نادية: نهاية زمن الرومانسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
1
كان موتُ سعاد حسني، فيما يخصّ المشاهير، أولى إنتحارات القرن الجديد، الواحد والعشرين؛ القرن الذي شهدَ بعد ذلك بأشهر ثلاثة، أولى حروبه: هجمات 11 سبتمبر. ثمة مفارقة جديرة بالإنتباه، وهيَ أنّ الحدثيْن قد وقعا في عاصمة غربية، (لندن وواشنطن / نيويورك)؛ وبغض النظر طبعاً عن دوافع كل منهما. كذلك يستوقفنا هنا، أنّ كلا الحدثيْن كان على الأهمية ذاتها، ولو مجازاً، بالنسبة لعالمه الخاص: فلم يسبق لموت فنان أبداً، أن هزّ وسطنا ثقافياً وإجتماعياً، كما كانه أمر إنتحار " سندريلا الشاشة ". وغنيّ عن التأكيد، من الجهة الاخرى، أنّ هجمات " القاعدة "، الإنتحارية، قد قسمت تاريخ عالمنا الإسلاميّ، (وربما العالم بأسره)، إلى مفصليْن راسخيْن: قبل الحادي عشر من سبتمبر وبعده. وكما وقعَ إنتحارُ مارلين مونرو، عام 1963، كالنازلة الدهماء على الوسط السينمائي الغربي؛ كان الأمر مشابهاً، في عام 2001، بخصوص وسطنا السينمائي مع إنتحار سعاد حسني. أربعة عقود من الأعوام تقريباً، فصلتْ بين رحيل الممثلتيْن، الفاجع هنا وهناك. كان إتفاقاً محضاً، بالتأكيد، أن يقع في حسبان الزمن نفسه حادثُ إنتحار، شخصيّ، جنباً لجنب مع حرب ذات صفة عامة: موت الممثلة الأمريكية، الذي وافق أزمة " خليج الخنازير " الكوبية، التي كادت تسبب حرباً عالمية؛ وموت الممثلة المصرية، المبتده أولى حروب قرننا الحالي، في هجمات " القاعدة ". هذا الحدث الأخير، كان مقدراً له أن يغطي تماماً على موت ممثلتنا؛ حدّ أنه ما عاد أحدٌ ليذكرها، حتى حلول ذكراها الخامسة في عامنا الحالي.
2
حينما إندفعت السندريلا الجميلة، اليائسة، نحوَ شرفة الموت تلك، اللندنية؛ ربما برقَ في ذاكرتها لحظتئذٍ لمعة ٌ من المشهد المؤثر لخاتمة فيلمها الشهير، " نادية ": كانت بطلته هذه، إثرَ صدمتها بلقاء الحبيب ومعرفته إياها، قد هرولتْ بكل إحباطها ويأسها وعذابها، نحوَ المنحدر، الشاهق ـ المتركن في قاعدة جبل " الألب " ـ لتقذف بنفسها في أعماقه المهلكة. إلا أنّ يداً منقذة، أوقفتْ قفزة الموت تلك؛ وكانت يدُ الحبيب بالذات. بالمقابل، فما قدّر لسعاد حسني الإنسانة، في لحظاتها الأخيرة، الموصوفة، من يدٍ منقذة، حبيبة. هكذا رحلَ زمنٌ برمته، مع رحيل فنانتنا الفذة. إنه زمن الرومانسية، المتجسّد في فيلم " نادية "، وربما أكثر منه في أيّ من الأفلام الاخرى التي مرّتْ على شاشتنا الكبيرة. قد لا يكون هذا الفيلم بالضرورة، أفضل ما قدمته سعاد حسني، عبْرَ مشوارها الفني، الطويل. بيْدَ أنه كان، على كل حال، الفيلم المقدّر له أن يستهلّ زمن السينما، الرومانسيّ، وأن يُنبي في آن ـ ويا للمفارقة ! ـ بنهاية الممثلة التي تقمّصت شخصية بطلته. هذه الأخيرة، وعلى الرغم من أنها في الفيلم، في ريعان شبابها، إلا أنّ عقدتها النفسية المتأثرة بتشوه رقبتها إثر حادث طاريْ؛ لا يمكن إلا أن تذكرنا هنا، بتشويه الزمن للبشرة، والمحدثة جرحاً كبيراً في نفسية فنانة جميلة كسعاد حسني، التي كانت وقتئذٍ على أبواب خريف العمر. ولو أننا نسارع إلى التشديد، بأن ذلك الأمر ما كان السبب المباشر، المودي إلى إنتحار فنانتنا.
