كتَّاب إيلاف

ألف باء عقلانية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

يبدو المفهوم البسيط المباشر لمصطلح "عقلانية" أنه إعمال العقل في معالجة الإنسان لأمور حياته، سواء الخاصة أو العامة، وهي مقاربة صحيحة للمفهوم، لكنها تتسم بعمومية تكاد تصل بها إلى خواء المضمون، فما نسميه إعمال العقل مفهوم واسع وملتبس، وقد اعتاد الإنسان إسناد كل توجهاته وفعالياته إلى عقله، بداية من استطلاع مستقبله عبر النجوم وقراءة الكف، إلى تصميم سفن الفضاء وبرامج تكنولوجيا المعلومات، وإذا كان مفهوم "عقلانية" يتسع لكل هذا فإنه يكون في الحقيقة لا يعني شيئاً على الإطلاق.
يرجع جزء من هذه الإشكالية إلى محمول كلمة "عقل" في اللغة العربية، فهي في سياقنا هذا "اسم" يشير إلى وظيفة ننسبها إلى جزء معين من جسم الإنسان وهو "المخ"، إلا أنها في الأساس "مصدر ثلاثي" من الفعل "عَقَلَ" بمعنى "رَبَطَ"، إذ يقال "عَقَلَ الدابة" أي ربطها إلى وتد في الأرض، والمحمول المستحدث للكلمة على علاقة وثيقة بأصلها، إذ يعني العقل تحكم الإنسان في نزواته وانفعالاته، كذا الوعي بالثوابت والضوابط المتعارف عليها للسلوك، بذا تكون مهمة العقل تحقيق التزام الإنسان بقواعد ومرجعيات متعارف عليها، وثابتة ثبات الوتد الذي تربط إليه الدابة، كي لا تتجاوز في سعيها الحدود المسموحة لها، وبالتالي يكون عدم الوعي بهذه الحدود، أو الخروج عليها عمداً وبوعي، هو عمل مضاد للعقل أي لا عقلاني.
ورغم الإزاحات والإضافات التي تطرأ على مفاهيم الكلمات مع الاستخدامات وتغير الأزمان والأحوال، إلا أن أساس مفهوم الكلمة يبقى غالباً ملقياً بظلاله على المفاهيم، ومن هنا ندرك أن اللغة ليست مجرد وعاء للثقافة أو أداة من أدواتها، إنما هي أيضاً تحمل مضموناً خاصاً، يطبع فكر الإنسان بطابعه، ولا يستطيع الفكاك أو الخلاص منه، حتى لو انتقل إلى استخدام لغات أخرى غير لغة الأم، إذ تبقى هذه الأخيرة المحدد الرئيسي لثقافة الإنسان، وغيرها مجرد روافد ثانوية.
في المقابل إذا انتقلنا إلى اللغة الإنجليزية نجد المرادف المفترض لكلمة "عقل" هو reason والمرادف لكلمة "عقلانية" هو rationalism ، ويعود المحمول الأساسي للكلمة الأولى إلى العلاقة السببية بين الظواهر، ويتسع محمول الكلمة الثانية لإدراك العلاقات النسبية بين الظواهر بصفة عامة، ولا نجد للعقل هنا وظيفة إلزام أو تقييد بثوابت، لكنه يحمل مفهوم السعي الحر لإدراك واكتشاف العلاقات بين الأشياء والظواهر، كما يحمل بالإمكان وظيفة تشكيل علاقات جديدة بينها، وهو ما نسميه الاختراع أو الإبداع.
اللغة هنا ليست فقط مرآة لطبيعة العقل وقدراته، لكنها أيضاً - وربما بالدرجة الأولى - الحاكم والموجه لهذا العقل في عمله، وتظهر هنا المقارنة بين محمولي كلمة عقل في اللغة العربية والإنجليزية الفرق بين العقل العربي والعقل الغربي، ولا يكون من المستغرب أن نرى الشعوب العربية رهينة جمود يثمر تخلف، والغرب في حالة تطور يثمر تقدم، فالمسألة ليست فقط مرتبطة بعوامل مادية سلبية هنا وإيجابية هناك، ولا هي فقط راجعة لسيادة أيديولوجيات جامدة ومحافظة هنا، في مقابل ثقافة وفكر منفتح هناك، لأن الجذر الحقيقي هو أن كل جوهر يسعى لتحقيق ذاته، وقد نجح الجوهر (العقل) العربي في أداء وظيفته بربط العرب بثوابتهم، فربضوا صامدين حيث هم رغم دورات الزمن، ونجح أيضاً الجوهر (العقل) الغربي في أداء وظيفته، بالسعي لاكتشاف العالم والتحكم في صيرورة الحضارة الإنسانية، فوصلت شعوبه إلى ما وصلت إليه.
