عهد جديد من الحوار
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
انتهى العهد الألماني، وابتدأ العهد التركي. ولا أتحدّث هنا عن حكم سياسي أو استعمار أو غيره، إنّما صلب الحديث عن الحوار. انتهت ذكريات ألمانيا. ومحاضرتها والغضب الذي تبعها والدماء التي أهرقت تبعا لسوء فهمها. وابتدأت الذكريات التركية تتشكل بأنصع أمثلتها وسموّها.
حلّ البابا بندكتس السادس عشر ضيفا على تركيا، لمدّة أربعة أيام. وقد كانت الإشارات والرموز والرسائل التي حرص الفاتيكان على توجيهها، بهدف التأسيس لعهد جديد من التقارب بين المسيحيين والمسيحيين من ناحية، وبين المسيحيين والمسلمين من ناحية أخرى.
أولا، عملت الزيارة على تعميق الحوار المسكوني، أو الحوار بين أتباع السيد المسيح، وقد رأينا كيف كان مؤثرا وعميقا اللقاء بين البابا والبطريرك المسكوني برتلماوس الأوّل. إذ كانت له دلالات كبيرة تبشر بمستقبل أكثر تعاونا وتماسكا وتعاضدا وتآخيا بين المسيحيين. وجاء البيان المشترك الذي وقع عليه الزعيمان الروحيان مؤكدا على ضرورة العمل المشترك بين أعضاء الكنيسة، رغم الاختلافات والانقسامات، ورغم الحقيقة والواقع لينمّ عن درب الوحدة المسيحية الكاملة الذي ما زال في أوّله. وقد ركز البيان المشترك على ثلاثة محاور رئيسة: أوّلها - رسالة إلى الدول الأوروبية لكي تتمسك بالمبادئ المتعلقة الإنسان وحقوقه غير القابلة للتصرّف بعين الاعتبار وخاصة الحرية الدينية، الشاهدة والضامنة لكل حريّة أخرى. وثانيها - أنّ الإعلان المشترك أتى على ذكر الشرق الأوسط، حيث عاش المسيح، وحيث "يعيش منذ قرون إخوتنا المسيحيون: نرغب بأن يعود السلام إلى هذه الأرض ويتعزّز التعايش الودّي بين مختلف سكانها، وبين الكنائس، وبين مختلف الأديان الموجودة هناك". وثالثها - تشجيع إقامة علاقات وثيقة أكثر فأكثر بين المسيحيين وتعزيز الحوار الحقيقي بين الأديان بهدف مكافحة كل أشكال العنف والتمييز.
ثانيا، عملت الزيارة على تعميق الحوار الإسلامي المسيحي.لقد كان الخوف باديا على الأجهزة الأمنيّة التركيّة المتحسّبة لأيّ طارئ، وكان السؤال: هل من الممكن أن تمضي الزيارة " على خير" ؟ في وقت ما زالت فيه الذكرى حاضرة لمحاضرة ألمانيا، وكأنّ ما قاله البابا أمسى غلطة أو خطيئة لا تغتفر. كان التحدّي، وقبلته تركيا، ربّما بغير حماس، نظرا للبرتوكولات الدبلوماسية بعدما وافقت على الزيارة أصلا، واستثمرتها لتقوية الضغط لإدخالها في المنظومة الأوروبية. وقد كان حضور رئيس الحكومة أردوجان على رأس المستقبلين مفاجأة العالم، ومبعث طمأنينة للنفوس، بعد إعلانه من قبل عن عدم مقدرته للمشاركة في الاستقبال. أثلج الصدور بمشاركته، واجتمع مع البابا للحظات، وخرج مرتاحا، كيف لا ؟ والبابا طمأنه أنّه لا يعارض دخول بلاده في الاتحاد الأوروبي. طبعا، وضّح الفاتيكان فيما بعد على لسان ناطقه الإعلامي الرسمي، أنّ الفاتيكان ليس هيئة سياسية ليقرّر الموافقة أو الرفض، لكنّه مرتاح للخطوات الجديّة التي تنتهجها تركيا من أجل هذا الهدف الحيوي.
