هلع القوى الديمقراطية في العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
السياسة الأميركية في العراق (الحلقة الأخيرة)
" أريد منكم حمل فكرة التسامح والتعاون ونسيان العداوات والبغضاء السابقة".(رئيس الوزراء العراقي الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم في 18/09/1958 )
" نحن نريد حكومة ديمقراطية. نريد حكم الشعب للشعب". (الشهيد سماحة آية الله محمد باقر الحكيم)
" إن هيئة علماء المسلمين ترغب في حكومة مدنية ... وترفض حكومة دينية".(الشهيد د. عصام الراوي، عضو هيئة علماء المسلمين)
" الأكراد لن يقبلوا بأن تكون هوية العراق إسلامية" (مسعود البرزاني)
" إن أي دراسة للنتاج الثقافي، وبضمنه الكتابات التي تناولت التاريخ والسياسة،خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، داخل العراق، تكشف عن حياة ثقافية فوارة،كانت تطمح لإعطاء بدائل للسياسة السلطوية التي كانت تسيطر على الحياة السياسيةالعراقية أنذاك. ولحسن الحظ، فإن ذاك النتاج الثقافي ساهم في ترسيخ ذاكرة تاريخية، بمقدور المثقفين العراقيين العودة إليها، باعتبارها مصدر إلهام للتحول الديمقراطي المنتظر. (...) إن المقاهي العراقية، مثل مقهى الزهاوي والحيدرخانة وحسن عجمي والمقهى
السويسرية والمقهى البرازيلية، كانت قد أصبحت أحد المكونات المهمة للمجتمع المدني العراقي". من كتاب:
Eric Davis, MEMORIES OF STATE: POLITICS,HISTORY,AND COLLECTIVE IDENTITY IN MODERN IRAQ
تسخين الوعي على طريقة "المايكرو أوند"
الشواهد التاريخية التي أوردناها في الحلقة السابقة، أردنا منها أن نقول أن التاريخ يعلمنا أنه من الخطأ الرهان على لحظة تاريخية مؤقتة، كهذه التي يعيشها العراق، واعتمادها كأساس لتصور استراتيجي مستقبلي للبلاد بأكملها. وبما أن القوى التي تتسيد، منذ ثلاث سنوات، المشهد العراقي تنتمي، في غالبيتها العظمى، إلى الإسلام السياسي، بمحتواه المذهبي الشيعي والسني، فأن هذه القوى ستصاب بخيبة أمل كبيرة، إذا هي تيقنت أن موسم القطاف قد حان، أو أن "الطبق" السياسي الذي تتمناه وتشتهيه أصبح ناضجا، ومعدا للأكل. وحتى إذا قطفت الآن بعض الثمار، وتلذذت ببعض الوجبات، بفضل الاحتقان المذهبي، والتخويف والإخافة، والترغيب، فأنها ستكتشف لاحقا، أنها ثمار فجة، وأن الوجبات لم تطبخ على نار هادئة، وإنما سخنت على طريقة "المايكرو أوند"، أو أنها حضرت على طريقة الوجبات السريعة.
ومثلما يتوجب على النخب العراقية السياسة الإسلامية أن تعي أن العراق يعيش حالة مرضية واستثنائية، فأن على أنصار الديمقراطية في العراق والمراهنين على بناء نظام ديمقراطي بمؤسسات دستورية ليبرالية، أن يفهموا، أيضا، هذه الحقيقة. فالمجتمع العراقي لم تتوفر أمامه حتى الآن فرص حقيقية، لكي تعبر كل فئاته وشرائحه الاجتماعية عن طموحاتها.
إن الذي يتحرك الآن هي، الأحزاب والجماعات الدينية المذهبية السياسية وحدها، أو تقريبا وحدها. بمعنى أخر، إن الحركة التي نراها الآن فوق السطح لا تتناغم، بالضرورة، مع إيقاع حركة القاع، التي نسمع همهماتها، ولكننا لا نسمع أصواتها بوضوح.
ونكرر مرة أخرى، إن كلامنا هذا لا يعني التقليل من شان الأحزاب والتجمعات السياسية الدينية. إنها موجودة ولها جماهيرها، لكنها ليست الداينمو الوحيد الذي يحرك المجتمع، إنما هي محركة واحدة من محركات المجتمع العديدة. إما، لماذا نسمع هديرها وحده، فلأن حركة المجتمع معطلة، بالكامل.
