودعى المسؤول الكبير في الحزب مراد قره يلان الدولة التركية لإقتناص هذه الفرصة، والإرتكان لصوت العقل والحوار مع الجانب الكردي، بغية حل القضية الكردية حلاً ديمقراطياً عادلاً.
قرار حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار من جانب واحد هو الخامس من نوعه خلال تاريخ نضال الحزب، أي منذ بدء المواجهات العسكرية بين مقاتلي الحزب وقوات الجيش التركي عام 1984م. حيث رفض الجيش التركي كل تلك المبادرات السابقة وأصر على منهجه القديم في شن المزيد من العمليات العسكرية وممارسة المزيد من القمع وحملات التصفية ضد نشطاء ومؤيدي الحزب. هذا رغم أن الهدنة أو قرار وقف إطلاق النار الأول عام 1993 كان بطلب من الرئيس التركي الراحل توركوت أوزال، والذي وسطّ الرئيس العراقي الحالي جلال الطالباني لإقناع أوجلان المتواجد آنذاك في منطقة البقاع اللبنانية بإصدار هدنة ووقف الهجمات. وكان الأتفاق أن يٌكمل أوزال
على الجانب التركي، ويسعى لإقناع قادة الجيش بضرورة الموافقة على الحل السلمي والحوار، بدل الحرب والعمليات العسكرية التي لم تأت بالحل منذ تسعة أعوام متواصلة، خسرت فيها الدولة مئات الجنود ومئات الملايين في حربها ضد الكرد في مناطق شمال شرقي البلاد. وفشل أوزال في مساعيه تلك كما هو معلوم، ومات بعد ذلك بأيام عدة، ومازال الكثيرون يعتقدون بأن حادثة موته المفاجئ لم تكن طبيعية، بل دٌبرت من العسكر تدبيراً. وبموت أوزال رجعت الأمور كسابقاتها، وإزداد الجيش التركي شراسة، حيث عبأ فرقه المقاتلة وسيرّها لجبال كردستان، كما دبرت الحكومة محاولة إغتيال إستهدفت أوجلان في دمشق...
القرار الجديد الذي أعلنه العمال الكردستاني، جاء تلبية لدعاوي حل ووساطة من الرئيس العراقي جلال الطالباني ورئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني( وهما من حلفاء واشنطن، ولهما علاقات وصلات قوية مع كبار المسؤولين الأميركان)، بالأضافة إلى تهيئة الأرضية المناسبة أمام عمل اللجنة المكلفة بمتابعة ملف حزب العمال الكردستاني. تلك اللجنة التي تضم ممثلين عن أنقرة وواشنطن وبغداد، فيما أنضمت أربيل مؤخراً إليها، بشخص وزير الداخلية الكردي كريم شنكالي، الأمر الذي أثارّ حنق الأتراك طبعاً.
المسؤولون الأتراك، ورغم بعض التصريحات الإيجابية ذات الوقع الإرتجالي في البداية، وسيما تلك التي صدرت من شخص رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان( أثناء توجهه للقاء الرئيس الأميركي جورج بوش في واشنطن)، إلا أنهم عادوا إلى الصمت من جديد. في الحين الذي رفضت فيه المؤسسة العسكرية القرار الكردي جملة وتفصيلاً، وكان الرد على لسان جنرال الحرب يشار بويوكانيت، رئيس هيئة أركان الجيش التركي، الذي وصف القرار بغير المهم، وزاد بأن الهدنة التي يتحدث عنها حزب العمال الكردستاني تقوم فقط "بين الدول المتحاربة"، وليس "بين دولة ومجموعات إرهابية"، كما قال. ولم ينس بويوكانيت أن يغمز من قناة أردوغان وحزب العدالة والتنمية، في تذكير ضمني بمحدودية صلاحياته وخطوط أنقرة الحمراء، بأن تركيا مازلت تتعرض لخطر الرجعية الإسلامية( الحكومة) والأنفصاليين( حركة التحرر الكردستانية). وكان حديث بويوكانيت هذا أثناء حضوره لمراسيم تخريج دفعة جديدة من ضباط الكلية الحربية في أنقرة.
