كتَّاب إيلاف

لبنان يا لبنان! ومن الحبِّ ما قتل

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

جميل أن يتغنَّى الإنسان بموطنه، ويعشق ترابه ومناخه وأهله، ولا غرابة في أن يحنَّ أحدنا إلى مسقط رأسه ويراه جنَّة الله على الأرض. فهذا الحبُّ والهيام ملازمان للنفس البشريَّة وطبيعتها في الحرص على ذاتيِّتها وتفضيلها على ما سواها. فحبُّ الوطن لا يخضع لقوانين وضعيَّة، ولا يلتزم بمقاييس مفاضلة تصنِّفه في درجات، فذاتيَّته تتحدَّى الموضوعيَّة وتتغلَّب عليها إذا لم تصرف النظر عنها إطلاقًا. ينطبق هذا الوصف، أو التقديم الموجز على اللبناني بشكل يتحدَّى المعقول ويبذُّ المطلق. فاللبناني أكثر شعوب الأرض قاطبة حبًّا لوطنه وتغنِّيًا بجماله نظريًّا، إن صحَّ القول، وأكثر شعوب الأرض غير ذلك عمليًّا استنادًا إلى أحداث العقود الأخيرة من القرن الماضي، والعقد الأوَّل من القرن الحالي. ففي لبنان، يقول اللبناني الزجل ويدبِّج القصائد، وهو له الذي أهدى العالم أحرف الهجاء، وهداه إلى درب الحياة، وهو الذي نشر الثقافة فيه على مراكب فنيقيَّة فحضَّره. ولبنان "قطعة سما" وجغرافيَّته تقع "بين الأرض والسماء"، وأرز لبنان هو "شجر الربِّ على الأرض"، وآلاف الصفات في لبنان التي ما فتئ اللبناني يردِّدها حتَّى لتخالها مذهبًا يدين به إذا لم أقل دينًا لا دين له سواه. وعندما تشاهد الواقع، وتتبيِّن ترجمة هذا الحب من قول إلى عمل، فذاك شأن آخر.
اللبناني، أو على الأقل مَن نعرفهم، أو نتابع أخبارهم قادة كانوا، أم رؤساء طوائف وأحزاب سياسيَّة، أو حتَّى أفرادًا، هو أكثر الشعوب العربيَّة، إذا لم أقل شعوب الأرض قاطبة ارتباكًا في تحديد هذا الحب والتعلُّق بالوطن. فما أن يبدأ أحدهم في وصف لبنان حتَّى يطبِّق قولَ الشاعر: "يسهلُ الوصفُ ويصعبُ التحديدُ." فلبنان الذي كثرت فيه المذاهب والطوائف"، على حدِّ تعبير أحدهم، "وقلَّ فيه الدين". هو لدى الشيعي غيره لدى السنِّي أو الدرزي، وهو غير لبنان لدى المسيحي الماروني أو الأرثوذكسي أو الكاثوليكي وغيرهم. فلبنان في هذا الخضم الواسع من تحديد الهويَّة والانتماء، يظلُّ نمطًا فريدًا في محيطه، ولغزًا مبهمًا لدى أبنائه، ومشكلة مستعصية الحلِّ لدى أصدقائه ومحبِّيه. فلا اللبناني قادر على الخروج من المأزق، ولا الصديق أو المحبُّ مُرحبُّ به لتقديم النصح أو المشورة، فكبرياء اللبناني واعتداده تحولان دون ذلك حتَّى ولو كانت النهاية وبالاً عليه وعلى الوطن. وهكذا يحبُّ اللبناني لبنانه حتَّى الموت، ومن عُرام هذا الحبِّ، وخشية ألا يشارك في قتله، يهاجر اللبناني إلى أصقاع العالم، ويحمل معه حبَّه القاتل، فتصبح بلاد الاغتراب مجسَّمات مصغَّرة عن لبنان الطائفي الذي يسهل وصفه ويصعب تحديده.
ولأنَّ قادة لبنان وسياسيَّه بلا استثناء هم أكثر اللبنانيِّين ضرًّا بلبنان، فلن يكونوا هم المعنيِّين فيما أقول، بل أقصد اللبناني عامَّة دونما تخصيص أو تحديد بعقيدة سياسيَّة أو ارتباط بمذهب. ولأنَّ التعميم، ولا سيَّما في أمور تتعلَّق بالفرد أكثر منها بالوطن، يكون في الأغلب الأعم غير صائب، استثني القلَّة القليلة من الذين عرفتهم من اللبنانيِّين، وعندهم لبنان أكبر من الطوائف والمذاهب والأحزاب، وأخصُّ بالقول الجموع التي تتغنَّى بحبِّ لبنان، وتتقاتل فيما بينها للاستئثار بهذا الحب!