من هنا ندرك حتمية النتيجة التي انتهت إليها معركة ما نعرفه بالصراع الذي حدث إبان ازدهار الحضارة الإسلامية، بين دعاة العقل ودعاة النقل، والتي انتهت بانتصار النقل وخمود العقل بعد مرحلة الاجتهاد الأولى، فقد كانت المعركة في الحقيقة بين عقلين: عقل شرقي أصيل، وعقل متأثر بالعقل الغربي بالاتصال بالفكر اليوناني عبر حركة الترجمة، فما قد يظهر على السطح هو أن المعركة قد حسمها انحياز قوى سياسية مسيطرة لهذا الطرف دون ذاك، لكن دائماً ما يظهر هو انعكاس لما يختفي تحت السطح من جذور، هي تكوين العقل العربي ذاته، الذي لا نقول أن اللغة قد صاغته على ما هو عليه، ولكن أيضاً أن هذا العقل بمفهومه الفسيولوجي قد أنتج هذا المفهوم اللغوي، وفق ما يتناسب مع طبيعته الفيزيقية وإمكانياته، ولا يعني زعمنا هذا إنكاراً لدور العناصر البيئية الأخرى، اقتصادية وثقافية وجغرافية، إنما نقول أن طبيعة العقل الفسيولوجية تنجب المفاهيم اللغوية، لتعيد تلك المفاهيم انتاج منتجها، في دائرة مغلقة تتجاوب مع عناصر البيئة، التي قد تزيدها انغلاقاً وصلادة، وقد تخترقها فتحدث انزياحاً في اتجاه ما.
امتداداً لذات الخط كان ما يعرف بإغلاق باب الاجتهاد، ما نصر عليه حتى اليوم، وهنا أيضاً وبذات المنطقة نرى خطاب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي تحمل تسميتها (الأرثوذكسية) مفهوم التمسك بالثوابت والحرص على الالتزام التام بها، حيث يردد منظرونها بفخر أنها كنيسة آبائية، بمعنى التزامها بتعاليم الآباء، رغم أنه من المفترض أنها ملك الآن - وبذات القدر - للأبناء، ولهم أن يفهموا عقيدتهم بطريقتهم وكما يقتضيه زمانهم، بذات قدر الحرية التي كانت متاحة للآباء في زمانهم، لكن الحادث أن وراثة الأبناء للكنيسة الأرثوذكسية محكومة بشرط نسميه نهج "التسليم والتسلم"، ويعني أن يتسلم الآباء الوديعة (مجموعة الأفكار والطقوس والقيم والعادات) من الأجداد، ليسلمونها كما هي - غير منقوصة ولا مزيدة - إلى الأبناء، الأمر في جميع الحالات في حقيقته ليس من قبيل الحرص على صحيح العقيدة كما يبرر المبررون، وإنما أساسه عجز العقل عن أن يكون إلا ذاته، وذات العقل العربي هي الربط بوتد ثابت، قد يكون تفسيرات محددة للدين، وقد يكون العرف والعادات والتقاليد، المهم أن يكون ثمة ثابت ما يتم التقيد به، ويتفق هذا مع ما لا نمل م تكراره في المجال السياسي، من الحديث عن التمسك بثوابت الأمة، وإذا سألنا عن هذه الثوابت جاءتنا الإجابة شاملة لكل جوانب القضية التي نحن بصددها، فكل ما نراه ثوابت، أو نحن لا نرى إلا ثوابت، أو كأننا نرى الحياة مجموعة من الأوتاد المغروسة، تفترش كل الاتساع وإلى نهاية المدى، ولا سبيل لها أو لنا من حركة أو تحريك.
يرتبط بهذا مفهوم آخر هو مفهوم "الأصالة"، فلغوياً أصالة الشيء هي مطابقته لجذره، وعكسه "الزيف" الذي يعني المخالفة أو الابتعاد عن الجذر، لذا يحق لنا أن نعتبر أن أصالة العقل أو أصالة الإنتاج العقلي هي في مطابقته لجذره، أي في مدى تحقيقه للوظيفة المنوطة به، وهي عندنا ربط الحاضر بثابت محدد، هو حتماً يقبع في الماضي، الذي عليه يتحتم أن يكون القياس، فدرجة البعد أو القرب من هذا النموذج البعيد في جوف التاريخ هي التي تحدد الزيف والأصالة، الباطل أو الحق، ويترتب على هذا ما نسمعه دوماً من تعبيرات، مثل الغزو الثقافي والقيم الدخيلة المستوردة والحفاظ على الهوية، وكلها تعبيرات تأخذ موقفاً عدائياً من كل جديد، ليس بناء على فحصه وتبين ضرره علينا، ولكن الأمر يتحدد ظاهرياً، فالاتجاه القادم منه الأمور محل الرفض هو اتجاه معاكس لآلية عمل العقل العربي، الذي يشدنا إلى الوتد الثابت، فيما الفكر الوافد يعمل في الاتجاه المضاد، أما مسألة فحص هذا الفكر الجديد، وتبين علاقاته مع الواقع، لاكتشاف منافعه من مضاره، فهذا خارج عن نطاق عمل العقل العربي.