العمليات العسكرية التركية في غضون الشهر المنصرم إستمرت بدورها. فقد نقل المركز الأعلامي في قوات حماية الشعب( الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني) بيان أورد فيه حصيلة للعمليات والمواجهات العسكرية التي وقعت منذ قرار إعلان وقف إطلاق النار، وقال بأن الجيش التركي شنّ ما مجموعه 43 عملية إستهدفت مواقع المقاتلين الكرد، وإن 23 إشتباكاً ومواجهة مسلحة وقعت بين الطرفين، أسفرت عن فقدان ثمانية مقاتلين كرد لحياتهم ومقتل اثني عشر جندياً تركياً. في الحين الذي
رفض فيه باهوز أردال القائد العام لقوات حماية الشعب ما تتردده بعض الأوساط في إمكانية إصدار عفو عام عن مقاتليهم مقابل تسليم الحزب لسلاحه، وقال أردال بأن الشبان الكرد لم يتوجهوا للجبال لكي يعودوا ويستسلموا بعد ذلك. مطالباً أنقرة بالتخلي عن نمط التفكير هذا، الذي لن يجدي نفعاً في حل القضية، مثلما لن تجدي العمليات العسكري في القضاء على قواتهم.
الدولة التركية من جهتها وبموازاة العمليات العسكرية المتواصلة، شددت العزلة على الزعيم الكردي الأسير عبدالله أوجلان، ومنعت محاميه من زيارته طيلة أربعة أسابيع. فيما رفضت محكمة تركيةطلب الأستئناف الذي تقدم به أوجلان بغية إعادة محاكمته من جديد، عملاً بقرار محكمة حقوق الأنسان الأوروبية في "إنتفاء شرط العدالة" في المحاكمة التي أجريت للزعيم الكردي عام 1999 في جزيرة إيمرالي. وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الأنسان قد رأت في 12/5/2005 أن مٌحاكمة اوجلان
الأولى في إيمرالي لم تكن عادلة. مما فتح الطريق أمام محامييه لطلب إعادة محاكمته من جديد، الأمر الذي رفضته السلطات التركية، وذلك رغم الأنتقادات الأوروبية المتكررة لأنقرة، لرفضها تنفيذ أمر المحكمة الأوروبية الملزم. ومازال المجلس الوزراي الأوروبي يتابع القضية، حيث إنه المتخصص بمتابعة تطبيق قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
أوجلان وفي آخر زيارة له، حملّ محاميه رؤاه فيما يتعلق بموضوع وقف إطلاق النار وأشار لما وصفه "بخلو الطرف التركي من وجود شخصية قيادية قادرة على صنع السلام وتلقفه من الجانب الكردي المستعد دائماً للحل الديمقراطي"، وقال "إن الساحة التركية خالية الأن، ليس ثمّة من أحد يستطيع تقديم نفسه كشريك قادر على صنع السلام". كما جدد تمسكه بالحل السلمي ونبذ العنف والحرب وقال "بأن ماعدا المشاريع التي قدمها بغية الحل الديمقراطي، فإنه ليس ثمة من مشاريع للحل
ولتوطيد السلام في المنطقة". وقال أيضاً "ليعلم الجميع بأنه حتى لو عزلوا أوجلان أو حاولوا القضاء عليه وتصفيته، فإن أفكاره المتجذرة في الحل الديمقراطي والسلام ستظل هي الأساس في أي مشروع حل أو تسوية للقضية". وتابعّ "إنهم حتى ولو قضوا على حزب العمال الكردستاني ومقاتليه في الجبال فإن اوجلان لن يتركهم ينفذون خططهم في إشعال المنطقة، ولن يدع مصير الدولة في يد أربعة أو خمسة أشخاص ينهبون البلاد ويقودونها للهلاك". وهذه دعوة قديمة/جديدة تتعلق بإصرار الرجل