تأكِّد لي هذا الرأي، وأرجو مخلصًا أن أكون فيه مخطئًا، عندما حضرت مؤخَّرًا لقاءًا دعا له أنصار "التيَّار العوني" في أوتاوا، بالتنسيق مع مَن يتعاطف مع "حزب الله"، تكلَّم فيه النائب سليم عون والسيِّد رمزي كنج (من الطائفة الشيعيَّة)، ولست أدري إن كان السيِّد كنج عضوًا في التيَّار، فهو لم يفصح عن ذلك، أم أنَّ طبيعة لقاء "المصلحة" بين "التيَّار" و "حزب الله" جمعت بين طرفين كانا حتَّى الأمس القريب على طرفي نقيض!
تكلَّم السيِّد كنج (الشيعي) وكان أشدَّ المنتقدين للدور السوري في لبنان، وتكلَّم النائب سليم عون، وكان أشدَّ المدافعين عن سلاح "حزب الله"، حتَّى ليخال السامع أنَّ "لقاء المصلحة" يتطلَّب ذلك. وكلا الزائرين استفاضا بشرح الأحداث الماضية، وكأنَّما الحضور جاءوا لسماع ما حدث بلبنان منذ عودة الجنرال عون، وليس لتحليل الواقع، وما هو المستقبل الذي ينتظر لبنان من جرَّاء سياسات زعماء الطوائف والأحزاب اللبنانيَّة! لقد تكلَّم الضيفان كثيرًا، ولكنَّهما لم يقولا شيئًا يطمئن اللبنانيِّين عمَّا ينتظر لبنان عاجلاً وآجلاً. وهل ما إذا كانت "ديمقراطيَّة الشارع" في لبنان سيُستعاض بها عن "الديمقراطيَّة التوافقيَّة" التي يلجأ لها السياسي الطائفي كلَّما شعر بغبن يمسَّه وليس بالضرورة طائفته!
وحتَّى أؤكِّد للقارئ ما ذهبت إليه باستثناء القلَّة القليلة، ما أن استمع الحضور للأسئلة التي كانت تدلُّ على قائلها إن كان عونيًّا أو من الطرف الآخر، وللأجوبة من الضيفين حتَّى تجمَّع أنصار التيَّار حول النائب سليم عون، وتجمهر أنصار "حزب الله" حول السيِّد كنج. وهكذا انقسم الجمور بدون وعي أو تخطيط إلى مسيحيٍّ هنا ومسلم شيعيٍّ هناك، وكأنَّنا عدنا بلمح البصر إلى لبنان. فهذا يؤكِّد لصاحبه أنَّه لبنان، وذلك يفعل الأمر عينه، وعلى كلاهما ينطبق قول الشاعر: "قد يتقاربُ الوصفانِ جِدًّا وموصوفهما مُتباعِدانِ."
وعلى الرغم من التفاؤل الحذر والتأكيد على أنَّ اللبنانيِّين وعوا الدرس جيًّدًا، ولن يعودا لخيار القتال فيما بينهم، تؤكِّد الأحداث الجارية في لبنان، وتمسِّك كلِّ طرف بـ "الحقيقة المطلقة"، بأنَّ الهدنة الخادعة غير ذلك، وأنَّ لبنان مقدمٌ على نذير شؤم لن يخرج منه أحد رابحًا. وقد كان هذا الشعور السائد لدى المستمعين. وهذا ما سمعناه بوضوح من الوفد العوني في أوتاوا.
لقد علَّق أحد الحضور، وهو لبناني شيعي، بأنَّ لقاء عون و "حزب الله" هو بالنسبة إلى الأوَّل مصلحة، وإلى الثاني زواج متعة. فهل بمثل هذا اللقاء يتمُّ خلاص لبنان ممَّا هو فيه! عندما يصبح لبنان صغيرًا لينضوي تحت طائفة تقزَّمت في شخص زعيمها، والطائفة كبيرة لتشمل الوطن، تتبدَّى أمامنا حينئذٍ صورة لبنان التي يحاول أدعياء حبِّ لبنان الاحتفاظ بها لأنفسهم دون سواهم من اللبنانيِّين. فإمَّا أن يستمرَّ لبنان في دوَّامة اللاشعور والإنزلاق نحو المجهول، أو الاستعانة بـ "الغريب" لإخراجه من الهوَّة لتعود الكَرَّة مرَّة أخرى، وهكذا دواليك.
لبنان يا لبنان! كان الله في عونك، ونجَّاك الله من شرِّ أبنائك، فحقًا إنَّ من الحبِّ ما قتل. وبأبناء كهؤلاء، لست بحاجة إلى أعداء.
editormurad@rogers.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف