معركة بدر... ليست إسلامية خالصة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
شهادة الكتاب الكريم
قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم (ويسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم واطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) / الانفال 1 /
تجمع التفاسير القرآنية أن سورة الأنفال نزلت في بدر، أو لنقل في شؤون معركة بدر، وذلك فيما يتصل بأكثر من قضية تخص المعركة، بعض مجرياتها، وبعض ملابساتها، وعن علاقة المؤمنين بالنبي، وفيما يتعلق ببعض الوقائع ا لتي حصلت أثناء المعركة، ومسألة الإمداد الملائكي بأمر الله عز وجل، ومن ثم قضية الغنائم التي حصل عليها المسلمون بعد أن إندحرت قريش وأنتصر المسلمون.
فالسورة على أكثر الأراء مدنية بدرية حسب تعبير المفسر الكبير القرطبي، مستندة في ذلك على ما جاء عن الحسن وعكرمة وجابر وعطاء، فيما يرى إبن عباس أنها كذلك، اي مدنية بدرية إلاّ سبع آيات، من قوله تعالى (وإذ يمكر بك الذين كفروا) إلى آخر السبع آيات.
تروي الروايات أن سبب النزول هو الخلاف بين مقاتلي بدر حول الغنائم التي احتووها بعد نهاية المعركة، نقرا ذلك في مسند أحمد 5 / 324، حيث جاء فيه (... عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس فهزم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، فأكبت على المعسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منّا،نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وخفنا أن يصيب العدو منه غرة وأشتغلنا به، فنزلت أية ـ يسالونك عن الأنفال ــ فقسّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفاق بين المسلمين) / ويمضي الخبر الهيثمي في المجمع 6/ 92 ورجاله ثقات حسب معطيات علم الرجال السني، ومصادر أخرى.
إن الرواية تشير بوضوح أن ثمة خلاف نشب بين المقاتلين المسلمين حول المغانم، فهناك فريقان، كل منهما يدّعيه، وفلسفة الدعو ى من قبل كلا الطرفين تثير أكثر من سؤال، بل وتدعو إلى قراءة جوانية لسيرة الصحابة مهما كانت منزلتهم، ومهما كان موقعهم .
فريق يدّعيه لأنه هو الذي حازه، هو الذي تمكَّن منه، حيث كان الفريق الآخر مشغولا بحماية النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، فيما ينتصب الفريق الثاني معارِضا، فهو أحق بهذه الغنائم لأنّه استمر بطلب العدو، وبالصميم من ذلك، إنَّه كان مشغولا بحماية رسول الله من العدو. في حين كان المفترض بهذا الفريق أن يرتفع بمستوى موقفه على هذه الفلسفة المادية . لقد سما في موقفه حقا في البداية، ولكنه انتكس في موقفه فيما بعد ولو جزئيا ، لقد شاب الموقف الأول ما يشينه، ما يخلطه بغير روحه وشفافيته . وهكذا يسجل كل من الفريقين نقطة سلبية في تاريخ سلوكه، الأول لأنه تناسى شركائه في القتال والتضحية والجهاد، والثاني لمعادلته الغريبة بين شرف التضحية في سبيل المقدس من جهة وبين ثمن مادي زائل كقيمة تعويضية أو جزائية على ذلك من جهة أخرى.
الصحابي (عبادة بن الصامت) يسجل تاريخا مهما هنا، فيما إذا صحت روايته، فعن ابن اسحق (حدَّثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا، عن سليمان بن موسى الاشدق،عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين إختلفنا في النَّفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، وجعله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقسَّمه عن بواء...) / المصدر ص
خرافة الروح الخالصة
والحقيقة يمكن أن يستشم الباحث أن هناك خلافا قويا حول الغنمية من الأية الكريمة، فقد كانت هناك مشكلة كما يبدو، مشكلة التوزيع، توزيع الغنائم، فجاء الأمر الإلهي بتوزيعها على شكل معين، وعندما تدعو الآية الكريمة المقاتلين المسلمين إلى تقوى الله وإصلاح ذات البين، فإنما هي إشارة قوية إلى خلاف مطبوع بطابع دنيوي خالص.
لا أريد أن أخلص بأن دوافع المقاتلين المسلمين كانت مادية على نحو الخلوص ، وإن المعركة أساسا رحَّب بها المهاجرون على أمل أن يغنموا ما يسدون به حاجتهم، ويعالجون به مشاكلهم المعاشية، فهم هاجروا ولم يملكوا شيا في المدينة، ولكي يتخلصوا من كونهم عبئا على الأنصار، بل أريد القول، أن المقاتلين المسلمين شأنهم شان البشر، بشكل عام، حتى لو كانوا يحملون في ضمائرهم أنظف عقيدة، وأرقى دين، تتنازعهم المادية والروحية، فبالنسبة للفريق الثاني، أي الفريق الذي تكفَّل حماية النبي الكريم، قد كانوا على درجة عالية من السمو الروحي والعقدي، ولكن ليس استمرار مثل هذا السمو ضرورة من الضرورات، وإنما هو كأي موقف نفسي وإرادي قابل للتغيُّر، بل ربما قابل للإنقلاب رأسا على عقب. ولكن لا ننسى أن الغنيمة كانت تشكل إحدى ركائر إقتصاد القبيلة آنذاك، وبالتالي، ليس غريبا أن يكون هناك خلاف على توزيعها. فليس التاريخ الإسلامي بدعا، بل هو تاريخ زمني، يتأثر بعوامل تكونه وصيرورته وبيئته. وطالما تتملك النفس غاية مثلى، نابعة من إعتقاد مثالي رفيع، وتندفع هذه النفس على مستوى ذلك الإعتقاد، وربما تقدم ما يحوز على رضا العقيدة، ويحوز على شاهدة التاريخ بروحية الموقف، ولكن ربما يتلاشى فجأة على أثر إمتحان دنيوي سريع، وذلك من أسرار النفس الإنسانية، والتجربة البشرية غنية بهذا الواقع المر حقا.
تصنيف الدوافع بين المادة الروح على نحو الإستقلالية الكاملة في تفسير وتحليل معارك النبي الكريم نوع من القراءات الساذجة في تصوري، وصاحب مثل هذا التصنيف يدخل في مملكة الحكم التسلطي، من خارج الطبيعة، ليس خارج الطبيعة البشرية بمعناها الكلي ، بل خارج حتى طبيعته هو، هو بالذات، فكأنه ذاك المخلوق البشري الذي استوى على ماهية واحدة، بسيطة، تضاهي بساطة الوجود في الفلسفة الميتافزية المدرسية.
لقد هرع بعضهم تجاه الغنائم، يريد أن يستفيد، يريد أن يغنم، فيما كان بعضهم يلاحق المشركين، وآخرون حاطوا برسول الله خوفا عليه من القتل، ولكن هذا التصنيف لا يمكن أن يحافظ على نفسه كلية، ولذلك حصل الخلاف حول الغنائم، وأكثر الروايات التي وردت في موضوعة الغنائم تشير إلى هذا الخلاف، خلاف على من يستحقها، ومن الغريب إنه ليس خلافا جزئيا، بل كان خلافا كليا، فالغنائم لابد أن تخضع لحق واحد، وليس لقاعدة التقسيم، وبذلك كان الفكر أو النزعة الإستحواذية قد سيطرت على فكر هؤلاء، إذ كلٍ من الفريقين يدعي الحق المطلق. ربما يرد بعضهم بأن القرآن الكريم أعلن رضا الله تعالى عن الصحابة، وعليه، تكون كل محاولة لنقد الصحابة إنما هي محكوم عليها بالحيود عن كتاب الله. ولا أريد أن أدخل في حوار معقد حول هذه النقطة بالذات، ولكن أقول حتى لو ان ذلك صحيحا، فهو لا ينفي شرعية وموضوعية نقد بعض المواقف التي صدرت من الصحابة، أيا منهم، بلا تمييز، فرضا الله عن أي إنسان لا يعني أنه لم ولن يخطأ، بل لا يعني أنه لم ولن يأثم !
إذا كان هناك منطق الغنيمة المادية، فإن هناك أيضا منطق الغنائم الجسدية !