على مواجهة القوى التي يطلق عليها بتحالف (التفاحة الحمراء) والتي تريد "جرّ البلاد لحرب أهلية تركيةـ كردية تتخطى الحدود لتشمل إقليم كردستان الجنوبية كذلك". وكان أوجلان قد أشار مراراً لهذه القوى في مناسبات سابقة، وقال بأنها تتكون من اطراف متعددة(مراكز قوى داخل الجيش+ مراكز الحرب الخفية في الاستخبارات+ أوساط حزب الشعب الجمهوري وزعيمه دينيز بايكال+ جهات كردية محلية مستفيدة من حالة الحرب والصراع)، وتعهّد بمقاومتها حتى الرمق الأخير. لكن الملفت في تصريح أوجلان الأخير كذلك، هو إشارته لوجود ستة أشهر أخرى أمام أنقرة لحسم أمرها في إختيار السلام و التفاوض أو الحرب الشاملة، والتي قال إنه لن يستطيع هو نفسه الحيلولة دونها، أو دعوة حزب العمال الكردستاني لمبادرة سلام جديدة. في الحين الذي ألمح فيه لواقع جديد يتشكل في المنطقة، وقال بأن القوى التركية المتنفذة و(الأقلوية) غير ملمة بهذا الواقع لأنها "مازالت تستند على الولايات المتحدة الأميركية مثلما كانت الحال عليه عام الف وتسعمائة وخمسين، دون أن تعي أن الأوضاع العالمية قد تغيرت وأن الظروف تبدلت تماماً عما كانت عليه في منتصف ونهاية القرن الماضي. وأن الولايات المتحدة وحساباً لمصالحها أصحبت تحسب حساب الكرد أيضاً، فالكرد في جنوبي كردستان يمتلكون علاقات جيدة مع الأميركان، وهم متحالفون مع الشيعة في قيادة الدولة العراقية، وواشنطن تعلم ذلك وتراقب التطورات وهي راضية عما يحصل، لكن هذه القوى الأقلوية التركية المتنفذة لاترى هذا الوضع ولاتقيم له حساباً. العلاقات التي حددها السلطان سليم قبل خمسمائة عام مع الإيرانيين باتت تتغير الأن. حزب العمال الكردستاني بدوره يتأقلم مع التطورات الجديدة في المنطقة. وتعرفون أن واشنطن قد نشرت مؤخراً بعض الخرائط التي تظهر تغييراً جذرياً في تكوينية منطقة الشرق الأوسط للرأي العام. والولايات المتحدة تخطط، بل سوف تستقر في جنوب كردستان".
الأرجح أن الجيش التركي لن يجنح للحوار والتفاوض مثلما يدعو حزب العمال الكردستاني، لكنه سوف يٌزيد من عملياته العسكرية وحملات القمع، أملاً في "الحسم العسكري" الذي ينشده منذ عام 1984م ويٌمني نفسه والشعب التركي به مع قدوم كل فصل ربيع وذوبان الثلوج في جبال كردستان، حيث تبدأ العمليات العسكرية، ويشتعل السعار وحملات التعبئة الأعلامية التحريضية في أوساط الفاشيين الأتراك، والكتبة والصحفيين الملحقين بهم. وماصفقات الأسلحة الأخيرة مع الولايات المتحدة وشراء القوات التركية المسلحة لطائرات مقاتلة حديثة بمئات ملايين الدولارات إلا دليل آخر على هذا التوجه. هذا في الحين الذي تغرق فيه مناطق كردية واسعة في الفيضانات التي إجتاحت كردستان الشمالية، وتركت خلفها مئات البيوت المحطمة وآلاف المشردين الذين أصبحوا بلا مأوى في العراء، تحت سمع وبصر (حكومة العدالة والتنمية)، والتي أصبحت بلاحول ولا قوة تماماً، بعد أن استسلمت للعسكر وقائدهم بويوكانيت، وتعطلت إصلاحاتها الأوروبية أمام حزم وتهديد الجيش.
الولايات المتحدة الأميركية من جهتها تراقب الأمور عن كثب. هناك زيارة قريبة سيقوم بها بويوكانيت لواشنطن، ومن المرجح أن يستعرض معه الأميركان كل التطورات في المنطقة، ومن بينها "صعوبة القيام بخطوة عسكرية ضد قواعد حزب العمال الكردستاني" كما يكرر المسؤولون الأميركيون دائماً. وإنه من الأفضل القيام بحل القضية سلمياً عبر إيجاد تسوية ما.