مرة، رصد أكاديمي عراقي، في بحث نشره في الصحافة العراقية، الانتخابات الأخيرة في العراق، وسلط الضوء على اتجاهات "النخب السياسية"، تحديدا، ومستقبل هذه النخب، عبر قراءته لخارطة القوى المشاركة في الانتخابات. فاستنتج الباحث " إن وجود 84 كيانا سياسيا علمانيا مقابل 22 كيانا سياسيا إسلاميا من أصل 106 شاركت في الانتخابات هو، مؤشر مهم يبين بوضوح أن الاتجاه العلماني هو الذي يستحوذ على اهتمام الغالبية العظمى من النخب السياسية العراقية، الأمر الذي سيكون له دلالته في المستقبل، إذا ما سارت العملية السياسية في العراق على نهجها السلمي الحالي" (د. ظاهر محمد صكر الحسناوي: على هامش الانتخابات الأخيرة. صحيفة الصباح العدد 740 في07/كانون الثاني/2006).
ولكننا، رأينا كيف أن النخب السياسية حيل بينها وبين المشاركة الحرة في العملية السياسية، وكيف أن هذه العملية السياسية لم تسر على نهجها السلمي، وسارت، بل أريد لها، أن تسير في طريق الانحراف، حتى دخلت أخيرا، بل تم إدخالها، في طريق مسدود، بتأثير قوى معادية للديمقراطية، عراقية داخلية، وإقليمية.
والأسئلة المطروحة أمام الولايات المتحدة (قلنا الولايات المتحدة، ولم نقل الجمهوريين أو الديمقراطيين) هي، ماذا ستفعل لإخراج العملية السياسية من هذا الطريق المسدود ؟ وكيف ؟ وإذا نجحت الولايات المتحدة، فبأي طريق ستدفع الأمور ؟ ولصالح من ستلقي بثقلها، وكيف ؟
في بداية العام الماضي، وتحديدا في 31/1/2006 قالت الولايات المتحدة، على لسان وزيرة خارجيتها كوندو ليزا رايس، أن "بعض الناس يقولون أن أميركا تريد ترتيب الأوضاع السياسية في المنطقة بشكل يناسبها، لكننا في الواقع ملتزمون بالديمقراطية كمبدأ بغض النظر عمن يفوز في الانتخابات".
وما تقوله وزيرة الخارجية الأميركية عن"الديمقراطية كمبدأ"، كان الدستور العراقي قد ثبته في الفقرة التي تنص على أنه (لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية)، مثلما تم تثبيته في فقرات أخرى، أكدت كلها على ضمان الحريات الفردية والعامة.
ولكن، هل تكفي نصوص دستورية صماء، لوحدها، مهما كان انحيازها للديمقراطية، لقيام نظام ديمقراطي ليبرالي، بمعزل عن الأدوات البشرية التي تتعامل مع هذه النصوص ؟
أجيال عراقية تم قفلها بالشمع الأحمر
نحن نعرف أن الديمقراطية، كنظام سياسي وكفلسفة عامة للحياة، لا يمكن فرضها فرضا، لا من قبل قوة أجنبية ولا من قبل قوة عراقية، ولا يمكن استنساخها، ولا استيرادها، وهي لا تتحقق بشكل أوتوماتيكي، وليس بالمقدور انجازها بطريقة فورية. إنها يجب أن تخرج من رحم المجتمع، وتلبي حاجاته، وهي عملية شاقة ومعقدة ومستمرة، ما دامت الحياة مستمرة. ولكن هذا لا يعني التقليل من تأثير العامل الأجنبي لدعم الديمقراطية، عن طريق إشاعة تقاليدها وثقافتها وتعميقها. فالعراق يفتقد، تاريخيا، لأي ثقافة وتقاليد ديمقراطية، والنخب الديمقراطية مهمشة، وتبذل جهود أضافية، متنوعة ومتواصلة لتهميشها أكثر وأكثر. ونهج الاعتدال عند ملايين العراقيين الذين يشكلون وقود الديمقراطية، والذي لا تتقدم الديمقراطية إلا به، يصار إلى محوه نهائيا هذه الأيام، بعد أن أن تم استبداله، بأسلوب منهجي منظم، بنهج العنف، طوال الثلث الأخير من القرن الماضي، وهي فترة حكم البعث.
