كتَّاب إيلاف

العنـف المقـدس (1 من 2)

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

مع قليل من الاختزال، غير المخل، يبدو بوضوح أن خطين رئيسيين يبرزان عبر حركة التاريخ، منذ أن كان للبشر تاريخ: العنف، والحرية الفردية للإنسان. محاولات البشرية للتحضر تدور من ناحية حول تحجيم وتقليل العنف الفردي عن طريق "تأميم" العنف وجعله أولا من حق المجتمع فقط، وثانيا تقليص ذلك الحق المجتمعي نفسه عبر تقنينه وتهذيبه والسيطرة عليه، بهدف اقتلاعه إذا أمكن. ومن ناحية مقابلة تدور تلك المحاولات حول تقنين وتفعيل قيمة الإنسان وحريته الفردية. تقف الهمجية باعتمادها العنف وإنكارها لقيمة الإنسان الفرد وحريته في ناحية؛ وعلى النقيض الآخر يقف التحضر الذي يرفض العنف ويعلى قيمة الإنسان وقيم الحرية والعدل والمساواة. وبين النقيضين توجد ـ زمانا ومكانا ـ المجتمعات التي في مراحل مختلفة من التقدم.
مسارة كل من نزع العنف وإعلاء الحرية تمثل خطا بيانيا. الخطان يتحركان بصورة متذبذبة صعودا وهبوطا مثل أسنان المنشار، لكن الاتجاه العام عبر التاريخ يشير إلى كون الخط متهابطا للأول ومتصاعدا للثاني. والخطان متلازمان، بمعنى أن صعود الواحد مرتبط بهبوط الآخر.
نالت الحرية الإنسانية حظا وافرا من الكتابة عنها، وتحاول مواثيق حقوق الإنسان، بدرجات متفاوتة من النجاح، تقنينها وتفعيلها. لكن العنف وجذوره مازال يحتاج لمعالجات. والأمر جدير بالاهتمام بلا شك في ظل العنف الوحشي الذي يتفشى هذه الأيام في العالم، بجذوره النابعة من "منطقتنا"، وأيضا في ظل كتابات الردح الحضاري التي تكاثرت مؤخرا في محاولات للرد على مقولة وردت في محاضرة بابا الفاتيكان أمام جامعة ريجنسبرج (راتيسبون) في سبتمبر الماضي.

***
عند محاولة الكتابة عن العنف، لا بد من اللجوء إلى، ومحاولة فهم، ما كتبه المفكر الأمريكي من أصل فرنسي "رينيه جيرار" الذي لا يُعرف عنه الكثير خارج دائرة ضيقة، برغم كونه واحدا من أكثر المنظرين المعاصرين أهمية وتأثيرا في مجال "الثقافة" ـ أي الحضارة بوجه عام.
ولد رينيه جيرار في أفينيون، بجنوب فرنسا، عام 1923 ورحل في 1947 إلى الولايات المتحدة ليدرس ثم بقى فيها مدرسا ثم أستاذا في عدد من جامعاتها الكبرى، من بينها جون هوبكنز وستانفورد. بدأ بتدريس الحضارة الفرنسية، ثم اتجه إلى علوم الإنسان (الأنثروبولوجيا) وأصبح رائد مدرسة فكرية كبيرة ونال العديد من شهادات الدكتوراه الفخرية. نشر في 1972 كتابه الشهير "العنف والمقدس". وفي مارس 2005 انتخب عضوا في "الأكاديمي فرانسيز" واحتل في ديسمبر من نفس العام المقعد رقم 37 من المؤسسة العتيدة التي تأسست في عام 1635 (على يد الكاردينال روشيليو، أيام الملك شارل 13) ولا تضم في عضويتها سوى أربعين من "الخالدين".
***
وقبل أن ندخل فيما كتبه جيرار حول العنف، يحسن التعرض لنظريته حول الرغبة المحاكاتية (Mimetic desire)، التي لها صلة، حتى وإن لم تكن مباشرة، بموضوع العنف، كما أنها تفتح أعيننا على عدد من العقد النفسية الجماعية التي يبدو أنها تفسر العديد من التصرفات والأحداث المحيطة بنا...
المحاكاة لها دور محوري في الحياة الاجتماعية البشرية وقدرات الكلام والتفكير والتنمية العقلية. يشير جيرار إلى فكرة تبدو بديهية وهي أنه بدون القدرة على محاكاة تصرفات وكلام الآخرين فإن الحياة الاجتماعية والقدرة على السكنى فى مجال "ثقافي" (حضاري) معين ستصبح مستحيلة. التعايش المجتمعي والتحضر والتثقف مبنية حصرا على تعلم "كيفية التصرف" عن طريق عملية تفصيلية من المحاكاة الضمنية والمقصودة. بل إنه من المستحيل التفكير في أي جانب من جوانب التنمية البشرية يمكن تفعيلها بدون هذا البعد الأساسي.
هذا كلام سهل ومعقول. لكن جيرار يضيف أن "الرغبة" الإنسانية، بطبيعتها وتركيبتها، تعتمد على المحاكاة. بمعنى آخر، فإن المحاكاة لا تشمل فقط "التمثيل" وغيره من أشكال الذاكرة الحضارية، بل أيضا الأفعال والنوايا بشأن التملك أو "الاستحواذ" وهو ما يطلق عليه "محاكاة الاستحواذ". ويقول أن الناس، بصفة أساسية يتعرفون على ما يرغبون فيه عن طريق محاكاة رغبات الآخرين.
فالأمر إذن، كما يرى جيرار، لا يتعلق بموضوع الرغبة (أي الشيء المرغوب) ولا في ذواتنا، بل في عامل ثالث، يسميه "النموذج" (أو القدوة أو "الوسيط") الذي يحاكي المرء رغباته على أمل أن يصبح مثله أو يشابهه.
ومن المهم هنا ملاحظة أن العديد من الاحتياجات الأساسية (التي نشارك فيها الحيوانات) من غذاء ومأوى الخ لا تشكل "رغبات" بمعنى الكلمة. ولكن أيا منها يمكن أن يشكل ذريعة لتكوين "رغبة". الاحتياجات تتطلب إشباعها، ولكن أساليب هذا الإشباع تتشكل عن طريق البحث عن كيف يُشبع الآخر الاحتياجات المثيلة. وهذا يأخذ شكلا مستقلا مبنيا على كيف "يرغب" الآخر أو كيف يتصرف ـ أو على الأقل يبدو أنه يرغب (أو يقول أنه يرغب).
الاحتياجات والنوازع الأساسية يمكن إشباعها ـ على الأقل وقتيا؛ ولكن "الرغبة" يمكنها أن تنشأ في غيبة أية "حاجة" على الإطلاق. فنحن نرغب فيما يرغبه الآخرون لأننا نحاكي رغباتهم (أو نحاكيهم في رغباتهم). الرغبة حتى لو كانت جذورها في الاحتياجات إلا أنها في الجزء الأكبر فعلٌ مبنيٌّ على الخيال ويشمل الانبهار بأشياء وبأشخاص يمتلكون ليس فقط "قيمة استخدام" (أي الفائدة) بل أيضا "القيمة الرمزية". وتتشكل المنافسة على الأشياء ذات القيمة الرمزية طبقا للمؤسسات الرمزية التي تشير إليها.
بساطة وأناقة هذه الفكرة لا ينبغي أن تعمينا عن إدراك قدرتها الهائلة على تفسير الأمور عن طريق هذا المثلث: الذات والموضوع والوسيط.
يشير جيرار أيضا إلى أن ادعاء "البطولة" في كثير من الأحيان ليس سوى عَرَض ظاهري لحالة "استعباد داخلي" يتم التعبير عنها على شكل هوس "بالكبرياء". والكبرياء في هذا المعنى يُستدل عليها عبر "المحاكاة السلبية": أي السعي للتفرد عن طريق عمل ما لا يفعله الآخر المكروه؛ أو الاقتداء بمن يرفض أن يحاكي ذاك الآخر المكروه. والمفارقة هنا هي أن المحاكاة السلبية مازالت مرتبطة تماما بالآخر ـ إذ يتطلب الأمر مراقبة ذاك الآخر بعناية شديدة ثم تحديد ضرورة الاختلاف عنه (راجع فقه مخالفة الكفار). وفي رأي جيرار أن هذا الذي يبدو رفضا لمحاكاة الآخر (أو رفضا لإمكانية حدوث المحاكاة بشكل عام) يمثل أحد الآليات التي تثبت وتؤكد وجود المحاكاة!
وعندما يقوم الفرد بتقليد أو محاكاة الآخر، النموذج، فإنه يتنازل له عن حق أساسي: فهو لا يعود يختار موضوعات رغباته الشخصية ـ بل إن النموذج هو الذي سيختار بالنيابة عنه. فالشخص يتبع ما يحدده له القدوة (الأسوة ـ النموذج)، وهذا ما يسميه "وسيط الرغبة". وهكذا فإن المحاكاة تحول وتشكل قدرة الفرد الذاتية على التقييم، وأفعالَه بل رؤيَته للأشياء.
ويصل الأمر بالمحاكاة أنها تقدم نموذجا لما يجب أن تكون عليه الأهداف "التي تستحق السعي وراءها". أي إن الرغبة في المحاكاة هي دائما رغبة في أن يصبح المرءُ شخصا آخر. وهي تجعله يشعر دائما أنه على وشك أن يتمتع باكتفاء ذاتي عن طريق التحول إلى شخص آخر.
ولا شك أن التعليم التلقيني في مجتمعاتنا يشجع على التمادي في تكوين الشخصيات بالصورة السابقة لدرجة التشوه، وهي شخصيات لا تنضج مع السن أو الخبرة، وتبحث دائما عمن يقوم بتوجيهها أو "بالإفتاء" لها فيما يجب أن تفعل أو لا تفعل، وأن ترغب في أو ترغب عن.

***
ولابد هنا من التعرض لبعض الأعراض النفسية المرضية المنتشرة، بل متفشية، ومن المهم تفهم آلياتها وتأثيراتها؛ مثل المازوكية (تعذيب الذات) والسادية (تعذيب الآخرين)، كما يوضح جيرار.
الشخص "شبه المازوكي" هو من يجرى دوما وراء قضايا خاسرة. ولنأخذ مثالا: شخص يسعى للبحث عن كنز يعتقد أنه مخفي تحت صخرة. يقلب صخرة بعد الأخرى بحثا عنه لكن بلا جدوى. يصاب بالسأم من هذه المهمة، لكن الكنز أهم بالنسبة له من أن يتخلى عن المهمة. ماذا يفعل؟ يبحث عن صخرة كبيرة أثقل من أن يرفعها أو يحركها، ثم يضع كل أمله في كون الكنز تحت هذه الصخرة بالذات، ثم يضيع ما تبقى له من جهد على محاولة (فاشلة ويائسة) لتحريكها!