المسؤولون الكرد في العراق بدورهم يجتهدون في دفع الطرف التركي للحوار والتفاوض، ويعملون من أجل إنجاح ذلك عبر علاقاتهم مع الأطراف الدولية ومع قيادات العمال الكردستاني. وثمّة تغييراً كبيراً طرأ في الأونة الأخيرة على الموقف الكردي العراقي من حزب العمال الكردستاني (قاده الزعيم الكردي مسعود البارزاني، والذي أنهى عصر{الشقاق الكردي} وأظهر حنكة سياسية كبيرة في تفهم الواقع السياسي الدولي والأقليمي الجديد، ودور الكرد فيه). وهذا أمر إيجابي طبعاً، في ظل الحاجة الكردية لتوحيد البيت الكردي وتمتينه أمام كل التحديات. بل يظل التحالف الإستراتيجي بين القوى الكردية الكبرى( حزب العمال الكردستاني+الحزب الديمقراطي الكردستاني+الأتحاد الوطني الكردستاني) وبقية الأحزاب الكردستانية الأخرى، هو المطلوب والضرورة في هذا الوقت العصيب. وبدأ التغيير والقراءة الصحيحة بالخطوة الكردية الجنوبية في التوسط لدى العمال الكردستاني لإستصدار قرار وقف إطلاق النار، ومن ثم رفض حكومة اقليم كردستان وسم "حركة التحرر الكردستانية في كردستان تركيا" بالإرهابية، وإيعازها لوسائل إعلامها وكافة الجهات والأصوات المرتبطة بها، أو القريبة منها، بضرورة العمل في إتجاه التهدئة والحل، الأمرالذي أوجد بعض هذا الغزل الذي نشاهده الأن، في أكثر من موضع، وعلى أكثر من صعيد...
يأتي ذلك مع إقتراب الأستفتاء المقرر اجراؤه في مدينة كركوك النفطية بغية الحاقها باقليم كردستان، وذلك حسب المادة 140 المتفق عليها في الدستور العراقي. وسبق لتركيا وأن حذرت الكرد في كردستان الجنوبية من ضم مدينة كركوك للأقليم الكردي الشبه مستقل. في الحين الذي هدد فيه كبار قادة حزب العمال الكردستاني أنقرة بنقل العمليات العسكرية للداخل التركي في حال إقدام الجيش التركي على غزو كردستان والتدخل بغية منع الكرد من السيطرة على كركوك.
بقي موقف واشنطن الأن، وهو الموقف الحاسم في حقيقة الأمر. فالكل يعلم إنه فقط أميركا هي من تستطيع التأثير على أنقرة لدفعها للحوار والتفاوض مع حزب العمال الكردستاني وقبول عرضه في الهدنة. حتى الأن ثمّة إشارات إيجابية من الجانب الأميركي، وإن كان هناك شكوك كبيرة تساير الكرد وعدم إرتياح باد لشخص الجنرال الأميركي السابق جوزيف رالسون، الممثل الأميركي في اللجنة الثلاثية، حيث إنه مايزال يتولى مسؤوليات في شركة (لوكيد مارتين) المتخصصة في صنع الأسلحة، ودوره المشبوه في صفقات الأسلحة مع تركيا، وآخرها صفقة بيع طائرات إف ستة عشر للجيش التركي، وهي الصفقة التي قٌدرت بمليارين وتسعمائة مليون دولار. وهناك معلومات خاصة في أن طلباً كردياً مزدوجاً وصل للمسؤولين الأميركيين بغية تغيير رالسون وإستبداله بشخص آخر، يكون مستقلاً وحيادياً وأكثر نزاهة منه.
تبدو الأمور متشابكة قليلاً، فالطرف الكردي وان كان عبر عن إستعداده للحوار والتفاوض، بل وحتى إلقاء السلاح جانباً، في حال ضمان حل عادل القضية الكردية، إلا أن الثابت إنه لن يقبل بأقل من ذلك. وهو الأن، وفي غمرة تقيده بوقف إطلاق النار، يٌعيد ترتيب صفوفه بحيث يعود لمرحلة من القوة والأقتدار، كان يمتكلها منتصف التسعينيات، وبإعتراف الجيش التركي نفسه. في الحين الذي ستفقد فيه واشنطن حليفاً قوياً هم الكرد، وجهة سياسية، علمانية، طاغية الشعبية هي حزب العمال الكردستاني في حال الموافقة على مطاليب أنقرة في ترك القضية هكذا معلقة، بدون حل. هذا طبعاً ناهيك عن الفشل التركي المتكرر في حل القضية الكردية، حيث ليس من المؤمل أن تتمكن فرق الجيش التركي من هزيمة المقاتلين الكرد وحسم المعركة عسكرياً، ليس الأن فقط، وليس في الربيع القادم أيضاً، بل حتى لو ذابت ثلوج كردستان كلها، دفعة واحدة..!!.