إن الفئات العمرية التي تتحرك في المجتمع العراقي، وتحركه (وهذا ينطبق على بقية المجتمعات) هي تلك التي تتراوح أعمارها بين الثامنة عشر والخمسين عاما. وإذا قمنا بعملية حسابية بسيطة، فسنجد أن العراقيين الذين دخلوا المدرسة الابتدائية وهم في السادسة من أعمارهم عام 1968، وهو عام وصول البعث إلى السلطة، فسنجد أنهم شارفوا الآن على سن المعاش. وهذا يعني أن هناك جيلين عراقيين ترعرعا وتربيا تحت مظلة حكم البعث.
وتعبير "تحت مظلة البعث" يعني، نظريا وعمليا، للذين عاشوا تلك التجربة، أو خبروها عن قرب، أن هذه الأجيال العراقية ولدت وكبرت، وقد ختم عليها بالشمع الأحمر، أو أنها كبرت وهي مثقلة بالأقفال: قفل على الفم، أخر على السمع، ثالث على البصيرة، رابع على البصر (حدث أن تم سجن عراقيين وعراقيات لأنهم انتقدوا، ليس إلا، لون الملابس التي كان يرتديها صدام، وكانت التهمة هي، الاستهانة بذوق السيد النائب، وبعد ذلك السيد القائد).
ما كانت هناك أي مرجعية أخرى أمام هذه الأجيال، غير مرجعية واحدة هي، مرجعية البعث وصدام حسين. ومنذ وصول البعث إلى السلطة، فانه اعتمد على إستراتيجية ثقافية ذات بعد واحد (نفذ ثم ناقش، بل نفذ ولا تناقش). والرافعتان اللتان كانت تقف عليهما تلك الثقافة هما، الشحن والمواجهة، من جهة، والخضوع والخنوع، من جهة أخرى: لا تفكير في الخيارات، لأن هذه الخيارات غير موجودة، أصلا، ناهيك عن أجتراحها/ فقدان القدرة على الحكم وإعطاء الرأي الحر/ فقدان الاهتمام بالمعرفة وبالمقارنات النقدية/ أحكام أطلاقيه تبسيطية وتشهيرية: نحن العراقيون أفذاذ (حراس البوابة الشرقية) وغيرنا، إما جبناء وأوغاد ( عندما زعل صدام على البلدان العربية الخليجية، فأنه بدأ يقول: لولانا لتمكن الإيرانيون من أخذ الخليجيات سبايا)، أو أعداء يتربصون لإيقاع الأذى بنا، هكذا ظلما وعدوانا/ انتفاء النقد والنقد الذاتي، ومعهما انتفاء الإحساس بالمسؤولية (القائد يفكر بالنيابة عن الجميع)/ انتفاء القدرة، أو حتى الحاجة للتمييز (التمييز بين من، ما دام هناك لون واحد ؟)/ غياب أي تنوع في المصادر المعرفية (الدولة هي التي تحدد هذه المصادر، وبالتالي غياب معرفة الآخر المختلف.
إنها نفس فلسفة موسوليني: "كل شيء داخل الدولة، لا شيء ضد الدولة، لا شيء خارج الدولة".
وبالطبع، لا يمكننا أن ننسى، هنا، الحروب المدمرة التي شنتها دولة البعث، والحصار المدمر الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق، والذي استمر أربعة عشر عاما. فقد تضافر قمع الدولة وقمع الحروب وقمع الحصار، في أن يجعل كل واحد منا، نحن جميع العراقيين، "تعبان من نفسه"، يخاف من ظله، ينام في الليل ويخشى أن يتحول في الصباح إلى شحاذ، يفتقد لأي ثقة بالمستقبل، ممسوس بعبثية الوجود ولا جدوى الحياة، ويعيش خواء روحي.