إذا تحول القدوة (الأسوة أو النموذج المُحتَذَي ـ الموديل) تدريجيا إلى عقبة، فإن "الرغبة في المحاكاة" عند الشخص المازوكي تعمل على تحويل العقبة إلى نموذج! أي إن الدافع المازوكي يمكن تحريكه بمجرد الوعد بالفشل! وكمثال: كلما استعار "التلميذ التابع" (disciple) من نموذجه الأعلى ما يعتقد أنه "الحق"، فإنه (طبقا لآلية المحاكاة) يحاول امتلاك ذلك الحق عن طريق أن يرغب بالضبط فيما يرغبه النموذج. وعندما يرى نفسه قريبا من الهدف الأسمى، قد يدخل في تناقض عنيف (violent conflict) مع غريم منافس. لكن في سبيل التخلص من غريمه، وعن طريق عملية اختزال عقلية (short-cut)، يقنع نفسه بأن العنف في حد ذاته هو أهم خصائص الهدف الأسمى! وبعدها يرتبط العنف والرغبة معا في ذهنه ويقوم العنف بإيقاظ الرغبة... إي إن المقاومة العنفية تصبح دليلا على درجة سمو الرغبة وعلى "اكتفاء ذاتي إلهي" (divine self-sufficiency) وعلى "الكمال الجميل" الذي يعتمد جمالُه على استحالة الوصول إليه ولا اختراقه
المازوكي لا يسعى للهزيمة.... لكن النجاح لا يكون له معنى بالنسبة له سوى عبر البحث عن هدف أصعب أو غريم أقوى (راجع مناطحة الشيطان الأكبر)، لأن هذا سيوفر ما هو "جدير حقا" بأن يكون مرغوبا فيه. لكن انتصار الغريم عليه قد يعني أن لديه (أي الغريم) خصائص أو مساندة ألوهية حقيقية وأصيلة.
شبه السادي هو النقيض الجدلي لما سبق. والسادية حالة تظهر عندما يبدأ المازوكي الذي يعبد العنف في محاكاة أولئك الذين يقفون في طريقه نحو الحصول على رغبته. وإذ يتعب من لعب دور الشهيد، فإنه يتحول إلى معذِّب للآخرين. ويبحث السادي عن محاكين له، لكي يستطيع أن يعذبهم بنفس الطريقة التي تعذب هو بها قبل أن يتلبس هذا الدور الجديد.
قليل من التأمل فيما يحيط بنا من أوضاع سياسية ومجتمعية سيكشف لنا أنه ما أكثر المازوكيين والساديين والسادومازوكيين حولنا!
وإلى الجزء التالي من المقال لتعذيب القاريء بمعالجة موضوع العنف وكبش الفداء.
***

منذ بداية الستينيات بدأ جيرار أبحاثا مركزة في دراسات علوم الإنسان (الأنثروبولوجيا) السائدة واكتشف تقاربا بين بعض استنتاجاته وما سبق أن توصل إليه شخصيا عبر دراساته في روايات الأدب العالمي الكلاسيكي، وقيامه بفك رموزها. وبدأ في محاولة التوصل إلى نظرية عامة حول العنف والدين، وهو هدف طموح تم خلال عدد من الفرضيات المتتابعة والمترابطة قدمت ما لا يقل عن نظرية متكاملة (موروفوجينيك) حول كيفية نشوء النظام الاجتماعي والثقافي (social and cultural order). وبعد عِقد من البحث بدأ بنشر أفكاره في 1972.
نعرف قدر صعوبة تقديم أفكاره بصورة مُيَسَّرة، لكن سنحاول.
***

كبش الفداء وآلية التضحية
بدلا من أن يقدم "خاصية" (بيولوجية أو غيرها) تجعل العنف من طبيعة الإنسان، يجادل جيرار بأن المحاكاة للرغبات تقود البشر إلى التنافس بوصفهم "أبدالاً" أو "أقرانًا" (doubles) متكاثرين يدورون حول الهدف نفسه، فتؤجج فيهم العنف، الذي يتفاقم بدوره حتى حصول "أزمة" ينازعُ فيها الفردُ جميعَ أبداله. ويرى أن ضرورة فرض النظام والتماسك على المستوى المجتمعي والثقافي، لتلافي التفجر من الداخل والتشرذم، يتضمن بصورة لا واعية تكثيف واستقطاب العنف نفسه. ويتم ذلك بصورة موجهة ضد ضحايا يتم اختيارهم واستهدافهم.
