الديموقراطية في لبنان: أسئلة وآفاق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الأمل في أن تتحول "قاعة الإنتظار" اللبنانية قريبا،الى اجتياز نحو المنتظر، إلى العمل الديموقراطي الذي ينظمه الدستور،ويضمن استقلال القضاء عن السلطات الأخرى لا سيما منها سلطة رأس المال، وينقل مزيدًا من الإصلاحات إلى كلّ من الحكومة والبرلمان، فيحدد المسؤوليات ويدقق في الاختصاصات، وبالتالي يضع حَدًّا ل "التركيبة" التي جعلت من الدولة اللبنانية سوقًا للمذهبية،و بورصة للطائفية من خلال مفهوم الدولة القائم على رجال الماضي، من هنا يكون أحد أهم مضامين "الانتقال الى الديموقراطية المنشودة " في لبنان هو وضع حدّ لإمكانية الكلام عنه بواسطة الماضي والتاريخ الدموي.
bull;الدولة المركبة / دولة "المستودعات الطائفية ":
تكلم الفلسوف ابن رشد بإسهاب عن طبيعة الحكم الاستبدادي في تاريخ الأقطار والدول، الذي على رأسه الطاغية " وحداني السلطة والتسلط "، كما أشار إلى نظم الحكم وتحليلها، ليخلص الى أنه على أرض الواقع لا توجد دولة "بسيطة التركيب " بل هناك "دولة مركبّة " وهو ما ميّز نظرة ابن رشد من خلال فكرة التركيب والنموذج العلمي الذي يستوحيه.
واذا ما استعرضنا حال دولنا اليوم لا سيما لبنان نجد مواصفات ابن رشد تنطبق على واقعنا الى حدٍّ بعيد، واني استخدم هنا مصطلح هو "دولة المستودع " او دولة الخزانة، وهي ليست الدولة الجامعة للثروات والجابية للضرائب وحسب بل أيضًا صاحبة "السلطة القهرية "،حيث يجتمع في دور صاحب السلطة عندها، دور الشرطي الحارس الذي يجمع بين الحالة المدنية والحالة العسكرية، الامر الذي يجعل البلاد في حالة "اللادولة" و الفوضى الدائمة..
اذن دولة "المستودع " التي نحياها اليوم تتركب على شيئ من الفوضى، من خلال الاستطالة على القانون والتهرب من دفع الضرائب و تطبيق القوانين وعدم احترام الممتلكات والحريات الفردية.
فهذا الوضع المركب في البنية المؤسساتية المركبّة جعل من لبنان دولة ليست استبدادية بالاطلاق ولا مؤسساتية حديثة فاضلة بالاطلاق، من هنا نجد امكانية لطرح الاصلاح والانتقال من وضع لآخر.
bull;السلطة هي الطريق الى المال في لبنان:
إذا كانت الدولة والسياسة ليست مجرد عناصر تتركب منها بل هي نمط علائقي فإن ذلك يدفعنا للتساؤل حول علاقة السلطة بالمال، فالعلاقة القائمة حاليًّا في لبنان ليست نوع من العلاقات التي يتميز بها المجتمع المعاصر الذي ينبني على السلوك العقلاني والمعقلن واحترام المواطن وحقوقه الانسانية من خلال المساواة والديموقراطية، كما ان العلاقة ليست اقطاعية بالكامل المنبنية على ان "المال مصدر السلطة ".....
بل ما نحن نجده في لبنان ان العلاقة هي ان السلطة هي الطريق الى المال، فيصبح الجاه السياسي و المنصب هو مصدر الثروة.
ولكن كيف يتم الحصول على المنصب ؟؟؟
بالخضوع والتملق لذوي أصحاب النفوذ والسلطان(1) ، فيتحول الافراد الى أدوات خاضعة لسلطة الاعلى، وينسحب ذلك على كافة الشرائح المجتمعية وصولا الى رأس الهرم، فالموظف الصغير يتملق مديره للحصول على درجة وظيفية أعلى، والمدير العام يتملق الوزير، والوزير يتملق رئيسه.. والزعيم يتملق الدول الكبيرة النافذة وهكذا....
ومن هؤلاء يتكون من يسميهم ابن خلدون " المصطنعين الذين لا يعتدُّون بقديم ولا يذهبون إلى دالّة ولا ترفّع، وإنما دأبهم الخضوع للسلطان والتملق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه، فيتّسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليهم الوجوه والخواطر بما يحصل لهم من قبل السلطان والمكانة عنده "(2)
إذن فإن الصورة الحالية تضعنا أمام مبدأين حاصلين هما أن "التملق مفيد للجاه " و موصل للسلطة و "السلطة مفيدة للمال " فهي تجلب لصاحبها الخير المادي العميم.