وبموازاة هذه الحال من الخنوع والشلل الروحي والذهني والمادي، نشأت عند كل واحد منا حال أخرى، هي "البحث عن الاعتراف به". وهذه الحال تبدو، لأول وهلة نقيضا أو نفيا لحال الشلل، لكنها، في واقع الأمر، حال تدميرية، هي أيضا. فالفرد المقموع، في كل مكان في الكون، يظل يحمل في داخله إحساسا بالدونية، ورغبة دائمة ومستترة في الانتقام وقمع من يستطيع قمعه، في أول فرصة تتوفر أمامه. وها هي الفرصة حانت بعد اختفاء "القامع" الأكبر، صدام حسين ونظامه، من المشهد الحياتي، فلم لا يتم استغلالها.
وربما هذا ما يفسر نوع العنف الرهيب والاستثنائي الذي يشهده العراق (نؤكد للمرة الألف على التعميم، وليس التخصيص الجهوي أو المذهبي). فالضابط العراقي السابق الذي كان صدام قد أهانه وأجبره أن يتحول إلى مجرد "مهوال" يدور على عقبيه وهو يلقي قصائد تمجيدية له، ويستلم أوامره من شاب أقل من عمر أبنه،هو قصي صدام، يريد الآن، بأي ثمن، أن يثأر لكرامته، فيجمع حوله مجموعة من حملة السلاح، ليصبح هو قائدهم المطاع.
وشيخ العشيرة العراقي الذي كان صدام قد أذله وأجبره أن يخلع عقاله ويضعه في رقبته، و"يهوس" كما المراهقين للقائد، ليستلم عند خروجه "مظروف نقود" من المرافق عبد حمود، يريد الآن أن ينتقم ويثأر لكرامته، فيفرض نفسه باعتباره الشخص الذي لا تستقيم أمور البلاد والعباد إلا بإطاعته.
والمراهق العراقي الذي كان لا يستطيع أن يفتح فمه ويرتعش هلعا أمام قائد "فدائيي صدام"، عدي صدام، يريد الآن أن ينتقم لصمته ويظهر بطولته، بقتل أكبر عدد ممكن من الآخرين. ورجل المخابرات العراقي الذي امتهن حرفة الصمت، خوفا من أن يلتف حبل المشنقة على عنقه مثلما التف على عنق فاضل البراك وناظم كزار، يريد الآن أن يثأر، بتقطيع أوصال الآخرين، ولا يهم أن يكون هولاء الآخرين أبرياء.
والسياسي العراقي الذي نجا بجلده وفر خارج البلاد، خوفا من قمع صدام، يريد الآن أن يستعرض عضلاته أمام الجميع، ليثأر.
والحشود العراقية التي تعودت، على امتداد جيلين، أن تهتف لصدام "بالروح بالدم نفديك يا صدام"، شعرت ب"الرعب" عندما استقيظت على حين غرة ولم تجد صدام، فراحت تفتش عن أي قائد أخر، لتواصل معه هتاف "بالروح بالدم نفديك يا فلان".
في كتابه المترجم إلى الفرنسية La socieacute;teacute; du meacute;pris)) يرى الفيلسوف الألماني أكس هونيثHonneth أن "إعلان الخسارة أو أعلان الإفلاس" لا يقتصر على التجار فقط، ولا على الشركات التجارية وحدها، وإنما يشمل المجتمعات، أيضا. ونحن مجتمع عراقي أعلن إفلاسه. وإعلان الإفلاس لمجتمعنا العراقي يتجسد في ترديدنا الجماعي، حد القناعة، بأننا لا يمكن أن نحكم إلا بقائد على شاكلة صدام حسين، وأن من ينقذنا من الحال المأساوية التي نعيشها، ليست الحرية أو الديمقراطية، وإنما حكم القبضة الحديدة الواحدة.
وما دام عنوان هذه الحلقات هو "السياسة الأميركية في العراق"، فالسؤال، الآن، هو: ألا تتحمل الولايات المتحدة مسؤولية ما، فيما حدث لنا ؟ وما هي مسؤوليتها لإعادة تأهيل المجتمع العراقي، ورد العافية له؟
الصدمة والترويح
دأب منتقدو السياسة الأميركية على القول أن الولايات المتحدة نفذت خطة مارشال بعد الحرب الثانية، لأن ألمانيا بلد مسيحي يسكنه الرجل الأبيض. ويراهن هولاء قائلين، لو كانت ألمانيا بلدا أفريقيا أو أسيويا أو في أميركا الجنوبية، أو بلدا إسلاميا، لما فعلت ذلك الولايات المتحدة. وحتى يثبت هولاء أرائهم فأنهم يضربون بالعراق مثلا. وهولاء المنتقدون ليسوا دائما بدون حق. وكلامهم لم يعد مجرد انتقاد، إنما هو تحدي تواجهه الولايات المتحدة.