على الضفة الأخرى في الغرب تفهم الأصالة بذات النهج، لكن على أساس تحقيق العقل والفكر لوظيفته المفترضة، وهي اكتشاف العلاقات الطبيعية بين الأشياء والظواهر، وابتداع علاقات جديدة مثمرة، هنا تكون الأصالة في مدى التطابق مع الحقيقة الواقعية، مع الظروف والأحوال الكائنة هنا والآن، وعملية القياس سهلة وموثوقة نتائجها، إذ تدل عليها النتائج المتحققة على ضوء ما تجلب من منافع أو مضار، فالأصيل هو النافع والزائف هو الضار.
من هنا ندرك حتمية أن يكون ما نحاوله مع الغرب أو يحاوله الغرب معنا من حوار محكوم عليه بالفشل الذريع، فالعقلين - العربي والغربي - يعملان في اتجاهين متناقضين، عقلنا يعمل باتجاه الداخل أو الماضي، فيما العقل الغربي يعمل باتجاه الخارج أو المستقبل، فكل طرف يذهب لمائدة الحوار المجازية وهو يأمل في جذب الآخر لعالمه، وهذا لا يمكن أن يتحقق طالما هنالك اختلاف في معيار القياس، فمعيار قياسنا هو القرب من ثوابتنا، ومعيار قياسهم القرب من حقائق الواقع، وبالتالي يحاولون هم إقناعنا بما لا نستسيغه، وطبقاً لآلية لا تعرفها عقولنا، التي تري الصلاح والمنافع لا تأتي إلا من الاقتراب من الثوابت، على نمط الشعار السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وشعارات المطالبين بإصلاحات في فكر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، المنادين بالعودة إلى تعاليم الآباء، فهذا هو الإصلاح في مفهوم العقلية العربية، بغض النظر عن الدين الذي ينتمي إليه هؤلاء الراديكاليون الشرقيون، فيما نحاول نحن إقناع الغرب بما يفكرون ويتحركون في عكس اتجاهه.
المناداة بالعقلانية أي إعمال العقل في شرقنا إذن لا تكفي وحدها لتحديث هذه المنطقة، ومن غير المأمول أن يكون ثمة جدوى لصيحات الليبراليين العرب الجدد في صحارى العالم العربي، منادين بفكر التنوير، فالاستجابة الطبيعية والمتوقعة هي تخوينهم وتكفيرهم، والحق أنهم كذلك ماداموا يعملون في عكس اتجاه عمل العقل الجمعي للشعوب، التي ترى أنهم ينادون بما يعوقها عن الوصول إلى الصلاح الذي تراه، ولا تستطيع عقولها أن ترى غيره، بل أن غيره في شرعها فساد صريح!!
الإشكالية إذن أن تكون ثمة طريقة لتغيير آلية عمل العقل العربي، والتخلص من محمولات مفهومه العتيقة، ليتحول إلى آلية جديدة صالحة للتحديث وليس للتقهقر والتجميد، هنا قد يلعب تغلغل التكنولوجيا وأساليب الإنتاج والمعرفة الحديثة دوراً، وقد يلعب ما يترافق معها من تغير إجباري لنظم التعليم دوراً آخر مكملاً، وقد يحتاج كل هذا إلى فسحة من الزمن، ربما يراها المصلحون الليبراليون أطول مما يحتمل صبرهم، فيزلون إلى هاوية اليأس واللا جدوى، وهم يرون وكأن المنطقة تنتقل من سيئ إلى أسوأ، رغم أن ما يظهر على السطح ربما كان هو الحقيقة المؤلمة والمأساوية لتلك الشعوب، وربما كان التغيير الحقيقي يجري في بطء وثبات تحت السطح، وكان ما نراه الآن من تقدم وانتصارات لقوى الظلام والتخلف ليس أكثر من صحوة الموت، التي يعقبها ميلاد جديد يختلف جذرياً عن كل ما كان!!
kamghobrial@yahoo.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف