كتَّاب إيلاف

مسرح الدمى المفخخّة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

"كأنّ الموت الذي لم تره من قبل ينصب فخاخه بدهاء تامّ السرية". ( محمود درويش ، في حضرة الغياب)

لغرض ما في ذات يعقوب، عدت إلى المعاجم العربيّة أبحث عن معنى كلمة " دمية " فإذا بها من الأصل الثلاثي دَمَى ، ويعني زيّن ... والدمية في المعجم الوسيط: "تحفة أو مصنوعة من العاج وغيره، أو هي صنم مزيّن" . اذاً ، الدمية ، لغة ، تعني الحسن والبهاء والجمال . وهنالك أنواع من الدمى، وبالأشكال والألوان والأحجام كافة: منها الدمى المتحرّكة بالإصبع أو بالخيط أو بالريموت كنترول. ومنها الذي يضحك ومنها الذي يبكي ... ومنها الذي يتزيّن أمام المرآة. يكفي أن ننظر إلى اللعبة الشهيرة "باربي" بفساتينها وتباريجها وأدوات زينتها وبرك سباحتها ، والتي أصبحت من ملكات جمال العالم، وصارت الشركات المنتجة "تخدعنا بأنّها حسناء" فتعرضها في كل الحالات البشرية ، لكي تكون قريبة وصديقة للأطفال، وبخاصّة البنات ، لنرى كم هي المقدرة على التجارة بها وعلى استخدامها لإدخال السرور إلى نفوس الأطفال، وهذا شأن الدمى وهدفها بلا منازع .
أسوق الكلام أعلاه للحديث عن "دمية" من نوع جديد ، لم يخطر على بال بشر ولا رأته عين من قبل ولا سمعت به أذن ولا قرأ عنه أحد في كتب الأساطير والملاحم : أتدرون أيّ دمية هذه ؟ هي الدمية المفخّخة التي انفجرت في "الحويجة" في العراق ممّا أسفر عن وفاة 3 أطفال أرادوا اللهو بها قرب منزلهم ، وبينهم شقيقان فيما جرح رابع . تصّوروا معي الحادثة ، وهي بالمناسبة أغرب انفجار يحدث في العراق بحسب رأي الأجهزة الأمنية ، إذ درجت العادة على "زرع" الدرّاجات الهوائية والناريّة والبطيخ وغيرها وغيرها من مناطق المسارح التفخيخية. أطفال أرادوا الاستمتاع ببعض أوقات راحة بين تفجير وآخر . وبين سيارة مفاجآت غير سارّة تدعى بالمتفجّرات وأخرى . فلجأوا إلى دمية ساكنة وصامتة خلف منزلهم، وجدوا إليها الأمان ، وبعضا من الفرح الشرعي والبريء ، فإذا بها تكشّر لهم عن أنيابها، وتنقضّ عليهم وتفجّر ما تبقى لسكان المنطقة من أمن واستقرار.
ويحكِ أيّتها الدمية! ألم تستطيعي التكلم والصراخ أمام "ضحاياك" الأطفال لإبعادهم عن شراستك غير المعهودة، وتنبيههم أنّ في داخلك ما هو أقسى من المنظر الخارجي الذي يرتاحون إليه ، وانّ في ثناياكِ شيطانا رجيما ، لم يتوانَ عن رجم الطفولة والبراءة والطهارة والنقاء في العلاقات والصفاء في سلام الأخ على أخيه ؟ فكما قلنا في بداية المقال، أصل الدمية أن تكون حُسنا وجمالا ، أمّا بعد حادثة الحويجة ، فانّ الدمية أصبحت من أصل ثنائي هو " الدم" وما تبقى من أحرف يستخدم للصياح " يا " . ومن نتائج هذا العمل " المبتكر" ألا يكون بعد اليوم من مكان آمن في العراق ، فكل إنسان مستهدف ، وكل شيء متوقع أن يبرز أنيابه ، حتى دمى الأطفال أصبحت " أدوات دامية " في يد الكبار المتستّرين خلف الفوضى الأمنية وغياب الاستقرار في هذا البلد العربي الطيّب، فصاروا يتسلون بها ... ويلبسونها حزاما ناسفا.

إذا رأيت أنياب "الدمى" بارزة فلا تظنّن أنّ "الدمى" تبتسم
مع الاعتذار للمتنبي على هذا التشويه الاضطراري لشعره.
دمى بكبسة "زر" تبكي ودمى تضحك، لترسم بهجة وبسمة على وجوه الأطفال الذين طوال مسيرتهم الأرضية القصيرة قصر أحلامهم وقصر أوقات سعادتهم ، لم يبصروا يوما بعضا ممّا يشاهده ويعيشه أبناء العالم "المتحضّر" من أماكن لهو بريئة وعديدة نراها في كل زاوية وفي كل شارع وفي كل حارة من البلدان الغربية . أمّا في أرض الرافدين، فهذه الأمور غريبة عن أطفالها الذين لجأوا إلى دمية تسليهم... فرمتهم أرضا . في أحد الأيام شاهدت في أميركا أمّا "مهووسة" في ذلك اليوم، وكيف لا ؟ لأنّ ابنها سيشارك في مباراة نهائية بكرة القدم مع أطفال المدرسة ، وأعمارهم عشر سنين فما دون، فاضطرت تلك السيدة إلى الاعتذار من ضيوفها الذين دعتهم إلى الغداء في البيت ، لكي يتسنّى لها الذهاب مع ابنها الصغير، فلا تفارقه بل تكون إلى جواره في ساحة الملعب، فتقدّم له الماء إذا عطش والمأكل إذا جاع والتشجيع إذا تعب هو أو أخفق فريقه. مجرّد مثل بسيط لمعالم الفرح عند مجتمع ما من هذا الكون الفسيح.
أمّا في شرقنا الدامي، فدمى تداعب أظافير شعرها أصابعُ الأطفال النقيّة نقاء الدم الذي سال. دمى تتفجر من الضحك ودمى تتفجّر لتفجِّر غيرها. دمى تبكي ودمى تصرخ على زميلاتها من بغداد إلى قانا: "أنقذونا، فما عدنا في أمان" . دمى تهذي كمن يرى مناما مزعجا، دمى تتوجّع على وجع الأطفال ، دمى تحرّكها أصابع خفيّة ، كما في مهرجانات السيرك ، ودمى تقف خلف براءتها " عقول " مبدعة ، تنزع عنها الثياب لتدجّجها بأسوأ ما اخترع صاحب الجوائز الفريدة... ألفريد نوبل: الديناميت الساحق.
في فوضى " مسرح اللامعقول " أو مسرح الدمى... المفخّخة، العالم، بدوره، أصبح دمية صغيرة في أيدي كبار هذا العالم وعظمائه.
ويا حسرتي على إنسان القرن الحادي والعشرين ! وعلى بيل غيتس الذي وجد من يهدّد مصالحه وينافس مخترعاته : الإنسان الذي يحشو دمية بأدوات القتل والدمار.
الإنسان... دمية تقتلها دمية ... "دم"... "يا" ... يا ويلي !
"قائين، قائين، ماذا فعلت بأخيك هابيل؟ إنّ دماءه ( ودُماه) صارخة إليّ من الأرض" ؟
فهل عرفتم الآن ما هو الغرض في ذات يعقوب الذي جعلني أعود إلى المعاجم باحثا عن معنى كلمة " دمية" ؟
الأب رفعـت بدر
www.abouna.org
rifatb@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف