جدل الاصلاح واقامة المجتمع المدني السعودي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
قضيتان هامتان تشغلان بال المجتمع السعودي، وهما القضيتان اللتان تشبهان الملح للطعام، بحيث يثور الجدل حولهما في كل مجلس من مجالس المثقفين. ورغم أن حديث الأسهم والسوق المالي السعودي، كان هو الحديث الطاغي والشغل الشاغل لمعظم قطاعات المجتمع السعودي، سيما وأن أصوات الإصلاح تخفت عندما يتحسن الوضع الاقتصادي، وتمتليء الجيوب، وتشبع البطون، ويصبح استيراد العطور ومواد التجميل أكبر من استيراد الكتب والأقراص الثقافية المدمجة C.D ، بحيث يُتوقع أن تستورد السعودية هذا العام بمبلغ خمسة ونصف مليار ريال سعودي (حوالي مليار ونصف المليار دولار) عطور ومواد تجميل حسب تقدير علي آل هادي أحد الخبراء في هذا المجال الذي كتب يقول في جريدة الرياض (17/7/2006) إن انفاق المواطن السعودي على العطور ومستحضرات التجميل يفوق ما ينفقه الغربي في هذا المجال، ويُعدُّ الأول في منطقة الشرق الأوسط. في حين أن استيراد السعودية من الكتب والمجلات والجرائد والمواد الثقافية الأخرى، لا يوازي ربع هذا المبلغ حسب تصريح مسؤول كبير في مؤسسة "تهامة للنشر والتوزيع".
ليس المهم الإصلاح، ولكن المهم من أين يأتي!
دعوة الإصلاح من الداخل في العالم العربي، هي دعوة أم حنونة لأطفالها الذين يخشون الخروج من ظلام الماضي إلى نور المستقبل . وهي كالدعوة التي تنادي بتركيب جناحين ومحركين نفاثين للجَمَل العربي لكي يطير بهما بدلاً من أن يسابق الريح بخفّيه لكي يكون التغيير من الداخل لا من الخارج. في حين أننا على مرِّ التاريخ الإسلامي كنا نستعين في حياتنا بالخارج، حيث لا حياة للداخل إلا بالاستعانة بالخارج. وهذا ليس قصوراً ذاتياً بقدر ما هو نية صادقة للتغيير الصالح والحقيقي. والخوف من الخارج هو خوف الضعف لا خوف القوة، وهو خوف فقدان الثقة بالنفس لا الاعتزاز بها، وهو خوف من يخشي الآخر لا من يملك شجاعة الأخذ منه. فليس المهم الأيدي التي تقوم بعملية الإصلاح ولا الوسيلة المستعملة، ولكنه الفكر الذي يقوم بها. وفكر الإصلاح هو فكر المفكرين السياسيين الذين هم في معظمهم من درس في الغرب، وتثقّف في الغرب، وتلقى الثقافة الغربية، كما يقول تاريخ الثقافة العربية الحديث.
لا حركة اصلاحية عربية داخلية
هل في التاريخ العربي منذ 1400 سنة اصلاح ذاتي جاء من داخل المجتمع العربي؟
الإسلام الذي يعتبر أكبر حركة تاريخية اصلاحية وتغييرية في تاريخ الأمة العربية ،لم يأت من داخل المجتمع العربي، وانما جاء من بعيد، ومن خارج الأرض، من السماء السابعة.
والاسلام الذي يعتبر محرك التغيير الثقافي الأكبر في تاريخ الأمة العربية ،كان حزمة من الشرائع المأخوذة عن شرائع الشعوب الأخرى السماوية والأرضية.
ونحن العرب، كنا أول أمة في التاريخ تفرض التغيير على الشعوب الأخرى من الخارج وبالقوة!
ألم نفرض في فجر الإسلام على الشعوب البيزنطية والفارسية والهندوسية وغيرها التغيير الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بالفتوحات والغزوات، أي بالقوة العسكرية، وليس بالدُعاة والهُداة فقط؟
ألم نكن أمة غازية قامت بغزو الآخرين لأسباب مختلفة وعلى رأسها نشر العقيدة الجديدة؟
كيف تم تكوين الامبراطورية الإسلامية في العهدين الأموي والعباسي واخضاعها للسياسة الإسلامية وللسيطرة القومية العربية؟
والآن دار التاريخ دورته، وأصبح مشعل الإصلاح في أيدي غيرنا، فلماذا لا نتمثل حال الامبراطورية البيزنطية أو الفارسية في فجر الإسلام ونعترف بالحقيقة، وهي أن فينا ورم فساد وفوضي ولا بد من فتح هذا الورم المتقيح وإزالته حتي لا يقضي على الجسد كله. وأن ذلك لن يتم إلا بأيدي أطباء مهرة، وعلم طبي حديث؟
فئتان تقودان الإصلاح
دعوة الاصلاح واقامة مؤسسات المجتمع المدني تقودها في السعودية الآن فئتان:
الفئة الأولى، من كبار مثقفي الأسرة الحاكمة، ويمثلهم هنا الشاعر والرسام ورئيس مؤسسة الفكر العربي الأمير خالد الفيصل آل سعود. ويتفق معه مجموعة من المثقفين الليبراليين كقينان الغامدي، وعلي الموسى، وسعيد الغامدي، وصالح بن سبعان، وعلي الخشيبان وغيرهم من النخب المختلفة. وهؤلاء يرون أن الإصلاح الداخلي السياسي والاجتماعي من الممكن أن يتم داخلياً ، وذلك ضمن شروط كثيرة كان قد أعلنها خالد الفيصل في مقاله تحت عنوان (ماذا لو؟!) الذي نشره في جريدة (الوطن، 12/6/2006) ووضع فيه قواعد الاصلاح العامة على الوجه التالي:
1- دعوة المثقفين السعوديين إلى التعاون مع القيادة السياسية على وضع استراتيجية تنموية طموحة، يحدد لها فترة زمنية معينة لتحقيق هذا الهدف. على أن يتم اختيار فريق عمل عالي الكفاءة، كبير الشجاعة، صادق الولاء والنية، لتنفيذ هذه الخطة في الفترة الزمنية المحددة، وعدم الالتفات للمعارضات السخيفة.
2- التركيز على الثقافة والعلم في خطة الاصلاح أولاً. فلا حضارة ولا رقي بدون علم. واعادة النظر في نظام التعليم، والانتقال من التعليم بالحفظ والتقين إلى التعلم بالبحث والتطبيق. وتشجيع التعليم الخاص بدلاً من التوسع في انشاء المدارس والجامعات الرسمية الحكومية. وأن تقوم الدولة بدفع تكاليف الدراسة في المدارس والجامعات الخاصة، بدلاً من الصرف المضاعف على المنتج الهزيل في هذه المدارس والجامعات الحكومية. والتركيز على الثقافة هنا يأتي من تأكيد مفكري الحداثة على أن الثقافة تأتي قبل الاقتصاد في قيادة التغيير الاجتماعي.
3- تشجيع المشاريع الصحية الخاصة، على أن تتحمل الدولة نفقات التأمين الصحي للمواطنين الذين لا يعملون في مؤسسات وشركات تغطي نفقات علاجهم في هذه المستشفيات عوضاً عن المستشفيات الحكومية المتعثرة عملياً والباهظة التكاليف.
4- اصلاح التعليم عن طريق وقف المنهاج التكفيري الخفي الذي يروّج له بعض المُعلِّمين في المدارس وأساتذة الجامعات في فصول الدراسة وخارجها وفي المعسكرت الصيفية والرحلات الجماعية والنشرات والأشرطة والمخيمات والمراكز الثقافية، والتركيز على الاعتزاز بالدين والوطن. واصلاح التعليم عن طريق التفريق بين علماء الدين الحقيقيين المخلصين للدين ورسالته الإنسانية العظيمة وبين علماء الدين المزيفين الذين يمتطون صهوة الدين للوصول إلى مآرب دنيوية والتسابق على النجومية التليفزيونية.
5- اصلاح الجهاز الديني وذلك عن طريق التفريق بين رجال الدين المصلحين الحقيقيين والتكفيريين، وحصر اصدار الفتاوى الدينية في فئة معينة من فقهاء الدين، وتكوين هيئة عليا للإفتاء، ومنع الفتاوى الفردية المتضاربة، والفتاوى التي تُبث على الهواء. ويشمل اصلاح الجهاز الديني الارتفاع بنشاط وبمستوى أداء رجال الدعوة الدينية وأعضاء "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" إلى مستوى رجال الأمن في مكافحة الارهاب والفكر التكفيري. كما علينا أن لا ننسى بأن منع خطباء المساجد من الخوض في أمور السياسة التي لا يتقونها، واقتصار خطب الوعظ على أمور دينية فقط، من ضمن أهم أهداف اصلاح الجهاز الديني.