أي إن "المحاكاة" التي سبق الكلام عنها، والتي تعمل على تفريق الناس فيما بينهم (وإن كانت توحِّدهم على مستويات متوازية لكن متضادة) يمكنها أن توحدهم في الواقع عبر التوافق على معاداة عدو مشترك تتهمه بالتسبب في الضائقة العامة؛ وإذ تتكالب عليه وتضحي به، تجد في ارتكاب هذه الجريمة تنفيسًا عن احتقانها وتجدِّد تماسُكها. فالعنف المحاكاتي الذي يقسم ويفرق الجماعة عندما يصيبها بالعدوى يتحول، بصورة مثيرة للدهشة، بحيث أن العداوات المختلفة يتم استقطابها (عبر آلية المحاكاة) وتوجيهها ضد طرف محدد. فإذا كانت "المحاكاة الاستحواذية" تفرق ما بين الناس إذا أدت إلى تنافس شخصين أو أكثر على نفس الشيء بهدف الاستحواذ عليه، إلا أن "المحاكاة التصادمية" ستوحد عن طريق توافق شخصين أو أكثر على معادة نفس العدو الذي يرغب الكل في القضاء عليه.
المهم، كما يقول جيرار أن الضحية ـ كبش الفداء (surrogate, scapegoat, bouc eacute;missaire) هو مظلوم وبريء، لأنه عادة لم يرتكب أيَّ ذنبٍ، أو على الأقل لم يرتكب ذنبا يختلف عما يقترفه الآخرون؛ ذلك لأن جريمة كباش الفداء هي، بالأحرى، مجرد امتلاكهم لخصائص تجعلهم ـ خاصة في نظر الغوغاء الانتهازيين ـ مختلفين عن الآخرين. أي أن اختيار كبش الفداء دائما يتسند إلى علامات اختلاف ملامحية أو ثقافية يسهل التعرف والتركيز عليها، وخاصة في لحظات فقدان التوجه المجتمعي.
وغالبا ما تتحول أقلية عرقية أو ثقافية أو مجتمعية إلى كبش فداء عن طريق إلصاق نواقص مزعومة بها، تكون مهمتها توكيد الاستقطاب الموجه ضد أفراد تلك الأقلية مما يؤدي بالتالي إلى مزيد من التوكيد "لاستحقاقهم" في أن يكونوا مضطهدين. فمثلا يتم تهميش أقلية ما، ثم اتهامها بأنها تعيش على هامش المجتمع، وبالتالي تستحق الاضطهاد!
ويؤكد جيرار على الطبيعة التعسفية لاختيار كبش الفداء، إذ أن الضحية يتم اختيارها فقط لأنها "سهلة الاستهداف" (vulnerable) وقريبة يسهل ممارسة العنف ضدها. ويقول أن هذه الطبيعة التعسفية هي، في المعتاد، مخفية عن وعي وأعين من يقومون بها. بمعنى آخر فإن كبش الفداء لا يُنظر إليه كضحية "بريئة" في أعين مضطهديه. وهذا ضروري لكي يمكن لعملية التضحية بالبديل (sacrificial substitution) أن تعطي تأثرت مفيدة مجتمعيا. بل تصل الدرجة إلى أن يُنظر إلى كبش الفداء باعتبار أنه هو الذي يستفز الآخرين (بمجرد وجوده!) أو يضطهدهم!
لكن آلية التضحية بكبش الفداء ليست جزءا من "عقد اجتماعي" واضح، دخلته مكونات المجتمع عن قصد وبهدف الحفاظ على التماسك الاجتماعي. بل إن الآلية تتطلب، لكي تنجح في مهمتها، عدم إدراك ما يجري وإنكار حدوثه أو حتى إمكانية حدوثه! وهكذا فإن شكاوي الأقلية التي تصبح كبش الفداء باضطهادها تقابل بالإنكار والغضب والسخرية (راجع مقولات مثل "أسعد أقلية في العالم"...) والاتهامات العكسية.
