عندما تهادن أوروبا الإرهاب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تمحور التقرير الأوروبي السنوي المتابع لسير الإصلاحات التركية هذا العام، والذي نٌشر على الملأ يوم الأربعاء الماضي، حول الموضوع القبرصي وإصرار أنقرة على عدم الأعتراف بحكومة نيقوسيا التي يقودها القبارصة اليونانيون. خصصت المفوضية الأوروبية جل مساحة تقريرها( الذي وقعّ في خمس وسبعين صفحة) لإنتقاد موقف أنقرة من الملف القبرصي و"تعنتها" في عدم قبول التجارة وفتح المنافذ الجمركية أمام البضائع القبرصية، والموانئ والمطارات أمام البواخر والطائرات التي ترفع علم الجمهورية القبرصية اليونانية: العضو في الأتحاد الأوروبي.
وتوقف التقرير كذلك عند مسألة "تدخل الجيش التركي في السياسة" وفرضه لكلمته على الحكومة المنتخبة في كل شاردة وواردة. كما إنتقد التقرير في عجالة السجل التركي في حقوق الأنسان و"ملاحقة الأمن التركي لنشطاء المجتمع المدني" وكذلك "إستمرار العمل بالمادة ثلاثمائة وواحد من قانون العقوبات التركي، والتي تجرم كل من ينتقد الهوية التركية، وتم سابقا محاكمة بعض الكتاب والسياسيين بموجبها". في الحين الذي مر فيه التقرير على القضية الكردية في تركيا مرور الكرام، فعمد إلى الإشارة لحقوق "الأقليات اللغوية والثقافية" في البلاد( وهو التوصيف الأوروبي الدارج للكرد)، كما عارض التقرير منع أنقرة "للمؤسسات التعليمية ووسائل الأعلام الخاصة من التدريس والنشر باللغة الكردية"، والتصدي لذلك بحزمة من القوانين الجائرة.
التقرير كذلك طالب الحكومة التركية بتطبيق قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الأنسان والمتضمن إعادة محاكمة الزعيم الكردي عبدالله أوجلان، والذي إختطفته قوى دولية من العاصمة الكينية نيروبي وسلمته لتركيا في 15 شباط 1999 حيث مايزال أسيراً منذ ذلك الحين. المحكمة الحقوقية الأوروبية رأت بأن المحاكمة التي أجريت لأوجلان في جزيرة إيمرالي عام 1999 لم تكن عادلة، وطالبت أنقرة بإعادة محاكمته من جديد. ماخلا هذا الأمر، لم تنل القضية الكردية اللاهبة في تركيا أي اهتمام يذكر في أي بند أو نقطة أخرى من التقرير. لم يشر التقرير من قريب أو بعيد إلى قرار حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار في بداية شهر تشرين الأول الماضي، تلبية لدعوات اقليمية ودولية، رغم أن هذا القرار كان قد ترك إرتياحاً في الأوساط الرسمية الأوروبية وتحديداً البرلمانية منها.
يأتي هذا والصراع الكردي مع الدولة التركية دخل عامه الثالث والعشرون، وأسفر عن سقوط أكثر من ثلاثين ألف قتيل معظمهم من المدنيين الكرد، وتدمير ألاف القرى الكردية وتهجير أكثر من مليوني كردي من قراهم لينتهي بهم الحال في مدن الصفيح في الداخل التركي، إضافة لتعطيل مشاريع التنمية في البلاد وذهاب مئات المليارات من الدولارات المخصصة للأنماء لخزينة الجيش التركي، الذي أنفقها على شراء الأسلحة وتجنيد القرويين الكرد للقتال كمرتزقة، وتنظيم عصابات إغتيال ومراكز حرب خفية في ولايات شمال كردستان.