3
توافرَ في فيلم " نادية "، المُنتج في ستينات القرن الماضي، كلّ الشروط المطلوبة لما وسمناها بـ " سينما الزمن الرومانسي "؛ في تصنيفها العربيّ، على الأقل. القصة، تتناولُ حياة أسرة من الطبقة المتوسطة، وجدتْ نفسها على حافة حضيض الحاجَة، إثرَ موت مُعيلها المباغت. كانت الأم إمرأة فرنسية، مثقفة، لم ترَ من مكان لها ـ ولإبنتيها الشابتين، التوأم ـ في مجتمع مصر، الغريب، بعد وفاة رجلها. سعاد حسني، تمثل في الفيلم دوراً مزدوجاً؛ فهي " نادية "، الفتاة الرصينة، الحالمة، وهيَ كذلكَ توأمها الخفيفة الظلّ، المرحة. هذه الأخيرة، ترتبط بعلاقة عاطفية، ناجحة، مع ضابط طيار. أما " نادية "، فنراها مُسدلة ً على حبّها لأحد الأطباء، حجاباً كثيفاً ـ كغطاء رأسها، المنذور لإخفاء ذلك التشوّه في الرقبة. زمن القصة، كان متأرجحاً في منتصف الخمسينيات، الشاهدة على العدوان الثلاثي على مصر؛ والذي فجأ الأسرة حينما كانت حاطة للتوّ في مستقرها الفرنسيّ، الواقع على أعتاب جبل " الألب ". إنه " زمن الرومانسية "، إذاً: المردد صدى أزمة السويس، التي هزتْ وجدان الجماهير بين المحيط والخليج؛ والمفتتحة سلسلة الإنقلابات العسكرية، العروبية. وليسَ إتفاقاً، برأيي، أن يكون كل من كاتب قصة الفيلم (الأديب يوسف السباعي)، وبطله الأول (النجم أحمد مظهر)، من ضباط الثورة الناصرية، السابقين. لا غروَ، والحالة هكذا، أن يُظهرَ الفيلم، عبْر حكاية حبّ أو أكثر، العلاقة المتواشجة، المُحْدَثة، بين الطبقة المتوسطة، الراقية، وبين أولئك العسكر، القادمين من الريف الفقير، المتخلف. وكان العدوان الثلاثي، بحسب القصة، هوَ المُقدّر له أنْ يُرسّخ المصالحة بين تلك الطبقتين المتناقضتين: تموت شقيقة " نادية " التوأم، في اللحظة التي كان فيها خطيبها، الضابط، على وشك التحرك لمواجهة العدو، ومن ثمّ الإستشهاد في المعركة. ويكون على الطبيب الجراح بدوره، أن يهمل مراسلته لـ " نادية " وهوَ في غمرة تفرغه لتقديم المساعدة الطبية، الضرورية، لجرحى القوات المسلحة. هذا الأخير، كان له زميلٌ في المشفى، حيث يعمل (قام بتمثيل الدوْرَ، الفنان عبد المنعم إبراهيم): إنه الصديق المتعهد أسرار البطل، والمكلف بنصحه وتقديم العون اللازم له؛ خصوصاً في الأمور العاطفية. هذا الصديق (المُشترط فيه خفة الظل والولع بالتفكه والمقالب)، لا مكان في الفيلم لعواطفه الخاصة أو مونولوجه الداخليّ؛ إنه " ظلّ " وحسب للبطل، وكما عودتنا عليه الأفلام المنتمية لزمن الرومانسية؛ سواءً بسواء أكانت من الغرب أم الشرق.
4
فيلمُ " نادية "، بمعنىً ما، مجازيّ، هوَ حكاية حجاب. إنّ بطلتنا هنا، قد تفرغتْ مباشرة بعد الحادثة المؤلمة التي أصابتها بحروق، إلى إستنباط حيلةٍ لإخفاء ذلك التشوه في رقبتها: لم تجدَ سوى غطاء الرأس (إيشارب) حلاً للمعضلة. كان مسلكها الحياتيّ، اليوميّ، محكوماً بهذه العقدة العميقة، المُكتنفة باطنها. لم تأنسَ بأيّ من الرجال، الذين هاموا بها؛ وكان كلّ منهم يُجزى بالصدّ من لدنها. وحده الطبيب ذاكَ، من عشقته بطلتنا بعمق ولهفة؛ ولكن عن بعد. إنه بحدود الكهولة ـ وربما كانت تستعيدُ به شخص الأب الحبيب، الراحل. إنه أيضاً ـ على سبيل فرضيتنا نفسها ـ وبصفة تخصصه كجراح، كان قد أضحى أملاً ما بالنسبة لها؛ هيَ المبتلية بعقدة التشوّه.. ؟ بيْدَ أننا سنلتقط إشارة مهمة، من إحدى مفاصل الفيلم، المعبّرة. إذ إحتارتْ " نادية " ذات مرة من موقف محرج، سببه لها الحبيب الطبيب، الموجود في الوطن، برغبته حيازة صورة شخصية لها. بعد تفكير، لم تجد حلاً سوى صورة شقيقتها تلك، كيلا يتعرّف الرجل على عاهتها هيَ: هذه الإشارة، تفصحُ بلا أيّ مواربة عن وضع المجتمع المصري (والعربي عموماً)، في ذلك الزمن؛ بحيث أنه كان من الشاذ، فعلاً، مرأى صورة شخصية لفتاة شابة وعلى رأسها غطاءٌ ـ إيشارباً كان أم حجاباً أم بعبعاً ! وفيلم " نادية "، من ناحية اخرى، من الممكن أن يُقدّم للناقد إشارات اخرى، تحيل إلى شخصية بطلته؛ سعاد حسني. ثمة كلام كثير، عن حياة فنانتنا هذه، سارَ في جنازتها مع مداد الصحف وألوان الفضائيات، على السواء. سنرمي جانباً، تلك الخزعبلة، المشينة، التي ساقها بعضُ ذوي العاهات الأصولية، عما أسميَ في حينه " حكاية حجاب سعاد حسني " !.. إننا هنا على أيّ حال، بصدد حديث أجدى. فنحن في مقام مقارنتنا حياة السندريلا الجميلة، مع فيلمها الرومانسيّ، الخالد ؛ " نادية ". ونقولُ بعد كل شيء، أنّ مبتدأ حياة فنانتنا هذه، كان ثمة في تلك العائلة الكبيرة، التي نشأت فيها وربطتها بها إلى النهاية أوثق عرى العاطفة. بيْدَ أننا هنا، نسارع إلى التأكيد بأنه لا يمكن لأحد الجزم اليقين، بمدى التفاهم الذي كان سائداً في عائلة السندريلا الجميلة؛ وخاصة علاقتها بأبيها.