ويلفت جيرار النظر إلى أهمية أن يكون العنف جماعيا بواسطة مرتكبيه بحيث لا يمكن اتهام أو لوم شخص محدد بارتكاب شيء ضد الضحية. فالكل مشتركون في الفعل ولديهم نفس الأدوار المتبادلة ـ باستثناء كبش الفداء بالطبع.
ويمكن أن تأتي الضحية من خارج الجماعة بشرط أن تكون قادرة على الاندماج فيها؛ أو من داخل الجماعة ولكن يتم تهميشها؛ أو تأتي من هوامش الجماعة (لا من الداخل ولا من الخارج).
في تضحيات قبائل الدنكا، لا يؤخذ الحيوان مباشرة لعملية التضحية، بل يجب عزله عن القطيع ويمر عبر فترة يعطى فيها إيواء بالقرب من الجماعة وتتلى عليه التلاوات الدينية لتقريبه أكثر من الجماعة التي سيقوم بالتضحية بالنيابة عنها. واليهود الألمان كانوا في نفس الوقت داخل الجماعة الوطنية الألمانية وأيضا على هامشها (بسبب خصوصيتهم الثقافية والدينية) تحولوا، على يد النازيين، إلى كبش فداء.
***
المقدس
يرى جيرار، مثل دوركهايم (الأنثروبولوجي الفرنسي من أوائل القرن العشرين)، أن "المقدس" هو التمثيل الموازي للتكوين المجتمعي. إي إنه ليس شيئا مضافا للمجتمع بعد أن يتشكل وينمو، بل ينشأ معه؛ وهو عنصر أساسي في المجتمع والنظام الاجتماعي (social order).
ويقدم جيرار فرضية أن آلية التضحية بكبش الفداء، التي يقع العنف في القلب منها، هي نفسها روح وقلب "المقدس" (sacred). فالمقدس ينشأ لأن البشر دائما يتصورون أن عنفهم الذاتي هو كيان مستقل عنهم، ويصبح "المقدس" دليلا للفرد على كون (المقدس) يتجاوزه ويتسامى عليه. ولكنه يسيء تقديم هذا التسامي، عن طريق إرجاع الأمر لشيء ما، خارج المجتمع. بينما الشيء الحقيقي الذي "يتسامى" فوق النظام الثقافي والاجتماعي، ليس هو سوى آلية كبش الفداء. بمعنى آخر فإن "المقدس" يتسامى بالصدام المحاكاتي عن طريق تصوير العنف الذي يغمر العلاقات البينية والشخصية، وما ينتج عنه من البحث عن واتهام كبش فداء، وكأنه ليس إلا تعبيرا عن غضب الآلهة.
فالمقدس، إذن، هو "مجموع الفرضيات الإنسانية" المتوقعة نتيجة للتواطؤ الجمعي للمجتمع. العنف ـ وتفعيل هذا العنف والتعامل معه ـ هو عماد وقوام هذه الفرضيات التي تشكل "المقدس". آلية كبش الفداء تتغلغل في كل الطقوس والأساطير؛ بل إنها تقع في قلب الغيبيات ومحاولات تشكيل العالم.
في المجتمعات التي تتمتع بنظام ثقافي (cultural order) مستقر نسبيا، فإن الأمر الذي يعطل حركة مسلسل العدوانية والعنف (المتبادل) هو، ببساطة، "الثقافة": تلك السلطات والطبقات المتراتبة، ذات الشرعية (المزعومة)، التي تنظم العلاقات، وتوجه العنف نحو القنوات "المناسبة"، وتعوض عن التجاوزات عبر وسائل عقابية مناسبة.
وبالمناسبة، فقد قام جيرار بأبحاث نظرية ـ ليس هذا مجال التعرض لها ـ حول معنى الثقافة وجذورها عبر التاريخ الإنساني، وخلص إلى استنتاج مهم وشيق بأنه في عملية انتقال الإنسان من البداءة إلى التحضر فالثقافة هي عملية تَمأسُس (institutionalization) للحلول التي تواجه بها الجماعةُ مشاكلَها، وليست الحلولَ نفسَها.