كان من المتوقع أن تتوقف بروكسل عند القضية الكردية والحرب الدائرة في كردستان، وتدعو الحكومة التركية للتجاوب مع قرار العمال الكردستاني وقف إطلاق النار، والقيام بخطوات من شأنها أن تكون البداية في بدء مرحلة سلام وإنهاء الحرب والمواجهات في البلاد. بدل أن تقوم المفوضية الأوروبية بالضغط على أنقرة لدفعها لإطلاق حوار مع الجانب الكردي( سواء في حزب العمال الكردستاني أو في حزب المجتمع الديمقراطي، الحزب الكردي المرخص والذي يسٌيطر على 56 بلدية في كردستان الشمالية)، وسحب البساط بذلك من تحت أقدام العسكر، الذين إتهمهم التقرير بالتدخل في الحياة السياسة، فإن المفوضية أشاحت بوجهها عن القضية وفضلت ترك الموضوع معلقاً، تفصل فيها الأيام القادمة: على هوى ورغبة أنقرة طبعاً.
وقالت مصادر في ردهات المفوضية الأوروبية أن بروكسل أذعنت لمعارضة الوفد التركي تقديم إسم الزعيم الكردي عبدالله أوجلان بكلمة "السيد". وأنها حذفت هذه الكلمة من النسخة النهائية رضوخاً لضغط الوفد التركي. وهو الأمر الذي وصفه رئيس مؤتمر الشعب الكردستاني زبير آيدار بانه "يعني تأييداً ضمنياً للدعاوي التي تقيمها السلطات التركية بحق الساسة والمواطنين الكرد بتهمة إستخدام هذه الكلمة عند ذكر إسم أوجلان". وإن هذا الإجراء "يناقض القيم الأوروبية في حرية الفكر والتعبير". وكان آيدار قد طالب الأتحاد الأوروبي بإخراج إسم حزب العمال الكردستاني من لائحة المنظمات الإرهابية، والتعاون معه بدل ذلك لإيجاء حل ديمقراطي وعادل للقضية الكردية في تركيا.
لنتمعن جيداً في الموقف الأوروبي: عندما كان حزب العمال الكردستاني يقاتل الدولة التركية من أجل الحقوق الكردية أعوام الثمانينات والتسعينات وكانت المجازر التركية على أشدها، جانبت أوروبا صامتة و"طنشت" القضية، لكن عندما أعلن الحزب عدة مبادرات سلام وهدنة بغية حل القضية الكردية بالحوار والتفاوض، عمدت أوروبا لإدراج إسمه في خانة المنظمات الإرهابية والتضييق على أنصاره ومؤيديه المقيمين لديها.
لماذا تفعل أوروبا ذلك، وتهادن إرهاب الدولة التركي ياترى؟
منسق السياسة الخارجية والدفاعية للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا يجوب دول الشرق الأوسط كل يوم من اجل العمل على حل النزاعات هنا وترسيخ الإستقرار هناك، كما تقول بروكسل. فهو يوم في دارفور ويوم آخر في غزة وتل أبيب وبيروت ودمشق وطهران...الخ.
من اجل أن يرضى "حزب الله" اللبناني الأصولي عن الكف عن إطلاق صواريخه على مدن ومناطق شمالي إسرائيل وتسليم الجنديين الإسرائيليين المختطفين، شكلّ سولانا جسراً جوياً بين بروكسل والشرق الأوسط، وعرضّ كل المغريات على الحزب لكي يتعقل ويكف عن مهاجمة إسرائيل. ومن ثم تكفلت أوروبا بعقد مؤتمر في إستوكهولم بعد توقف المعارك في 14 آب الماضي، فجمعّت أكثر من 500 مليون دولار من أصل 940 مليون وعدت به، لتقديمه للحكومة اللبنانية لإعمار ما دمرته إسرائيل رداً على مغامرة "حزب الله" في حربه التي شنها بالوكالة عن غيره...
فعل سولانا والأوروبيون ذلك، رغم أن لبنان أو إسرائيل أو أراضي السلطة الفلسطينية غير مرشحة حتى الأن لدخول الأتحاد الأوروبي مثل تركيا وأكراد"ها". لنتذكر إنه عندما قامت المنظمة التي تسمى "صقور حرية كردستان" بعدة هجمات إستهدفت قطاع السياحة في تركيا، وأسفرت هذه الهجمات عن مقتل عدد من المدنيين بينهم سياح أوروبيون، كيف إستنفرت وسائل الأعلام الأوروبية آنذاك. لقد نال ذلك الهجوم مساحة كبيرة في الأعلام الأوروبي المقروء والمٌشاهد. وتعرض للشرح والتحليل والترقب. بل أن دولاً أوروبية طالبت من رعاياها بعدم السفر لتركيا. في الوقت الذي تتجاهل بروكسل ويتجاهل معظم الأعلام الأوروبي قرار وقف إطلاق النار الذي أعلنه حزب العمال الكردستاني، ويظلون على عهدهم في متابعة الخياطة في المسلّة التركية.
