العتبات الممنوعة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
1
يوماً ، كان العمرُ طفلاً والحياة أمامه كلها، وبحولها. كنتُ يومئذٍ في منتصف الخامسة من عمري، ألهو كغيري من لداتي بألعاب عشوائية الصنع، يبتكرها لنا الأكبر منا سناً. وعلى حين فجأة، دوى في الآفاق صدى الإطلاقات النارية الكثيفة، التي ما لبث أن تخللها صيحات من حولنا من الكبار، المتهاتفة بضرورة إلتزامنا المنازل. أتذكرُه غامضاً، مبهماً، ذلك الصباح الربيعيّ من يوم الثامن من آذار 1963، المُنبي بنذر الشرّ؛ وخصوصاً لحظات إرتقائي سطح المنزل، أسوة ً بالآخرين، ممن راحوا يحدقون إلى مشهد مركز المدينة، المترامي تحتنا. على أنه سرعان ما أُنزلنا عنوة ً من موقفنا ذاكَ، إثرَ صيحة ثاقبة من العمّ الكبير، المُهاب. ثمّ ما عتمَ أن إجتاحَ الحَيّ، بعيْدَ ساعات اخرى، قطيعُ الذئاب الحاقدة، البعثية، ناشرة ً فيه الرعبَ والفرَقَ؛ حيّنا الكرديّ، الذي كان موصوماً من لدنهم بالشيوعية والشعوبية. في ذلك العمر الغضّ، شعرتُ للمرة الأولى بفقدان الأب ، مع إفاقتي في الصباح التالي مباشرة ليوم الإنقلاب ذاكَ ، الجهم، لأعلمَ من إشارات مُلمّحةٍ بأنّ والدي قد تسلل إلى لبنان، عبْرَ الحدود الجبلية، القريبة نسبياً من الشام. عقدة الضياع لديّ، ربما نشأت قبل ذلك بحين ٍ هيّن من الزمن؛ مع إعتقال الوالد من قبل السلطات الناصرية وزجّه في سجن " المزة "، الشهير، حتى اليوم المشرقة فيه شمسُ الحرية. إثر عفو عام، من الحكومة الإنقلابية الجديدة، عاد أبي من منفاه ذاكَ إلى دمشق. إلا أنّ شمسَ الحرية ، لن يُقدّرَ لها الإشراق مرة اخرى، أبداً.
2
يوماً ما، والعمرُ فتىً بعدُ، فيه ما فيه من طيش ٍ وطيبةٍ ومغامرة، كان الوطنُ لنا جحيماً والغربة ُ أملَ خلاص ٍ. آنذاك، بدا لنا الغربُ دارَ مسرّةٍ، مقارنة ً بالوحشة المُكتنِفة ديارنا. السينما، هيَ ذلك الفانوس السحريّ، المتلامعة فيه بوارقُ أحلامنا تلك، المهجرية. لشدّما كان تأثرنا قوياً بالأفلام الفرنسية خصوصاً، بأبطالها وبطلاتها. كل شيء في حياتنا، كان وقتئذٍ مضروباً عليه سورٌ من السريّة. حتى حلم التغرّب، كنا نبثه لبعضنا البعض، هامسين، خشيَة الرقيب الواشي؛ نحن الذين كنا أيامئذٍ على صلة تنظيمية بشبيبة الحزب الشيوعي ، والمُفترض بأعضائه ومناصريه النضال ضد الأفكار البرجوازية صغيرها وكبيرها . المفارقة، أنّ تفضيلنا للأفلام السياسية ـ بحسب التصنيف السائد، الإعتباطيّ ـ ما كان يمنع كلّ منا من الإسترسال في حلمه ذاك َ، المُحلق في سماوات البلدان الرأسمالية. وفي المقابل، فلم يكن ليخطر لنا آنذاك تبديد الوقت بأفكار تستدعيها مثل تلك المفارقة، الموصوفة. بيْدَ أنني أتذكرُ يوماً، حضرتُ فيه فيلماً فرنسياً ، يقدم مقاربة لمسألة الهجرة. كان الفيلم بعنوان " العتبات الممنوعة "، يحكي قصة شاب تونسيّ، جذبه بدوره حلمُ الغرب ليجد نفسه في باريس. تلك الرحلة، الرومانسية، إنتهت ببطلنا ثمة في السجن، بعدما إتهمَ بجريمة قتل. تأثري بالفيلم، أذكره تماماً؛ ولكنني أستدرك أيضاً، بأنّ قصته ظلت بالنسبة لي كحادثة فردية، طارئة، ما كان لها أن تبدد حلم الترحال، المستوطن آنئذٍ باطني.