أمّا أبرز ما أفرزته الزيارة، فهو التأكيد على ضرورة توقير دين الآخر، وضرورة تعميق الحوار الإسلامي المسيحي في عالم بات يعج بالأصوات الداعية إلى صراع الديانات والحضارات والجهالات. البابا لم يكتف بالاجتماع بمدير الشؤون الدينية في تركيا علي بردق أوغلو، بل خلع نعليه ودخل إلى الجامع الأزرق في أسطنبول، وضمّ يديه مصليا... داخل الجامع. وكرّر أكثر من مرّة أنّه يحترم الإسلام والمسلمين. ليكون ثاني حبر أعظم يدخل جامعا بعد يوحنا بولس الثاني في دمشق عام 2001.
وهكذا، انتهى عصر ألمانيا الذي شنّج العالم بعض الوقت. وابتدأ العصر التركي والذاكرة الطيّبة والمبادرات التوفيقية. انتهى عهد الاقتباس من الإمبراطور التركي مانويل باليولوغوس الثاني في القرن الرابع عشر... ليأتي، وعلى لسان البابا ذاته، في أول يوم من الزيارة إلى تركيا اقتباس آخر، على لسان البابا غريغوري السابع وهو يقول في عام 1076: إنّ الكرم الذي أظهره أمير مسلم في شمال أفريقيا لرعاياه المسيحيين سببه "أنّنا نؤمن بالإله نفسه على الرغم من أنّ ذلك لا يتم بنفس الطريقة."...
هذا هو الاقتباس الجديد الذي يهدف إلى التأكيد على عمق الرابطة التاريخيّة بين الديانتين، وعلى أنّ هيئة دينية كبيرة، ذات سمعة عالية مثل الفاتيكان، لا يمكن أن تدعو أو تعمل على تأجيج الصراع الهدّام بين أتباع الديانات، على اختلاف طرق التعبير عن العبادة الصادقة لله وهي عبادة بالروح والحق. ومن المؤسف أنّ كل الأقلام التي انبرت للتعليق على محاضرة سبتمبر قد نامت اليوم في أغمادها. مع أنّ المطلوب منها اليوم هو أن تبرز أهميّة الإشارات والمبادرات الطيّبة التي تضمنتها زيارة تركيا. أين ذهبت تلك ألأقلام ؟ ولماذا لا تعلق بالإيجاب اليوم، كما علقت بالسلب في الأمس القريب؟ هذا هو وقتها، فلماذا تغيّبت؟عليها اليوم أن تصحو وعلى الفضائيات العربية أن تتهيأ لتعميق الأسس المتينة للحوار الإسلامي المسيحي والذي نقلته زيارة تركيا، بدون أدنى شك، إلى مراتب عالية. ومن الناحية الأخرى، فعلى أصحاب النفوذ والسلطة الدينية اليوم أن يعملوا جادّين ودون أي تأخير على ترسيخ البناء الحسن على هذه الأسس الجوهريّة. وبدون هذه الجهود مجتمعة يبقى الحوار مجاملة شكلية وعقيما ودون ثمار ترتجى.
نعم، كان التوتر قائما قبل الزيارة، لكنّه اليوم قد زال، ليس بمغادرة بندكتس للأراضي التركية ممّا أتاح للسلطات التركية أن تتنفس الصعداء، بل للنتائج الايجابية التي سيكون لها وقعها الطيب في الشرق وفي العالم. فالحوار بشقيه المسيحي المسيحي والمسيحي الإسلامي، سيسهم إن قام على أركان ثابتة وهِمَمٍ وثابة، في صنع السلام والحفاظ عليه. وهو عطش العالم الأكبر في الوقت الراهن وفي هذا الزمن العصيب.
www.abouna.org
rifatb@hotmail.com