أوروبا الرسمية تتشفى في أميركا الأن وهي "تتخبط" في المأزق العراقي. ولايخفى العديد من الأوروبيين فرحهم "لهزيمة" الأميركان و"إندحار" مشروعهم الذي أسقط نظام صدام حسين و"فتح الباب على مصارعيه للإرهابيين وبلاويهم" كما يقولون.
بعض الأوروبيين من السذاجة بمكان بحيث يعتقدون، ولعلهم يصدقون أكاذيب بعض مٌنظري "الإسلام الحداثوي" في ذلك، بأن الإرهاب سوف ينحسر بمجرد خروج واشنطن من العراق وأفغانسان ورجوعها عن مشروع "الشرق الأوسط الكبير" التغييري ذاك. فهاهو تنظيم "القاعدة" الإرهابي يٌهدد بضرب البيت الأبيض، بعد صدور نتائج إنتخابات الكونغرس الأميركي وفوز الديموقراطيين، ويعد إستقالة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد. ذلك الحدثان الذي صورهما الأعلام العربي الغوغائي( بقيادة الرائدة: قناة الجزيرة القطرية التحريضية) وكأنهما نهاية الكون، وبداية تفكك الولايات المتحدة وإنهيارها، مثلما حدث للإتحاد السوفييتي!.
والحال، فان مهادنة الإرهاب أخطر من الفشل والإندحار أمام موجاته وتحديات الإنتحاريين تلك. ولتعلم أوروبا بأن ترك المشاكل والقضايا الساخنة على حالها، لتتخمر وتتعفن لم يعد ينفع، وأن هناك مخططاً عالمياً تقوده الجماعات الإرهابية الإسلامية يستهدف كل العالم الحر وفي المقدمة أميركا وأوروبا. وكون أميركا أولاً، لايعني بأن أوروبا سوف تنجو. ولعل في تصريحات رئيسة الإستخبارات والمسؤولة عن حماية الأمن الداخلي لبريطانيا إليزا ماننغهام بولريوم في أن هناك خططا ومؤامرات لدى عدد من الأشخاص المنتمين لأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة والمتعاطفين معه، تهدف للقيام بعمليات تهدد حياة البريطانيين وضرب الاقتصاد البريطاني.
وقالت بولريوم في حديث نقلته وسائل إعلام بريطانية إن جهازها الأمني رصد نحو 200 مجموعة تضم 1600 من الشبان المسلمين البريطانيين، لديهم علاقة بتنظيم القاعدة. وأوضحت أن هناك نحو 30 مخططا معروفا لدى الجهاز، ولم تستبعد وجود مخططات أخرى. وحذرت من أن الإرهابيين الذين تمكنوا من تطوير متفجرات محلية الصنع قادرون على تطوير واستخدام أسلحة كيمائية وربما نووية في المستقبل.
حدث هذا التهديد جراء الأهمال الدائم لمعالجة المشاكل والقضايا المهمة وتركها لتتخمر والعفن كما درجّت العادة. فمن الأفضل لأوروبا أذن، والحال كما وصفناها، بأن تساهم بجدية في حل جميع المشاكل العالقة وبشكل خاص في محيطها ومساحات نفوذها، وضمان ألا تستفحل وتتطور لكي لاتصل لأراضها وتنال من مواطنيها في المستقبل القادم: كما هو الحال الأن في العجز في كيفية التعامل مع الجاليات المسلمة المليونية، والتي بدأت في تفريخ إرهابيين صغار محليين ولدوا ونشؤوا هنا، لكنهم من إتباع ومريدي فكر ذاك القابع في مغارات أفغانستان، حتى الموت..!.
tariqhemo@hotmail.com