3
ها أنذا في الغرب، أخيراً. عامٌ آخر، ويكتمل العقدُ الثاني من غربتي هذه. لكأنما هاتان المفردتان ( غرب / غربة )، قد إستمدا من مصدر واحدٍ، في قاموس العربية؟ وبغض الطرف عن تلك المسألة اللغوية، فثمة حقيقة لا جدال فيها؛ وهيَ أنّ وجهة تغربنا، نحن المنساحين من بلدان العالم الإسلاميّ، لا تعرف غيرَ جهة " الغرب ". نحن هنا إذاً، أتينا خلل الحدود الخطرة، المُكتنفة بالألغام القاتلة أو الغابات المتاهية؛ عبْرَ البحر الكبير، بسفن المهربين غير الصالحة للإبحار، أو بقوارب الصيادين، المثقوبة؛ على متن الطائرات العملاقة، إن شاءَ لنا السعدُ، متأبطين حقائب متبطنة جوازاتنا المزورة.. أتينا، لأننا يجب أن نأتي. وسنأتي أبداً : هرباً من عالم الفقر والفاقة والحاجة والظلم؛ هرباً من سرية أحلامنا وآمالنا وعشقنا ورغبتنا؛ هرباً من الفروض والواجبات والنذور والقبور والجحور والآلهة والشياطين والملائكة والجان والعفاريت والطغاة؛ هرباً من ذلك العالم الغرائبي، المسحور، الذي زعم رحّالة الغرب، في القرون السابقة، أنهم واجدون فيه ليالي " ألف ليلة " : الغرب نفسه، ها هنا، وعلى شواطئ حقيقته الصخرية، القاسية؛ أين كان على مراكب أحلامنا أن تتحطمَ هباءً، لينثرها في كلّ الجهات ريحٌ هازئة ، هاتفة بنا : أتبغونَ الفردوسَ ، إذاً؟.. حسنٌ، هذا هوَ!
4
نريدُ أو لانريد، ها نحنذا هنا. وها هوَ جيلٌ آخر، جديدٌ، من الغرباء في سلالتنا. لكأنما الغربة قدَرَ هذه العائلة؛ منذ هجرة جدّ أجدادها من موطنه الكرديّ، الجبليّ العصيّ، المتسلسل من " طوروس "؛ هجرته، المبتدهة في أواسط القرن التاسع عشر، والتي أسحقتْ حتى " الشام الشريف. في سني تلك، الموسومة آنفاً، الشاهدة على الإنقلاب البعثيّ، كانت العربية قد أضحتْ لغتي، داخل المنزل وخارجه. وإبني بدوره، ما عاد يتحدث هنا سوى بالسويدية، مع شقيقته وأترابه على السواء. أما الكرديّة، فلن تحتاج والدتي بعد لإستعمالها، منذ وفاة أبي في هذه البلاد الشمالية، قبل عامين تماماً. ولكن اللغة، على أهميتها، لم تكن كل شيء. لقد فقدنا هنا، في هذه البلاد الأكثر رقياً، سعادة أن نكونَ " نحنُ ". أضحت حياتنا هبة ً لا حقاً؛ وبواقع أنّ المادة، في هذا المجتمع الصناعيّ، أساسُ الحياة : بكلمة اخرى، صرنا عالة. فحقّ العمل، كأهمّ مثال، مكفولٌ للجميع. هذا صحيح. بيْدَ أنّ الأمر، ليس بهكذا مساهلة. لن نتكلم عن مقابلة، تفصحُ عن " فضيحة " شعركَ الأسود، بل عن مكالمة هاتفية مع ربّ عمل ما. فما أن ترطن ببضع كلمات ، إلا ويكون أمركَ قد حُسِمَ : آسفون، لا مكانَ شاغراً لدينا في الوقت الحالي.. نرجو لكَ التوفيق، في المرة القادمة! ولن يجوز لنا، للحقيقة، تجاهل الحرية الكاملة هنا، فيما يتعلق بممارسة الشعائر أو الأفكار سواءً بسواء. ولكنّ ما يُسمى في أوروبة، عموماً، بـ " سياسة الدمج الثقافي "، لا تختلف في الواقع، سوى شكلاً، عن تلك السياسة، الشوفينية، التي أكلنا ثمارها، المرّة، بيَدِ أنظمتنا المشرقية، المُستهجّة رأياً وعقلية ومسلكاً. هنا وهناك، تبدو " الأقلية " بتنويعاتها الأثنية أو الدينية مشكلة ً أكثرَ منها حالة طبيعية، صحية، تعبّر عن جدلية التعدد والوحدة في المجتمع. فلا غروَ إذاً، ألا يختلف كثيراً توصيفُ هذه " المشكلة " عندَ كليْهما؛ أهل الديمقراطية الغربية وأهل الإستبداد المشرقي!
5
"العتبات الممنوعة"؛ هذه هيَ، حقا. قبل ثلاثة عقود، أو تزيد قليلاً، ما قدّر لي إستكناه المعنى الكامن خلف عنوان ذلك الفيلم، الفرنسيّ. كان في ذهني عنوان آخر لهذا المقال، " الجنّة المحرّمة "؛ يُحيل إلى قصّة الطرد من الفردوس، المعروفة بواقعتها الدينية. وإذ أوغلتُ هنا، في مقالتي، بالخصوصيّ في حياتي، فلا بدّ من إستئذان القاريء بالمضيّ فيها إلى خواتيمها. فها هوَ شهر ديسمبر، يُعيد إليّ ذكرى من كانوا قريبين إلى روحي. أتذكرُ أول من شاءَ له قدرَه أن يموت، في شهر الميلاد هذا : إنه قريبي وأقرب أصدقائي، " حسون "، من كانَ شريكاً لي في ذلك الإلهام؛ غواية الغرب : كان معنا آنذاك، في كلّ غارةٍ صديقةٍ على صالتنا السينمائية الأثيرة، " الكندي ". ولا يمكن لي، في هذا المقام، أن أسلوَ دموعه المتساقطة بفرحة طفلة، حينما راحَ ذات مرة ينصت مبهوراً لتخلقاتي، التي لا تقل طفولية، المُسهبة في مغامرتنا القادمة، المفترضة، والمتجهة بأحلامنا إلى باريس! عقد آخر، يسير في ركابنا. ثمّ أجدني في غمرة الإحباط، إثر عودتي من موسكو وفشلي هناك دراسياً. ولكنّ " حسون " كان ثمة في دمشق، إلى جانبي : " لا يجوز لنا اليأس.. هل نسيتَ أحلامنا، الفرنسية؟ "، يخاطبني صديقي بقوّة الإلهام ذاكَ، القديم. ثمّ يمضي عقد تال، ونجتمع معاً في أوروبة؛ إنما في أقصى شمالها، في ستوكهولم. كانت رفقتنا قد أشغرَتْ عن دروب الوطن، بدءاً برحيلي إلى السويد في أواخر الثمانينات، ومن ثم إلتجاء صديقي هذا، إلى ألمانيا، بعد ذلك التاريخ بعشرة أعوام تقريباً. ولكنّ " حسون " لم يمكث في السويد. عاد إلى موطن الجرمان، بعد ثلاثة أشهر حسب؛ عاد ليموت هناك، على عتباته الممنوعة.. وربما إنتحاراً؟ بدوري، لم أتجاوز تلك العتبات، وما كان ليجوز لي ذلك أبداً : كان عليّ أنا الكاتب ـ هنا في بلد "نوبل" الآداب ـ أن يظل إسمي مغموراً بين أوساطه الثقافية؛ إسمي نفسه، الذي أضحى بالمقابل "مشهوراً" في محاضر تحقيق البوليس وأروقة المحاكم، بعدما لفِقتْ لي مؤخراً تهمة التهديد بالقتل.