الولايات المتحدة "صدمت" العراقيين و"روعتهم" في حرب الخليج الثانية عندما دمرت البلد وأبقت صدام يواصل سياسته الداخلية نفسها. وهي روعت العراقيين وصدمتهم عندما فرضت عليهم حصارا قاسيا، وتركت صدام يحيى مثلما يريد. وهي صدمت العراقيين وروعتهم عندما أطاحت بنظام صدام وأبقت كبار جلاديه طلقاء، ثم أشرعت الأبواب أمام عتاة الإرهابيين.
لم يعد يكفي أن تتباهى الولايات المتحدة بأنها أسقطت صدام حسين ونظامه، وحررت العراقيين، وساعدتهم على إجراء انتخابات لمرتين، وساعدتهم في سن دستور دائم. بدون شك، هذه انجازات مهمة، لكنها تبقى ناقصة، إذا لم تلحقها خطوات أخرى.
إن الوقت حان لأن تشرع الولايات المتحدة بتنفيذ خطة مارشال عراقية، ليس لإعادة تأهيل العراق اقتصاديا، فحسب، وإنما ديمقراطيا، أيضا، وأن لا تنتظر استتاب الأمور، امنيا، حتى تشرع بعملية التنفيذ، وإنما تقوم بالتنفيذ الآن، وتتعامل مع هذه المهمة باعتبارها "مجهود حربي دائم".
لقد خسرت الولايات المتحدة 48 بليون دولار عام 2003 و 59 بليون في عام 2004 و 81 بليون عام 2005 ويتوقع أن يصبح الرقم 81 بليون عند نهاية هذا العام. وكل هذه المبالغ كانت في إطار الجهد الحربي الذي بدأته في العراق، فماذا سيحدث لو صرفت الولايات المتحدة هذه المبالغ، أو نصفها، أو حتى ربعها، لتنفيذ سياسة "الصدمة والترويح" ؟
وبدلا من أن يتحدث المسؤولون الأميركيون، بطريقة هي أشبه بقصص ألف ليلة وليلة، عن خطة مارشال للعالم الإسلامي (أقترح في 26 أبريل 2004 جين تيرنر النائب عن تكساس والعضو الديمقراطي البارز في لجنة الأمن الداخلي بمجلس النواب، وجين هارمان كبير الديمقراطيين في لجنة الاستخبارات بالمجلس، خطة مارشال للعالم الإسلامي تقدر قيمتها بنحو تريليونين دولار، تهدف إلى دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية في العالم الإسلامي)، فأن من الأجدر أن تشرع الولايات المتحدة بتطبيق هذه الخطة في العراق، وأن لا تنتظر، كما قلنا، استتاب الأمن لكي تطبقها، إنما تبدأ فورا.
إن المخاطر الحقيقية التي تواجه إقامة نظام ديمقراطي مؤسساتي في العراق، تكمن في تراجع سياسة الولايات المتحدة، وتغيير سلم أولوياتها داخل العراق. أي أن تركز الولايات المتحدة على خيار تحقيق "الأمن"، وتتخلى عن خيار "تحول العراق إلى نموذج في الديمقراطية"، مثلما قد يوصي به تقرير لجنة بيكر/ هاملتون. وإذا فعلت الولايات المتحدة ذلك، فأنها ستفقد مصداقيتها، وستصبح، هي أيضا، رهينة حسابات اللحظة التاريخية المؤقتة، وستثبت أنها مصابة بعور استراتيجي، وتكشف عن جهل بتاريخ العراق.
إن جميع القلاقل والفتن والحروب والمعارك والاضطرابات التي عرفها العراق، على امتداد تاريخه الطويل، إنما كانت تحدث بسبب غياب الديمقراطية والعدالة، أي تفرد "صوت واحد"، أو "سلطة واحدة"، أو "قبضة واحدة"، على حساب إلغاء الأصوات الأخرى.