وهذه القواعد الخمس الرئيسية تصلح جيداً لاقامة وبناء أسس المجتمع المدني السعودي الذي ينادي بقيامه أيضاً مجموعة كبيرة من المثقفين ومن النخب الليبرالية السعودية المختلفة كمحمد سعيد طيب وعلي الدميني وعبد الله الحامد ومتروك الفالح ومحمد آل زلفة وعبد الله بخاري وجهير المساعد وعائشة الحشر وغيرهم، وإن غاب عن هذه القواعد الخمس ضرورة الإصلاح السياسي كخطوة تالية وليست سابقة. فمن الواضح في السعودية أن الإصلاح السياسي لن يتم بدون أن يسبقه الاصلاح الاجتماعي؛ أي بناء قاعدة اجتماعية واعية ومثقفة تستطيع أن تختار مستقبلاً الاختيار الحسن والمناسب، دون طغيان فئة على أخرى أو ايديولوجية على أخرى. فلو فكرت السعودية جدياً باجراء انتخابات نيابية في هذه الأوقات فسوف يسيطر "الصحويون" الدينيون المتشددون على هذه الانتخابات كما حصل في الانتخابات البلدية الماضية 2005.
أما الفئة الثانية، فهي فئة تطلق على نفسها فئة "الصحوة" وهي مجموعات من رجال الدين والأكاديميين الدينيين الذي تخرّجوا من الجامعات الدينية المنتشرة في السعودية كالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة. وهؤلاء ينتشرون بكثرة في المدارس الثانوية ومعاهد المُعلِّمين والجامعات والمعاهد الدينية وفي الإعلام وفي المساجد ولهم مواقع مختلفة من الانترنت. ويوصلون رسائلهم الدينية والسياسية والاجتماعية من خلال الأشرطة الصوتية والمرئية كذلك. وهؤلاء يشكّلون التيار الأكبر في الشارع السعودي وفي الرأي العام السعودي، وإن كانت خطاباتهم تخالف في أحيان معينة خطاب المؤسسة الدينية الرسمية المتمثلة بـ "هيئة كبار العلماء" (برئاسة عبد العزيز آل الشيخ مفتي السعودية) كما أن فتاواهم تتعارض مع فتاوى هذه المؤسسة. وكان آخرها ما يتعلق بالحرب في العراق والحرب في لبنان، وضرورة دعم المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله الشيعي المرفوض من قبل الوهابية السعودية السُنيّة، أم لا. في حين أن هذا الدعم مقبول من قبل الوهابية القطرية السُنيّة مثلاً.
وهذه الفئة (الصحويون) ويمثلهم في الغالب، سعد البريك، محمد صلاح الدين، محمد المنجد، عوض القرني، عائض القرني، سلمان العودة، عابد السفياني، سليمان الخراشي، وغيرهم يرون الإصلاح واقامة المجتمع المدني على النحو التالي:
1- عدم اعطاء المرأة السعودية أية حقوق جديدة اضافة إلى ما نالته في السنوات الماضية. بل إن بعضهم ينكر عليها الحقوق التي سبق أن نالتها في الماضي من حقوق وتعليم وفرص عمل وتجارة .
2- التشديد على ربط الدين بالدولة. وربط السياسة بالدين. واتهام كل من يحاول فصل السياسة عن الدين بأنه ينفذ المخطط الأمريكي في الشرق الأوسط الكبير أو الجديد. فقد اتهم الشيخ سعد البريك الإصلاحيون الـ 153 الذين وقعو البيان الإصلاحي الشهير في مطلع عام 2005 بأنهم وقعوا الورقة الأمريكية كما قال البريك (جريدة المدينة 26/5/2006). ويقول "الصحويون" إن الإسلام ليس ضد الحضارة، ولكنه يرفض الاستخدام السلبي لها. وأن الإسلام ليس ضد حقوق الانسان أو الحريات، ولكنه يرفض تحويل الحريات والحقوق إلى أداة للصراع، كما يرفض اعتماد رؤية ثقافية محددة على أنها القانون العالمي الذي يجب تعميمه بالاكراه. أما الإصلاحيون فيقولون، إن الزج بالدين في كل صغيرة وكبيرة ليس هو عنوان التدين الحقيقي. إن تحييد الديني في الوقائع المدنية التي ليس فيها حكم شرعي صريح أمر ضروري لئلا تمنح القداسة.
3- رفضهم لاقامة المجتمع المدني ومؤسساته. ويرون أن مؤسسات المجتمع المدني تحركه دول خارجية تكفل لها الدعم والتمويل، مقابل تنفيذ ما تريده منها هذه الدول. ويرون كذلك أن اقامة مؤسسات المجتمع المدني سوف يقلل من نفوذ الحكومة ويضعف قدرة الدولة على ضبط المجتمع. وأن فكرة المجتمع المدني هي فكرة غربية جاءت مع عصر العولمة الذي أدى إلى بروز مؤسسات اجتماعية عالمية وعابرة للقارات. وباتت هذه المؤسسات الاجتماعية قوة مسيطرة تستخدم كل أدوات القوة من مال وتكنولوجيا وموارد. (حوار السلفي سعد البريك مع الليبرالي قينان الغامدي، ملحق "الرسالة" الأسبوعي، 26/5/2006).
4- يقاوم جماعة "الصحوة" السلفية أو "االصحويون"، فكرة قيام معارضة في المجتمع. ويعتبرون أن المعارضة تهدد هيبة الدولة، وتفرض على الدولة شروطها في بعض الأحيان فيما لو قويت المعارضة. وقد تقفز المعارضة إلى الحكم فيما لو وجدت في الشارع وفي الرأي العام من ينصت لخطابها ويتبعها ويؤيدها. ويقيس جماعة "الصحوة" نظام الحكم السعودي بدولة الفاتيكان. ويعتبرون الدولة السعودية بمثابة فاتيكان اسلامي، يجب عدم المساس به أو الاقتراب منه بالنقد والمعارضة، كما قال سعد البريك (ملحق "الرسالة" الأسبوعي، 26/5/2006). ويتساءلون في هذا المقام: هل هناك معارضة سياسية في دولة الفاتيكان؟
وقد سبق للمستشار السعودي للسياسة الخارجية عادل الجبير أن ذكر لـتوني سنو في التلفزيون الأمريكي أن "دور السعودية في العالم الإسلامي مشابه لدور الفاتيكان"، وفي مقابلة لبابرا وولتر مع الملك عبدالله عام 2005، رسم الملك عبدالله دورا متوازناً بين دور السعودية في الإسلام ودور الفاتيكان مع الكاثوليكية في أنحاء العالم.
هل مطالب الاصلاح من تداعيات 11 سبتمبر؟
لقد أدركت بعض النخب في المجتمع السعودي، بأن المطالبة باقامة مؤسسات المجتمع المدني السعودي، والإستمرار بمطالب الإصلاح السياسي هي من تداعيات أحداث 11 سبتمبر 2001. وهذا صحيح إلى حد كبير. وأن الغرب عندما يقترح كل هذا على السعودية وعلى العالم العربي عموماً، فإنه يسعى من وراء ذلك إلى تسويق نموذجه الديمقراطي الذي تتوجس منه كثير من النخب السياسية والثقافية في السعودية وخارج السعودية. بل إن بعض هذه النخب داخل السعودية، يقول بأن تطبيق النموذج الديمقراطي الغربي بحذافيره - وهذا لن يتم على الإطلاق لاختلاف التركيبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية عما هو قائم في الغرب - سوف يُقوّض القيم المختلفة السائدة في هذه المجتمعات، وخاصة القيم الدينية. ذلك أن النخب الدينية المتشددة في السعودية - وهي الغالبية العظمى من هذه النخب - ترى بأن أي تغيير مهما صغُر أو كُبر في توجهات المجتمع وقيمه وأفكاره هو مساس مباشر بقيم الدين، حيث أن الدين لديهم هو منطقة النـزاع الرئيسية، وليس المجتمع وحاجته إلى التطوير. ومن هنا أصبحت النخب الأخرى في السعودية وفي العالم العربي وفي العالم كله تقسم العالم إلى قسمين: قسم إلى جانب الإسلام، وقسم ضد الإسلام، ولا ثالث بينهما.
السلام عليكم.