الديمقراطية التوافقية تُعطل قيام الدولة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
رفعت قوى المعارضة اللبنانية في المدة الأخيرة سقف مطالبها، فمن الرغبة في المشاركة بالحكم عبر ما سمته "بالثلث المعطل"، إلى المطالبة برحيل الحكومة اليوم، وصولاً ربما غداً إلى المطالبة بانتخابات نيابية مبكرة. وأتى هذا التصعيد من منطلق أن هذه الحكومة باتت "فاقدة الشرعية"، بسبب استقالة وزراء الشيعة منها، والذين يمثلون حسب رأي المعارضة، أوسع شريحة في المجتمع اللبناني، متذرعين لتبرير مواقفهم التصعيدية هذه، بالفقرة "ي" من الدستور اللبناني حيث جاء "أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".
قد يظن المراقب والمتابع من بعيد لتسلسل الأحداث على "الساحة اللبنانية"، أن هكذا مواقف ومطالب هي معقولة، ومنطقية وربما محقة. يبقى أن النظر من بعيد هو أمر، ومعطيات الواقع المُعاش على الأرض هو أمر آخر."وهذا الآخر، هو أن المستجدات السياسية والأمنية ليست دائماً على شاكلة ما يقال وُيوصف، أو يعلن عبر وسائل الاعلام، إذ أن المُبيّت والمضمور، قد يكون مختلفاً ومغايراً تماماً، لما هو ظاهر على الملا. والحقيقة هي أن هذه المعارضة لاتسعى وراء وزارات، ولا تناهض الدولة طلباً للمشاركة في الحكم، كما أنها لا تجتهد كما تدّعي لتصحيح خللاً تمثيلياً ما، بل هي في الواقع موكلة بأمر مهمة ملزم، ليس لها حياله من خيار، اللهم سوى التنفيذ. وأهداف هذه المهمة ومراميها ليست أقل من تعطيل قيام الدولة الفاعلة والقادرة، عن طريق العمل الدؤوب على وضع العصى بالدواليب، من أجل افتعال الفتنة، وصولاً إلى إحداث الفراغ الدستوري المنشود.
وبما أنه ليس خفياً على أقطاب المعارضة وأعضائها الأشاوس، أن مطالبتهم هذه بالاندماج في الحكم القائم، هي هرطقة دستورية، وانحراف مبين عن مبادىء وأسس الديمقراطية الصحيحة بشكل عام، واتفاقية الطائف بشكل خاص، تراهم يتلطون وراء ادعاء غوغائي مفاده أن "الديمقراطية التوافقية" المعتمدة في لبنان، تخولهم المطالبة بالمشاركة في الحكم.
والحقيقة أن النظام التوافقي اللبناني على عوراته، يشدد ويؤكد على أهمية دور المعارضة في مراقبة أداء الحكومة، بهدف محاسبتها ومساءلتها عند ارتكابها المحظورات، أو في حال تقصيرها عن أداء واجبها. وإذا كانت المشاركة في صناعة القرار، والتوافق على الأمور المفصلية، والمصيرية، مرجوة ومطلوبة من كل قوى المجتمع، المعارضة منها كما الموالية، لا بد في النهاية من وضع حد فاصل للجدل القائم من أجل الولوج إلى القرارات الحاسمة. وهو مهمة تعود مبدأياً إلى الأكثرية المتواجدة في السلطة، وتتم عبر نمطية التصويت، المعتمدة في كل الأنظمة الديمقراطية الصحيحة. إن الشورى هي بالمطلق نهج شريف وسليم، يميز تعاطي الحاكم العادل والغير مستأثر، أو المتفرد بالسلطة. ولكن يجب أن تظل هذه الشورى ضمن أطر محدودة، ومحصورةً بالمهل، على أن لا تتعدي مشاركتها في صناعة القرار مراحل محدودة، وإلا وقع الحكم بالمراوحة والجمود والتكبل والعجز، بسبب عدم إمكانية الخروج بقرارات نهائية. أما التلطي وراء ضرورة الاجماع فيما يخص كل الأمور، وحول حتمية الاتفاق على كل المعطيات، حتي تستقيم العدالة، وتتم المشاركة الفعلية، فهو تصرف أرعن، يندرج تحت عنوان النفاق المتعمد لأجل غايات أخرى مبيتة.
إن النظام التوافقي ليس عاطلاً مئة بالمئة، ولكن مشكلته الأساسية تكمن في قابليته للتفسيرات والتأويلات المختلفة، فاتحاً بهذه الطريقة المجال من جهة لايواء كل أنواع المنظرين والمتفلسفين، ومن جهة أخرى لاحتضان الكثير من المنافقين والدجالين والمخربين. لأنه وبواسطة هؤلاء وعلى يدهم يحصل التحوير والانحراف المهلك. وبدل أن يعمل هذا النظام التوافقي على لملمة الشقاق بين مختلف شرائح المجتمع وأطيافه ومذاهبه، تراه يساعد على تفاقم عملية التمترس، بسبب التحفيز المتعمد للتنازع الدائم على شغل المراكز والوظائف العامة، ناهيك عن التكالب على تناتش المغانم والمكاسب المادية، على حساب الطرف أو الطائفة الأخرى.