إشكالية نقد الصحابة (رض)
نقرأ في سيرة إبن أسحق (حدَّثني عبد الواحد بن أبي عون، عن سعد بن إبراهيم،عن أبيه عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي أُمية بن خلف، وأنا بينه وبين إبنه، آخذ بأيديهما: يا عبد الإله /، من الرجل منكم ا لمُعلم بريشة نعامة في صدره ؟ قال: قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل، قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي ــ وكان هو الذي يعذٍّب بلالاً بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حَميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد ــ فلما رأه قال: رأس الكفر أُميَّة بن خلف، لا نجوت إن نجا، قال: قلت: أي بلال أبأسيريّ، قال: لا نجوتُ إنْ نجا. قال: قلتُ: أتسمع يابن السوداء، قال: لا نجوتُ إن نجا. قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أُمية بن خلف، لا نجوتُ إنْ نجى. قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المُسكة، وأنا أذب عنه. قال: فأخلف رجل السيف، فضرب رجل إبنه فوقع، وصاح أُمية صيحة ما سمعت مثلها قط. قال: فقلتُ: أنج بنفسك، ولا نجاء بك فوالله ما أغني عنك شيئا. قال: فهبروهما بأسيافهم، حتى فرغوا منهما. قال: فكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالا، ذهبت أدْراعي وفجعني بأسيريّ) / السيرة ص 373 /
لقد كان أُمية بن خلف وأبنه غنائم بالنسبة لعبد الرحمن بن عوف، غنائم جسديَّة، تدر عليه غنائم مادية ضخمة، ولم يكن مرتاحا لموقف بلال ليس من زاوية دينية بحتة، بل لأن موقف بلال سبب لعبد الرحمن بن عوف خسارة ماديِّة فادحة، فقد أفقده غنيمته، تلك الغنيمة ذات القيمة الكبيرة. ولكن لماذا لا نُخضِع موقف بلال هو الآخر إلى النظرة الدقيقة، فالرجل حال لقائه بأُميَّة هذا هاجت آلامه، لقد كان أُميَّة سيده، يعذِّبه عذابا شديدا، فهل تمضي تلك الذكريات بلا حساب ؟ حتى وإن كان بلال قد إمتلا إيمانا من أخمص قدميه إلى قمة رأسه ؟ من المستحيل تجريد النفس البشرية بهذه الطريقة الطهورية السماوية الخيالية. لقد كان بلال يقول (لا نجوتً إن نجا)، هل هي ذات العبارة تتكرر على لسان بلال لو لم يكن أمية الذي كان يطرحه على الرمل الحار، ويثقل صدره بتلك الصخرة الحارة الثقيلة ؟
لم تكن المقتلة بين قريش والمسلمين خالصة الهوية، فلم يكن (هم) ا قريش الأساسي القضاء على دين محمد وهي تجهز تلك الحملة الكبيرة، بل كان همها تحرير قافلتها في البداية ، ومن ثم تطورت إلى موقف جوهري، فإن محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر يكون رسم بداية خطرة بالنسبة لقريش، تهديد طريقها التجاري الحيوي إلى الشام، فإذا استطاعت قريش اليوم تحرير قافلتها، فمن يضمن لها أن محمداًلا يعيد الكرة، فيفسد عليها تجارتها إلى الأبد ؟
كان هناك سبب عميق يعتمل في تفكير صناديد قريش وقادتها الكبار، ذلك هو مصيرها التجاري، وتاليا، مصيرها برمته، ولم تكن ضربات المسلمين وإصرارهم على القتال بهذه البسالة والإندفاعة بعيدة عمّا لقوه من تعذيب وتشريد وتهجير وتحقير وتسليب على يد قريش، لم تكن المعركة بين توحيدٍ خالص وصنميَّةٍ خالصة، بل كانت بين قريش والمسلمين، والأفكار جزء من تكوين كل جماعة، ولكنها ليست هي كل الجماعة بطبيعة الحال. كان للماضي صداه، وللغريزة صداها، وللعقل صداه، وللشعور صداه، وللعقيدة صداها... وبهذه اللغة نفهم التاريخ، ونستفيد منه.