علاوة على عامل أساسي لبناني بامتياز وهو "الطائفية السياسية " وهي ترجمة لمبدأ "العصبية" أي القوة القبلية، أو الدينية، أو المذهبية، أو العشائرية، أو الحزبية، أو الأيديولوجية...التي تُعدُّ القوة الأقوى في صناعة الأحداث والمحركة لتاريخ بلدنا العظيم، هذه الطائفية تجري نحو غاية السلطة المتمثلة ب "الزعيم"، والزعيم ينتهي الى الترف والانفراد بالمجد.....
ومن الطبيعي في هكذا بنية أن تكثر الصراعات والنزاعات بين " عصبية " وأخرى، فتسقط "عصبية متمثلة في زعيم "، لتقوم مكانها عصبية ثانية متمثلة بزعيم آخر، وهكذا دواليك مع كل التداخلات الاقليمية والدولية التي تدعم هذا الفريق أم ذاك....
bull;هل يمكن إصلاح الدولة ؟؟؟؟؟ ومن أين والى أين ؟؟
هذا السلوك "التملقي " وتمسيح الجوخ يُحدث في الدول اضطرابًا في المراتب، وينعكس فوضى على سائر قطاعات المجتمع، كما يُحدث انقسامات فئوية حادّة، ويؤدي الى حروب أهلية... وما العراق عَنَّا ببعيد... ويبقى السؤال مطروحًا كيف يمكن الخروج من دوامة "العصبيات " ويخرج البلاد من حتمية "الصراعات " ؟ ؟؟
طبعا الاصلاح لا يأتي بين ليلة وضحاها، بل لا بد من سيرورة طويلة تتناول الاصلاح من كافة القطاعاتوعلى كافة الصعد، يقول ابن رشد: " وتَحوّل هذه المدن (غير الفاضلة الى فاضلة ) يكون بشيئين اثنين: أعني بالأفعال والآراء "... " ويكون ذلك من خلال زمن طويل: وذلك بأن يتعاقب على هذه المدن وفي أزمان طويلة ملوك فضلاء، فلا يزالون يرعون هذه المدن ويؤثرون فيها قليلا قليلا إلى أن تبلغ في نهاية الأمر أن تصير في أفضل تدبير " ويضيف " فتَحَوّل (المدن) إلى فاضة أقرب إلى أن يكون في هذا الزمان بالأعمال الصالحة منه بالآراء الحسنة "(3) ....
نعم إذن يمكن الاصلاح ويكون ذلك بالانتقال نحو الديموقراطية وفق برنامج وسيرورة تواجه الحتميات الطائفية...
bull;الانتقال إالى الديموقراطية الحقيقية:
لعلي أسهبت في تناول آراء ابن رشد وابن خلدون في الدولة التي استلهما معطياتها، غير ان هذا الاستطراد مفيد جدا لفهم العلاقة الجدلية بين النظرية والواقع وفهم العلاقات في الحال المعاصر مع ضرورة مراعاة الفارق الزمني.
ويقع لبنان المعاصر اليوم بين رؤية ابن رشد الإصلاحية الداعية "لتناوب حكومات الأخيار" ورؤية ابن خلدون الحتمية القائلة ب"العصبيات "وحتمية الصراعات.
فالانتقال إلى الديموقراطية في لبنان يعني مواجهة حتمية العصبيات الطائفية الخلدونية والاستناس بالمشروع الإصلاحي الرشدي...
والانتقال نحو الديموقراطية في لبنان لن يكون له مضمونه التاريخي إلا من خلال قطيعة نهائية مع "دولة المستودعات الطائفية" ومع قانون "التملق المفيد للجاه السياسي الموصل للسلطة الجانية للأموال"، الذي أدى إلى تفاوت طبقي حاد بين أثرياء ثراء فاحش يتقلدون زمام الامور، وبين أكثرية كاثرة من الفقراء، فالأمر يتطلب بالدرجة الأولى مغادرة "مغارة علي بابا " والارتباط بأفق الحداثة والمعاصرة والانجازات السياسية والثقافية والعلمية والاقتصادية..