من هذا المنطلق قلنا أن "الديمقراطية التوافقية" تُعطل بل تُقوض قيام السلطة الفاعلة والقادرة على مسك زمام الامور، كما هو مفترض بكل سلطة. ولهذه الأسباب اعتبرنا أن هكذا نظام يشتت الإرادة العامة، بدل أن يجمعها ضمن أطر ثابتة ونهائية، وغير متحركة تماشياً مع شهية كل فريق ورغبته الغرائزية للاستقواء على الدولة. وفي سياق هذا المنطق يمكن تفسير أسباب هشاشة الكيان اللبناني، وركاكة بنيانه، وقابليته للتصدع الدائم، عبر انفتاحه على كل التيارات والاهواء الخارجية، والتي تلاقي دائماً من تتلاءم وتتناغم معه في الداخل، فتوظفه خادماً أميناً لمصالحها. وهل نستغرب بالتالي قيام الكيانات الرديفة والمنافسة للدولة كالميليشيات، والتحزبات الطائفية على أنواعها، ناهيك عن التكتلات العائلية التقليدية والتي تمارس توارث السلطة بانتظام، بمباركة ورضى رجال الدين، والتي تشكل معهم كياناً واحداً متكاملاً، يهدف ألى إعلاء سد منيع بوجه كل دم جديد وكل كفاءة، طامحة لخوض غمار الشأن العام، وبوجه أي قوة تغيير خلاقة وواعدة بالتطور والنهضة. أن النظام الطوائفي القائم، والديمقراطية التوافقية، هما أخوان توأمان يعملان بالتكافل والتضامن على تكبيل الأوضاع الإجتماعية، عن طريق تجميدها ضمن الاطر التقليدية الرجعية.
وللاضاءة على منطق المروجين لهذه الديمقراطية الواهية، لابد من إعادة قراءة البند الثاني الوارد في ورقة التفاهم المبرمة فيما بين التيار الوطني الحر وحزب الله حيث جاء ما يلي: "إن الديمقراطية التوافقية تبقي الركيزة الأساسية للنظام اللبناني، وهي تشكل تجسيداً فعلياً لروح الدستور، وتشكل جوهر الميثاق الوطني القائم على مبدأ التعايش. وتبقى كل مقاربة للأمور التي تخص المجتمع ككل على أساس قاعدة الأكثرية، رهن بتأمين قيام الشروط المطلوبة لذلك، ولقيام بالتالي النظام الديمقراطي الصحيح حيث يتمتع المواطن بكل أبعاد ومعاني المواطنية الحقة."
يفهم من وراء هذا البند الاتفاقي، أن حزب الله بامكانه أن يتخلى عن قاعدة الأكثرية العددية، والتي كانت وما زالت تعمل لمصلحته إن في الانتخابات النيابية، وإن في مجال عرض العضلات، ونفش الريش الذي يرافق كل استعراضاته الشعبوية والعسكرية. وهذا التخلي إنما هو حاصل من أجل تطمين وارحة واجتذاب قاعدة العماد عون المسيحية والتي طالما توجست من منافسة عنصر العدد هذا عند حزب الله. ولكن مقابل ذلك يطلب الحزب الثمن الباهظ، أي وضع مسألة المواطنية، في الثلاجة إلى أن تتغير الأوضاع، وتأتي أوضاعاً أخرى أكثر ملاءمة، دون تحديد ماهية ومضمون هذه الأوضاع. وبما أن المرحلي هو دائماً الذي يدوم، قد يكون تحول المواطن من مجرد عدد تابع لطائفة أو مذهب أو مجموعة، ألى كيان فردي له حقوق وواجبات، وقائم بحد ذاته بعيداً عن انتمائه الطائفي، مؤجل إلى أجل غير مسمى.
ومسألة اللامواطنية هذه، تعمل طبعاً لمصلحة انتعاش وازدهار وتمدد كل الكيانات والأنظمة الشمولية، والتي تعتبر أن المواطن خلق فقط ليخدم هذه القضية أو ذاك الشعار الحزبي. ولقد تجلى تصرف من هذا النوع، إبان حرب تموز الماضية والتي حرّم خلالها حزب الله أي مراجعة أو انتقاد لحربه مع اسرائيل، تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
وأخيراً لا بد من التأكيد على ضرورة التخلص من هذا المستنقع، وعلى توحيد الجهود من أجل التحرر من هذه الرمال المتحركة. وذلك لن يحدث سوى بالعودة إلى أطر وأسس الديمقراطية الحق، التي تحرم تقدم وغلو أي معيار أو شعار على قيمة الانسان الفرد، وتدين تكبيل عجلة الحياة السياسية والاجتماعية بانتظار توافق أو وفاق متعذر المجىء. والسلطة في النهاية هي قرار. والقراريجب أن يعود لإرادة الأكثرية الشعبية المتمثلة بالأكثرية الحاكمة. وكل كلام خارج عن هذا الإطار هو هراء وتدجيل
كاتبة وباحثة سياسية لبنانية
mahaleb@hotmail.com