والتغيير الذي حدث في 9/4/2003 كان في واقع الأمر، قطيعة تاريخية مع (حكم) "سلطة الرأس الواحد" (ونحن، هنا، لا نعني، قط، البعد المذهبي، وإنما نعني الأبعاد السياسية والسوسيولوجية والاقتصادية والثقافية). وعلى الولايات المتحدة أن تكمل ما بدأت به، وتستمر في مساعدة العراقيين على إحداث قطيعة تاريخية مع (ثقافة) سلطة الرأس الواحد.
وبما أن الولايات المتحدة هي التي نفذت هذا التغيير، و رعته وما تزال، فعليها أن تدق كل يوم، مسمارا جديدا في نعش "سلطة الرأس الواحد". وهذا لا يتم إلا بإشاعة "ثقافة" " سلطة الرؤوس المتعددة"، أي السير قدما في إشاعة الديمقراطية. وهذه المهمة لا تتقدم ولا تؤتي ثمارها، إلا بتحقيق خطوات ملموسة، منها:
- تسديد ضربات قوية ضد النزعات الطائفية، وتقديم الدعم والإسناد للقوى العراقية العريضة، صاحبة المصلحة في التغيير.
- تأسيس مؤسسات غير حكومية، ومنظمات مجتمع مدني، ومؤسسات ثقافية ومراكز بحوث، تخترق، بطريقة اقتحامية، الخطوط والحواجز والسدود الإثنية والطائفية، فتفتح أبوابها أمام كل العراقيين، وتتيح لهم ممارسة نشاطاتهم بحرية كاملة. وهذه المهمة لا تستطيع أي جهة عراقية أن تقوم بها في هذه الظروف المحتقنة. وتجربة السنوات الثلاث الماضيات ترينا كيف أن جمعيات أهلية، خصوصا نسوية، تأسست في بعض المحافظات، لكنها أغلقت بالقوة المسلحة، من قبل بعض مليشيات الأحزاب النافذة، أو تمت المساومة مع القائمين على هذه الجمعيات لحرفها عن غرضها الرئيسي التي أنشأت له. فهذه الأحزاب تملك كل وسائل الترغيب والترهيب، ولن تجاريها أي جهة محلية عراقية. الولايات المتحدة هي "الحادلة" الأكتساحية الوحيدة التي بإمكانها أن تفعل ذلك.
- القيام بانجازات اقتصادية لإعادة الحياة للطبقة الوسطى.
- إقامة جامعات أهلية أميركية وبريطانية ومن دول التحالف التي شاركت أميركا في حربها على العراق، وغيرها (على غرار الجامعة الأميركية/جامعة الحكمة التي كانت موجودة في العراق)، تستقبل الطلاب العراقيين بغض النظر عن مذاهبهم وأعراقهم ومناطقهم، وتهيأ لهم دراسة حرة.
- تنظيم سفرات سياحية جماعية مستمرة ولا تنقطع، لمن يرغب من العراقيين من الجنسين، إلى المدن الأميركية والبريطانية والإيطالية والأسبانية وغيرها من بلدان التحالف. وأن تكون هذه السفرات بالآلاف، وليس بالعشرات والمئات، أي على طريقة الحشود البشرية، وأن لا تقتصر على نخب بعينها، إنما تشمل سواد الناس، بكل أعمارهم ومستوياتهم التعليمية وأفكارهم السياسية وفئاتهم الاجتماعية ومهنهم. وأن تكون هذه السفرات بأسعار رمزية تتحمل بقية تكاليفها الدول المضيفة. وأن يتوزع العراقيون المشاركون فيها إلى فرق وجماعات يتم اختيارهم عن طريق القرعة وحدها، فيختلط داخل الجماعة الواحدة، الشيعي والسني والعربي والكردي والمسلم والمسيحي وسكان المناطق الغربية والجنوبية، والذين يكرهون أميركا والغرب إلى حد اللعنة، والذين يحبونها حد الجنون. إن هذه السفرات الجماعية من شأنها أن تتيح فرص أمام العراقيين للترويح عن معاناتهم، وليتعرفوا عن كثب على المتجمع الأميركي وبلدان الديمقراطيات