5
لو تسنى لكَ، عزيزي القاريء، حيازة مجلد عتيق، حائل الملمح، وثمة تحت عنوانه توقيع صغير بإسم " البابا "؛ فإحتفظ بالكتاب فوراً، بما أنكَ واحد من الملايين المتعشقين لفن سعاد حسني: لأنّ هذا التوقيع، المُسْتدَق، هو كنية فنانتكَ بالذات، الحقيقية: كان محمد حسني البابا، أحد أشهر خطاطي زمنه. ولكن النجاح، بمعناه الماديّ أساساً، كان خصماً عنيداً لهذا الرجل الفنان، الدمشقي المولد. ولم يغيّر الحال ذاكَ، ما كان من إغتراب فناننا وهجرته إلى القاهرة، في بدايات القرن الفائت، سعياً لوضع محتمل معيشياً: وفي بدايات هذا القرن، كان على الإبنة الحسناء، سعاد (التي إستعارتْ إسمَ الأب " حسني "، كنية ً لها)، أن تواجه المصيرَ ذاته. إنه المصيرُ التراجيديّ ـ الأشبه بمسرحيات الإغريقي اسخيلوس ـ المنذورة له حياة العائلة بأسرها؛ والذي كان بدوره قدراً محتوماً على " شوام مصر "، عموماً. وعودة اخرى، إلى فيلم " نادية "، لنرى تلك الثنائية الرائعة، التي أبدعت سعاد حسني في تقديمها؛ بتقمصها لدور البطلة وشقيقتها التوأم: لكأنما كانت هيَ ـ وربما بلا وعي ـ تجسّد دورها الحقيقيّ في الحياة.. ألم تكن " سندريلا الشاشة "، بظرفها وخفة ظلها وشيطنتها وبهلوانياتها وحركاتها الآسرة وحسن صوتها، الطفوليّ ؟ وبالمقابل، ألم تك إنسانة متوحّدة، كئيبة، شبه منغلقة على حياتها الخاصة؛ لم ترتح خارج الأستديو إلا للبسطاء من المبدعين ـ كفنان الكاريكاتور والشاعر، صلاح جاهين ؟ ألم تكن، حتى خواتيم حياتها الحافلة، صديقة للبائسين المضطهَدين ـ كما في علاقتها الوثيقة مع عائلات كردية عراقية، في لندن (أنظر ملحق صحيفة " الشرق الأوسط "، بمناسبة وفاة سعاد حسني عام 2001)..؟ وكانت هذه الفنانة، بعد كل شيء، في عزّ تفتح زهرة عبقريتها، حينما هوَتْ في ذلك المساء اللندنيّ، الجهم، إلى هاوية الأبدية؛ وكما لو أنّ أجنحة ملائكية، ناصعة، قد طارتْ بها نحوَ سموات الخلود. ولكننا الآن، لسنا في الزمن الرومانسيّ: إننا في " زمن القتلة " ـ على حدّ القول الشعريّ، المدمّر، للطفل أرثور رامبو. غيرَ أنه، إبعاداً لأيّ إلتباس، نستدركُ بالقول أنّ سعاد حسني ماتت إنتحاراً، بحسب التقرير الطبيّ الجازم.. إنها في الآن نفسه، وفوق كل شيء، ضحية َ مجرم، فاقد الضمير: ضحية ً للبيروقراطية المتغلغلة ـ كدودٍ نتن، في الخشب المنخور للكرسيّ الحاكم بأمره؛ هذه الفئة، الضاربة فساداً في عرض مصر وطولها. كانت فنانتنا ضحية ً، أيضاً، للمفاهيم المتخلفة والمهترئة ـ كأسمال بالية ـ المتغلغلة بدورها في كل مناحي الحياة؛ وخصوصاً الثقافية والإجتماعية، في أكبر دولنا العربية تلك. لا غروَ إذاً، أن تنتحرَ فنانة بحجم سندريلا الشاشة: العجب حقاً، أن تحتملَ إنسانة رقيقة، رهيفة المشاعر مثلها، كل تلك الإهانات، الخسيسة اللئيمة، المصاحبة لأيامها الأخيرة. أكانت سعاد حسني مؤمنة، أم لم تك؛ ليست هذه هيَ المشكلة: فالمؤمن، أيضاً، ينتحرُ يا بعضَ دعاة الدين الحنيف.. ينتحرُ ثمة، في بغداد وغزة وكابول.. كما في نيويورك وواشنطن ولندن وبالي ومدريد والرباط وعمّان وجدّة.. ينتحر المؤمنُ، تفجيراً بنفسه وغيره، نتيجة لدعوات التحريم والتكفير، التي تبثونها أنتم في رأسه..