***

تقوم آلية التضحية بكبش الفداء بتشكيل وتكييف مؤسسات اجتماعية حيوية ثلاث: الطقوس والشعائر، والمحظور (المحرمات ـ التابو)، والأساطير (والأديان).
يقول جيرار أن دور الطقوس هو تجديد أو استعادة التأثيرات النفسية العلاجية (therapeutic) لعملية التعبئة الأصلية المصاحبة لآلية التضحية بكبش الفداء البريء، وذلك عن طريق إيجاد قنوات تتسم بالتقديس لممارسة العنف. أي إن الطقوس تعمل على تجديد التوحد الخلاصي الذي يوفره العنف الأصلي العفوي ضد كبش الفداء، وذلك عن طريق إعادة تمثيله بصورة انتقائية.
وكبش الفداء، الذي يتم اختياره بحسب علامات صغرى (كالاختلاف في لون البشرة، أو عاهة طفيفة، إلخ)، يصير قربانًا، تقوم الجماعة بتكرار إعدامه ـ شعائريًّا هذه المرة ـ كلما ظهر عنفُ المحاكاة من جديد.
آلية التضحية بكبش الفداء لا تلغي العنف، بل تحتفظ بالرغبة في الانتقام عن طريق خدعة تنفيسها على ضحية لن يتسبب قتلُها (أو اضطهادُها) في أي انتقام عكسي. وهذا هو السبب وراء الشعور التطهيري المرتبط بطقوس الأضحية المتكررة بصورة دورية.
أما المحظورات (المحرمات ـ التابو) فمهمتها أن تمنع، أو توجه (canalize)، العنف عن طريق استبعاد علامات المحاكاة المرتبطة به.
وتبدو الطقوس دائما وكأنها تعكس أو تقلب المحظورات، التي تشكل دوما العناصر الأكثر معيارية (normative) للثقافة.
أما بخصوص الأساطير، فالأصل، عند جيرار، أنه في كل ثقافة توجد جريمة قتل مؤسِّسة تحصر عنف المحاكاة في اتجاه معين، وتصبح الأساطير صدى لها. فالأسطورة، بهذا المعنى، تعكس حدثا واقعيا، وليست مجرد نسيج محبوك من الحكايات الخرافية. والجريمة الأصلية، يتم حصرها في "اللاوعي" وحجبُها بعناية، ولا يفكر الفرد في اتهام نفسه بارتكابها بما أنها تخص الجميع ومن شأنها أن تولد نتائج طيبة. إذ إن المحاكاة الصدامية ليست لها عواقب خطيرة: بل هي التي تسمح بذلك، عبر "تصعيد" (sublimation) تبادلي.
في المجتمعات الحديثة يقوم القضاء الذي يعلو فوق الأطراف المتصارعة بوقف دائرة تبادل العنف عن طريق تفكيك التناظر والتشابه بين الصراعات. ولكن بنفس الدرجة إذا لم يكن القضاء متوافرا ـ أو لم يعد له الاحترام الكافي أو فقد قدرته على العدالة ـ فإن الطبيعة التكرارية المحاكاتية للعنف ترجع للظهور مرة أخرى.
***
وإلى المقال القادم لكي نرى تطبيق جيرار لنظرياته على بعض الأديان.

adel.guindy@gmail.com

مراجع:
- Violence and the Sacred, Reneacute; Girard, Continuum.
- Celui par qui le scandale arrive, Reneacute; Girard, Descleacute;e de Brouwer.
- Je vois Satan tombeacute; comme lrsquo;eacute;clair, Reneacute; Girard, Grasset.
- Key Contemporary Thinkers: Girard, Chris Fleming, Polity.
ـ مقال "جذور العنف"، أحمد تموز، معابر، مارس 2006


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف