ليتعلم ساستنا العرب من مرونة بوش
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
دائما ما يوصف الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش، بأنه رجل يحمل قناعات أيديولوجية جاهزة، مسبقة، وراسخة لا يزعزعها ولا يغيرها، مهما كان الأمر، وأنه "أسير" مجموعة المحافظين الجدد في إدارته. ودائما ما يقال، أيضا، وبهدف السخرية، بالطبع، أن الرئيس بوش يقرر ويتصرف وفقا لإلهام رباني ينزل عليه من السماء. قد يكون في هذه الأقوال مقدار من الصحة، خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار "العائلة" الأيدلوجية الأميركية "المحافظة" جدا، التي يطوق أفرادها الرئيس الأميركي، ويمدونه بأرائهم وتصوراتهم عن العالم، خصوصا في بدء ولايته الأولى.
لكن نتائج انتخابات الكونغرس في السابع من الشهر الماضي التي انتهت بهزيمة بوش وحزبه، أظهرت أن بوش يصغي، شأنه شأن كل السياسيين البراغماتيين، إلى هدير الشارع، أكثر من إصغائه لصوت السماء، وأن "تعصبه" الأيديولوجي يخفي وراءه مرونة سياسية تدفعه لأن يضحي حتى برؤوس أقرب المقربين إليه، أيدولوجيا. فحالما تم الإعلان عن هزيمة حزبه في انتخابات الكونغرس، بادر الرئيس الأميركي إلى التخلص من وزير دفاعه السابق دونالد رامسفيلد، رغم أن هذا الأخير كان قد قدم لإدارة بوش، أفغانستان والعراق، على طبق من فضة. ولم يمر شهر على طرد رامسفيلد، ها نحن نرى "صقر" "بوشي" آخر، يتنحى، أو في طريقه للتنحي، من منصبه هو، جون بولتن السفير الأميركي في الأمم المتحدة.
وكلا الواقعتين، طرد رامسفيلد وإحلال روبرت غيتس محله، واستقالة بولتن واحتمال تعيين "ديمقراطي" معتدل محله، أراد بوش بهما أن يثبت انه ليس "يابسا" جدا فتكسره الايدولوجيا، ولا "لينا" تماما فيعصره المراهنون على فشله والذين يريدون هزيمته. ففي اللحظة ذاتها التي أعلن فيها الرئيس بوش عن طرده لمهندس الحرب على العراق، فأنه أعاد التأكيد على أن القوات الأميركية باقية في العراق، ولن تغادره قبل أتمام مهمتها. طرده لرامسفيلد "ليونة"، وإصراره على بقاء القوات في العراق "يبوسة".
وحتى اختياره لروبرت غيتس على رأس البنتاغون، فهو يعتبر دليلا على ليونته السياسية، وقدرته على تحوير أو حتى تغيير قناعاته. فالرئيس يعرف مسبقا أن وزير دفاعه الجديد يخالفه، شخصيا، ويخالف مجموعة المحافظين الجدد، في كثير من الأفكار: أولا، في أسلوب محاربة الإرهاب، وفي تصنيف أولويات البؤر الإرهابية. فبينما يعتبر الرئيس بوش بأن العراق هو الجبهة "الرئيسية" في الحرب القائمة ضد الإرهاب، يرى غبيتس أن العراق "واحدة" من عدة جبهات رئيسية في هذه الحرب. وبينما، وهذه نقطة الخلاف الثانية، يصر الرئيس الأميركي ومجموعة المحافظين الجدد، على رفض أي حوار مع سوريا وإيران، فأن غيتس يرى أن مصالح الولايات المتحدة تستدعي ممارسة الأسلوب الدبلوماسي السلمي لحل هذه المشاكل، وإذا وصلت هذه المساعي إلى طريق مسدود، يستعان وقتذاك بالقوة المسلحة. وفي الوقت الذي كان فيه الرئيس بوش يؤكد، وهذه نقطة الخلاف الثالثة، على أن بلاده تحقق انتصارات داخل العراق، أعلن غيتس أن هذه الانتصارات غير موجودة. أما فيما يتعلق "بحوار الطرشان" الذي كان قائما بين وزير الدفاع السابق رامسفيلد، من جهة، وبين وزيرة الخارجية رايس، من جهة أخرى، فان بوش مهد الطريق، في اختياره لروبرت غيتس على رأس البنتاغون، أمام قيام علاقة تناغمية جديدة بين وزير الدفاع الجديد وبين وزيرة الخارجية كوندليزا رايس، خصوصا فيما يتعلق بالأسلوب الدبلوماسي العقلاني في التعامل مع القضايا السياسية الملتهبة في العالم.
إما، جون بولتن، فقد أصبح، بعنجهيته، وتطرفه، وازدراءه للأمم المتحدة واستخفافه بها، وكراهية أكثرية دول العالم له، عبئا على إدارة بوش، وعقبة أمام سياسة الانفتاح الجديدة التي وجد الرئيس الأميركي إنه بحاجة إليها الآن، للحصول على دعم دولي يعينه على الخروج من الورطة الكبيرة في العراق، وإلى حد ما في أفغانستان، وفي التعامل مع الملف الإيراني والكوري. وهكذا، بعدما كان الرئيس بوش قد "قاتل"، سابقا، لاختيار بولتن في منصبه، وبالضد من مواقف الديمقراطيين وبعض الجمهوريين المعتدلين في الكونغرس، فانه يراه الآن وهو يغادر منصبه، دون أن يذرف دمعة واحدة أسفا وحسرة على ذهابه.
إنها المرونة السياسية التي تفرضها مصالح البلاد العليا، ويحتمها عبأ المسؤولية.