ويمكن حصر بعض ملامح الاصلاح المؤدي الى الديموقراطية في محاور اساسية ينبني عليها وينبثق عنها العديد من المحاور التي لا حصر لها:
1.الاصلاح مسألة إرادة، ووعي بالدرجة الأولى، وبالتالي فهو لا يحتاج إلا إلى قرار سياسي جاد من قبل افراد مؤهلين، فالاصلاح هو من "الشؤون الإنسانية " ومن حق الشعب، وهو أمر إرادي ومطلبي، وهو عملية اختيار واعي قبل كلّ شيئ.
2.لا بد لكي ينجح الاصلاح،من وضع اختيارات ورؤى قانونية تتلائم مع المناخ العام للعصر وللمعطيات ولخيارات الشعب اللبناني، وهذا يتطلب إصلاح دستوري ينسجم مع "المفاهيم الانسانية بأوسع معانيها "، منبني على فلسفة تحترم الإنسان وحريته، وتقبل تنوع الأفكار والمعتقدات، وتحترم الكائنات الانسانية منها وغير الانسانية بما فيها الطبيعة والبيئة الجغرافية، وتتناغم مع الكون وسيرورته... ويترافق كل ذلك مع طرح فكر مستنير من خلال الاصلاح التربوي الشامل وتأسيس الوعي عند الأفراد والأجيال ليحل محل العقلية " الطائفية " والسلوك " التملقي"، بحيث يصبح كل فرد لبناني قادر على الاختيار العقلاني الواعي الهادئ الهادف ويفهم حقيقة معنى "الانتخاب " وما يترتب عليه، فيعرف حقوقه تجاه نفسه وتجاه الآخرين وحتى تجاه المخلوقات الأخرى، وهذه هي حقيقة وجوهر "الديموقراطية ".
3.إن النوايا الحسنة والآراء الفاضلة والتصريحات المنعشة لا تكفي وحدها لأي عملية إصلاح، بل لا بد من تتلازم مع الأعمال والأفعال الصالحة والبنَّاءة وان تقترن مع مشاريع إصلاحية تطال كل شيئ على أرض الواقع.
4.التيقن والايمان بأن المستقبل يحمل في طياته ممكنات لا متناهية إذا حققنا الاصلاح من خلال المتاح من الممكنات في الحاضر كما ينبغي.
5.الدورة السياسية الاصلاحية في الدول هي تطور دائم مستديم وسيرورة مستمرة ومتواصلة، لذلك على الساسة التحلي بالوعي الكافي بأن مفهوم "الدولة " يرتبط ب "التداول" وانه لا مكان لزعيم "لازق" أبدي بل أن التعاطي بالشؤون العامة ينبغي ان يكون من خلال تعاقب "حكومات جيدة "، يرعون الإصلاح ويواصلونه من خلال سيرورة حتى تنتقل الامور من الأسوأ إلى السيئ الى الجيد إلى الأفضل...وهكذا في تطور دائم مستديم، وهذه سُنَّة كونية وايقاع دوري للحياة، كما أن هذه الرؤيا تحرر السياسي من فوبيا الكرسي والشك بالآخرين وتمنح الفرد السلام، فينطلق للعمل والابداع.
خلاصة:
إنّ العالم اليوم ينظر إلى لبنان بوصفه البلد العربي المرشح أكثر من غيره ليكون بلد الديموقراطية الحقيقية في المنطقة. وليس على اللبنانيين سوى المضي بأسرع ما يمكن وأعمق ما يمكن للإعداد للانتقال من " التقاسم والتناوب التوافقي " ذاك "المؤقت الدائم " نحو "الديموقراطية الحقيقية، وان الاستمرار في الوضع" المؤقت "يعني الاستمرار في دائرة "السلطة مجلبة للمنفعة " الذي يعني أيضا الاستظلال بمظلات "الطائفية " وهو ما يقع على طرفي نقيض مع دولة الحق والقانون والمؤسسات والديموقراطية،لذلك لا بد من وضع حد لامكانية الكلام عنه بواسطة الماضي،فلبنان يسعى اليوم نحو أفق جديد\ ولا يمكن للانسان أن يشق طريقه نحو الحرية إلا عبر الجمال والاصلاح احد أهم وجوه هذا الجمال.
هوامش:
1- ابن خلدون، المقدمة، لجنة البيان العربي، القاهرة، ط 1959، الجزء الثالث ص 903 - 913
2- المصدر السابق نفسه ص 913
3-ابن رشد، تلخيص الخطابة لأرسطو. لجنة تحقيق التراث، القاهرة، ص.164
دبي/ 26 تشرين الثاني 2006
Marwa_kreidieh@yahoo.fr
http://www.maktoobblog.com/marwa_kreidieh