الغربية عموما. إنها تتيح فرص لعموم العراقيين الذين لم يغادروا قراهم وأحيائهم، أن يشاهدوا بأم العين، ويلمسوا لمس اليد، بأن المرأة الغربية الشقراء هي ليست دائما تلك التي يشاهدونها في الأفلام، وإنما هي، أيضا، بائعة السمك التي تشقى وتكد لإعالة أطفالها، وهي نادلة المقهى التي تتهلل أساريرها ل"بخشيش" يقدمه لها الزبون، وأن الرجل الأبيض الأميركي والأوربي هو ليس فقط ذاك العسكري الصارم الذي يخشاه العراقي في شوارع بلده، وإنما هو، أيضا، كناس الشوارع الذي يخشى، إن تقاعس في عمله، أن يفصل ويجوع أطفاله، وهو النجار والحداد والإسكافي الذي يستيقظ في الساعة السادسة للحاق بعمله، وأن الرجل أو المرأة في الغرب لا يواصلان الليل بالنهار في المراقص وأماكن التعري والترويج للإلحاد، وإنما يحرصون على تربية أولادهم ويؤمون دور العبادة، ويتظاهرون ضد الحروب التي تشنها بلدانهم، ويتظاهرون يوميا لتحسين ظروفهم المعاشية.
باختصار أن يتعرف العراقي البسيط والمتعلم والمثقف على أميركا والغرب، بالمعايشة. وقد يعود العراقي من سفرته وهو يردد ما ردده الشيخ رفاعة الطهطاوي عندما زار باريس في بداية القرن الماضي:" رأيت في الغرب مسلمين ولم أر إسلام، ورأيت في بلداننا إسلام ولم أجد مسلمين"، أو يعود وهو يكفر بالغرب وقيمه، لا يهم. المهم هو، أن يخرج العراقي البسيط، قبل المتعلم، من هذه القوقعة التي تجعله لا يرى داخلها أبعد من أرنبة أنفه، أن يتعرف على الآخر المختلف، أن يصدر أحكاما حرة، يمليها عليه تفكيره الحر وضميره المستقل، أن يثق بنفسه ويحاجج الآخرين، وفقا لقناعته هو، وليس وفقا لما يملى عليه.
- إقامة "مجمعات" سياحية ، أميركية وأوربية داخل العراق، وتكون هذه المجمعات بمثابة "مدن" مصغرة لنيويورك ولندن وروما ومدريد وطوكيو، عندما يرتادها العراقي فكأنما يقوم بزيارة فعلية لتلك المدن الحقيقية، بكل ما تحتويه من مقاهي ومكتبات ودور سينما ومطاعم ودور عبادة وعيادات صحية، ووسائل ترفيه بريء. أي أن تأتي "العالم" إلى العراقي، ما دام غير قادر هو على الذهاب. أن تدخل بائعة اللبن العراقية إحدى هذه المدن وتجلس في مقهى، لتأتي النادلة الأميركية فتنظف منفضة سكائرها. أن يضع القروي العراقي ساقا على ساق، بانتظار أن يخدمه عامل المطعم الأوربي. أن يصطحب رب العائلة أفراد أسرته ليشاهدوا فيلما سينمائيا يختاره. أن يقود المعلم تلاميذه في سفرة ترفيهية سياحية في إحدى مدن الألعاب المنتشرة في هذه المدن.
هذا هو أسلوب "الصدمة"، الذي يحتاجه العراقيون، وليس أسلوب الخطة خطوة، وهو أسلوب "الترويح" العاجل، وليس الوعود التي مل العراقيون منها. إنه يساهم في تخفيف معاناة العراقيين، ويفتح أمامهم أفاق المعرفة، ويساهم في إعادة كبريائهم المفقود، ويجعلهم يشعرون بآدميتهم التي افتقدوها في خنادق الحروب ومعسكرات الجيش الشعبي وداخل المعتقلات والسجون، وينسيهم، بأسرع وقت، أسلوب "الصدمة والترويع" الأميركي، الذي أنهكهم، وهو لا يكلف الولايات المتحدة إلا مبالغ ضئيلة، مقارنة بالأرقام الفلكية التي تخسرها في كل دقيقة لمواصلة مجهودها الحربي.
انتهى