وخدمة لهذه المصالح العليا التي يشترك الجميع في الدفاع عنها، فأن جميع الخلافات، سواء بين الشخصيات أو الكتل السياسية المتنافسة، سرعان ما تنسى. فالمعروف أن هناك أعضاء ديمقراطيين في الكونغرس كانوا قد صوتوا ضد تولي وزير الدفاع المعين روبرتس غيتس، عندما تم ترشيحه لرئاسة وكالة المخابرات الأميركية،عام 1991، لكنهم لم يعترضوا، الآن، على تعيينه في منصبه الجديد. بل أن السيناتور الديمقراطي، كارل ليفين، الذي كان واحدا من ثلاثين عضوا عارضوا تعيين غيتس لرئاسة المخابرات، سابقا، رحب بغيتس عندما تحدث هذا الأخير خلال جلسة الاستماع أمام مجلس الشيوخ، لتثبيت تعينيه وزيرا للدفاع، وتعامل معه باحترام جم، وأطرى على "نزاهته"، واستبشر خيرا وراء هذا الاختيار.
إن صورة بوش "الغبي" "الأرعن" "الجاهل" "الكابوي"، "المستبد برأيه" روج لها، أول من روج، المعلقون الأوربيون، ثم رحنا، نحن العرب، نرددها أكثر من غيرنا، وبقناعة منقطعة النظير.
وإذا كان الأوربيون فعلوا ذلك، ليس عن قناعة، وإنما لحاجات في أنفسهم، فأننا، نحن العرب، فعلنا ذلك اعتمادا على نشأتنا السياسية، وقياسا أوتوماتيكيا، على نوعية الحكام الذين يقودون بلداننا، ونوعية الزعامات السياسية التي تتصدر الصفوف بيننا. فهولاء الحكام وصلوا إلى السلطة، إما بعد حصولهم على نسبة 99.99 في المائة من أصوات "الناخبين"، أو بالوراثة، أو وصلوا بعد أن اقتحموا بدباباتهم مبنى الإذاعة في بلدانهم، ونجحوا في إذاعة البيان الأول. إما زعمائنا السياسيون في المعارضة، فليسوا بأفضل حال. إنهم غالبا ما يأتون إلى الواجهة، من الشوارع الخلفية، متسلحين بأخلاق "شقاوات المحلة" وثقافة "الزعرنة"، التي تعتمد، أول ما تعتمد، على سياسة "لي الأذرع"، وقوانين صراع الديكة. وفي الحالتين، فأن الشعار الذهبي المرفوع هو، علي وعلى أعدائي يا رب، أو شعار، إذا مت عطشانا فلا نزل القطر.
وإلا، فلماذا وكيف تتحول بيروت، التي لم تجف شوارعها بعد من انهار دماء الحرب الأهلية، إلى ساحة معركة، ينادي المنادون في قسم منها: يا سنيورة لا تهتم عندك رجال بتشرب دم، فيرد عليهم آخرون: يا نصر الله لا تهتم عندك رجال بتشرب دم ؟
ولماذا وكيف، وخدمة لأي أهداف وطنية عامة، يقترب الفلسطينيون من حافة حرب أهلية، وصناع القرار مستمرون في معاركهم حول من يكون وزيرا للداخلية ومن يكون وزيرا للمالية والخارجية ؟
إما إذا وصلنا للعراق، فأن جميع التساؤلات تصبح تافهة وسخيفة ولا قيمة لها. وطن يحترق، بزرعه وذرعه، و"الجماعة"، في الحكومة وفي المعارضة "الخجولة"، وفي المعارضة التي نزعت الخجل، منشغلون في الإجابة على السؤال الخالد: هل البيضة من الدجاجة، أو العكس.
عندما اختير روبرت غيتس وزيرا للدفاع فأنه أعلن أن أول عمل سيقوم به هو، القيام بزيارة ميدانية لتفقد القوات الأميركية العاملة في العراق، ونقلت عنه الصحف قوله: "إن الرئيس بوش طلب مني أن أتسلح بنظرة جديدة fresh look، وأن جميع الآراء ستطرح على مائدة النقاش". وهذه الصحف نقلت، أيضا، أن غيتس كان جالسا، بعد تسميته وزيرا للدفاع، في أحد المطاعم، واقتربت منه سيدة أميركية، وهمست بإذنه "عندي ولدان يخدمان في الجيش الأميركي في العراق، وأنا أتوسل إليك أن تعيدهما لي سالمين". وكان تعليق وزير الدفاع: هذا هو ضغط المسؤولية التي سأواجهها.
متى سيطرح حكامنا وقادتنا السياسيون المعارضون، في كل البلدان العربية، على أنفسهم هذا السؤال ؟
متى ستتحول الدماء المراقة، أو التي توشك أن تراق، في شوارع العراق وفلسطين ولبنان ودول عربية أخرى مرشحة للسير في نفس طريق المهالك، إلى كوابيس تؤرق نوم حكامنا ومعارضيهم ؟
لا نعتقد أن أمرا كهذا سيحدث، لسبب بسيط هو، لا توجد عندنا امرأة تملك شجاعة السيدة التي طالبت غيتس أن يعيد إليها فلذتي كبدها، وليس عندنا نظام سياسي يسمح لأمرأة من عامة الناس أن تقترب من وزير، وليس عندنا وزير يجلس في مطعم شعبي يدخله عامة الناس، وليس عندنا "معارض" يختلف مع مواطنه وزميله في العمل السياسي، لكنه يطري، مع ذلك، على نزاهته، ويشركه في اتخاذ القرارات.
ليس عندنا واحد من هولاء. عندنا ديكة تتصارع على الفوز بكراسي الحكم، وكفاءتها الوحيدة هي ضبط حسابات الربح والخسارة، حتى لو كان الربح "أنجا" واحدا، وحتى لو كانت هذه الخسارة، أوطانا بأكملها.